د. جميل حمداوي - السرقــــات الأدبيـــة والفكريــــة..

السرقة الأدبية والفكرية ظاهرة إنسانية قديمة:
ليست السرقة الأدبية والفكرية ظاهرة حديثة، بل عرفها الإنسان القديم في مختلف الحضارات والمدنيات. فقد كانت عند البعض ظاهرة طبيعية في التعامل مع الأفكار الأدبية وغير الأدبية من باب التقليد والمحاكاة والتكرار والاجترار، فالمقدمات الطللية والغزلية والخمرية في القصائد الجاهلية دليل قاطع على ظاهرة التكرار والاجترار ومحاكاة الشعراء لبعضهم البعض، وقد صدق الشاعر الجاهلي كعب بن زهير حينما قال :
ما أَرانا نَقولُ إِلآ رَجيعاً = وَمُعاداً مِن قَولِنا مَكرورا
في حين، يرى البعض الآخر أن السرقة ظاهرة ثقافية وإبداعية مشينة، تتميز بتعدي الغير أو الآخر على حقوق الإنسان المبدع أو المفكر.
وهكذا، فقد تناول النقد العربي القديم قضية السرقات الشعرية ، فاعتبرها صفة سلبية وعيبا مشينا ينقص من قيمة الشاعر أو المبدع، وقلما نجد كتابا نقديا في ثقافتنا العربية القديمة يخلو من قضية السرقات الشعرية والنثرية، إذ وجدناها مبحثا أو بابا نقديا مهما عند جل النقاد، من بينهم: ابن سلام الجمحي، وابن قتيبة، والآمدي، وأبو بكر الباقلاني، والصولي، وعبد القاهر الجرجاني، والقاضي الجرجاني، والحاتمي، وابن وكيع التنيسي، وابن الأثير، والمرزباني، وأبو هلال العسكري، وابن رشيق القيرواني... بل قسم النقاد السرقة الشعرية أقساما عدة إما حسب سهولتها وخطورتها، وإما حسب غموضها وجلائها، وإما حسب مضمونها وشكلها.
بيد أن النقد المعاصر قد تنبه بعد ظهور الشكلانية الروسية والشعرية البنيوية وترجمة آراء ميخائيل باختين إلى أن جل هذه السرقات الأدبية والفكرية لم تكن في جوهرها إلا تناصا أو توارد الأفكار والخواطر أكثر مما هي سرقات حقيقية. بمعنى أن هذه التضمينات أو ما يسمى بالسرقات قديما هي أساس الإبداع والتجديد والحداثة والتميز، فهي تعبر عن مدى تمكن المبدع من نصوص الآخرين استحضارا وامتصاصا وحوارا.أي: لقد أصبح التناص ظاهرة إيجابية في أدبنا المعاصر من خلاله نحكم على المبدع هل هو مثقف أم غير مثقف؟!!لأن الإبداع قبل كل شيء متعة وفائدة .
أما اليوم ، فيمكن التمييز بين السرقات والتناص والبحث العلمي، فما هو خاضع للتوثيق والإحالة والاستشهاد الموضوعي الدقيق يدرج ضمن البحث العلمي الجاد والرصين، وما ينقل حرفيا بدون توثيق أو إحالة على المصادر والمراجع والإشارة إلى صاحب الكلام فهو سرقة واضحة. وأكثر من هذا تكون السرقة جلية حينما ينقل الشخص كلام الآخر حرفيا بلا تصرف أو تحوير أو تغيير. وتكون السرقة مضمرة وخفية حينما يعمد الناقل إلى التصرف في أفكار الغير دون تمثل الأمانة العلمية في النقل. وما يوظف في الشعر بصفة خاصة، والإبداع والفكر بصفة عامة، من اقتباسات واعية وغير واعية، فهي تعبر عن مدى ثقافة المبدع وسعة معرفته الخلفية ، ويدخل كل ذلك ضمن التناص أو التوظيف الإيجابي للمنقول.

أسباب انتشار السرقة الأدبية في الأوساط التعليمية:
لقد انتشرت السرقات الأدبية والفكرية مع ظهور الإنترنيت، فتهافت المتهافتون على المقالات الرقمية لسرقتها جزئيا أو كليا بغية الاستفادة من أفكار الآخرين، والاشتغال بها أوعليها، سواء أكان ذلك من قبل التلاميذ والطلبة أم من قبل المدرسين والأساتذة الباحثين. ومن ثم، أصبحت السرقة ظاهرة عامة لا يمكن التحكم فيها إلا إذا أنب الضمير صاحبه.
ومن الأسباب الأخرى التي تدفع هؤلاء إلى السرقة الكسل والخمول والفشل وحب الظهور من جهة، والعجز عن الكتابة وتوليد الأفكار من جهة أخرى. وأكثر من هذا يجد هؤلاء كل شيء موجودا بين أيديهم، فينقلون المقال بحذافيره دون تغيير أوتحوير أو تصرف، فتختلط النسبة بين المبدع الحقيقي والمبدع المزيف. واليوم، صارت السرقة الأدبية والفكرية ظاهرة عادية وطبيعية ومشروعة مع وجود أبواب الإنترنيت مشرعة على مصراعيها ، حيث يلتجئ إليها الأستاذ والطالب والتلميذ على حد سواء.

سرقـــة أم اجتهـــــاد؟
تعرضت شخصيا للاتهام بالسرقة من قبل أحد الكتاب السعوديين، وهو خالد اليوسف الذي اتهمني بسرقة كتابه (معجم الإبداع الأدبي في المملكة العربية السعودية (الرواية)، وتضمين أجزاء منه في مقالي (الرواية العربية السعودية من خلال رؤية مغربية.. قراءة ببليومترية)، وهو أمر رددت عليه وبتفصيل في الصحافة السعودية.
ومن المعلوم أنني كتبت مجموعة من الببليوغرافيات الأدبية في أدبنا العربي حول الرواية وأدب الأطفال والقصة القصيرة جدا والسيميولوجيا، وأكثر من هذا فقد أنجزت ببليوغرافيا حول الأدب الكويتي، و نشرت فصلا منه تحت عنوان (ببليوغرافيا الرواية بالكويت) في مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية (العدد137 /2010م). وقمت بالشيء نفسه مع الرواية والقصة القصيرة جدا بالمملكة العربية السعودية معتمدا على قراءة جديدة، وفي ضوء معطيات كمية متداركة مزيدة ومنقحة، وقلت يومذاك" الجديد الذي يطرحه هذا المشروع الببليومتري أنه يتجاوز الدراسة الببليوغرافية التي أنجزها الباحث السعودي خالد اليوسف تحت عنوان: (الرواية في المملكة العربي السعودية حتى أكتوبر2006م)، والمنشورة في العدد الأول من المجلد الثالث عشر ضمن مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية بالمملكة العربية السعودية في سنة 1428هــ، ويتجاوز كذلك الدراسة الببليومترية التي قام بها كل من الدكتور حسن حجاب الحازمي وخالد أحمد اليوسف تحت عنوان (معجم الإبداع الأدبي في المملكة العربية السعودية- الرواية-) (2008م) ، ودراسة الدكتور سحمي الهاجري التي هي بعنوان (جدلية المتن والتشكيل/الطفرة الرواية السعودية) .
ومن ثم، فالجديد - هنا - هو الانتقال من الجرد الكمي إلى التفسير، ومناقشة مجموعة من الظواهر الأدبية البارزة التي تطرحها الببليوغرافيا الروائية، ثم اتباع منهجية جديدة في الجمع الببليوغرافي قائمة على الاستقراء والاستنتاج، ثم استكمال عملية الإحصاء إلى سنة 2010م بدلا من التوقف عند سنة 2006م كما عند خالد اليوسف وسحمي الهاجري، أو عند سنة 2008م كما لدى حسن حجاب الحازمي وخالد اليوسف في دراسته الثانية. "
بيد أن صديقنا خالد اليوسف يرفض بإلحاح أن يشاركه أي باحث من خارج السعودية، كأن عملية التوثيق والأرشفة مقتصرة على الباحثين السعوديين فقط؛ وهو لايدري أني أمتلك في خزانتي ترسانة من النصوص الروائية السعودية والخليجية التي لاتعد ولا تحصى، بل أكثر من هذا فقد نافسته أيضا في وضع ببليوغرافية في القصة القصيرة جدا بالسعودية، فاتهمني كذلك بالتهمة نفسها غير مميز بين السرقة والبحث العلمي. وحينما كتبت أول كتاب حول القصة القصيرة جدا بالسعودية، واخترت حسن علي البطران نموذجا، فلم يقل خالد اليوسف شيئا؛ لأنه يعرف أن هذه الدراسة كانت الأولى من نوعها بالسعودية. وينضاف إلى هذا أني كتبت العديد من الأبحاث حول الأدب السعودي في ضوء مناهج حداثية، سواء أكانت سيميائية أم شعرية أم بلاغية، وهي منشورة في مجلة (الراوي)، ومجلة (الجوبة)، وكتاب(الأدب في مواجهة الإرهاب)...
وهكذا، يتهم المشارقة المغاربة كثيرا بالسرقة ظلما وزورا وبهتانا؛ لأنهم لا يقبلون بأن يخوض الآخرون في المواضيع التي ترتبط بهم بيئة وفكرا وإبداعا تطبيقا للمقولة الشائعة" أهل مكة أدرى بشعابها" أو " بضاعتنا ردت إلينا". في حين، يتميز المغاربة بامتلاكهم للأدوات النقدية الناجعة في مقاربة النصوص الأدبية بناء ودلالة ومقصدية، وسعيهم الدائم والحثيث لتمثل الحداثة بحقولها المعرفية والفلسفية والنظرية والتطبيقية، والبحث الدائم والمستمر عن الجديد في الساحة الثقافية الغربية والعربية على حد سواء. وينضاف إلى ذلك أن المغاربة هم الذين يحملون الآن مشعل التنوير والتجديد والتجريب والتحول في عالمنا العربي بلا منازع، وكذلك هم الذين يتحملون على عاتقهم مسؤولية دراسة الفكر والأدب العربي شرقا وغربا في ضوء المعطيات المنهجية الجديدة، والدليل على ذلك ما تلفظه المجلات العربية من مقالات ودراسات ومؤلفات لباحثين مغاربة متميزين بحداثتهم الجادة ، مثل: نزوى، والمجلة العربية، والفيصل، والمنهل، والجوبة، والعربي، والكويت، ومجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، ومجلة البحرين، وعلامات، والثقافة، والراوي، والفيصل الأدبية، وشعر، وإبداع، والكرمل، وعالم الفكر، والجسرة، والدوحة، ومجلة العلوم الإنسانية، وجريدة فنون، وعشتروت، والكلمة، والثقافة، والمسرح...
تركيب واستنتاج:
وخلاصة القول، ستزداد ظاهرة السرقة الأدبية والفكرية في المستقبل انتشارا واسعا في أوساط التلاميذ والطلبة والأساتذة والباحثين والدارسين مع تطور وسائل الإعلام الرقمي المعاصر، وبالضبط مع تطور المدونات والمواقع العنقودية التي قدمت للقارئ الإلكتروني كل شيء على طبق من ذهب، فسهلت عليه البحث والتنقيب والجمع واستكشاف المعلومات والمعطيات التي يحتاج إليها. بيد أن هناك من يحسن التعامل مع هذه المعلومات بمراعاة الأمانة العلمية في النقل والاستشهاد والتوثيق. وهناك من يسيء التعامل معها على مستوى البحث العلمي ، فينقل أفكار الآخرين وإبداعاتهم، دون أن يكلف نفسه عناء البحث والاجتهاد والدراسة. ومن ثم، لا يعنى إطلاقا بعملية التوثيق واحترام ملكية الآخرين، ومراعاة حقوقهم الفكرية والإبداعية.


د. جميل حمداوي



..............
هوامش
1- هناك من ينسب البيت إلى عنترة بن شداد، والأصح هو بيت للشاعر الجاهلي كعب بن زهير بن أبي سلمى.
2- الدكتور حسن حجاب الحازمي وخالد أحمد اليوسف : معجم الإبداع الأدبي في المملكة العربية السعودية (الرواية) ، منشورات نادي الباحة الأدبي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى سنة 2008م.
3- الدكتور سحمي الهاجري: جدلية المتن والتشكيل/الطفرة الرواية السعودية، النادي الأدبي بحائل، الطبعة الأولى سنة 2009م، عدد صفحاتها:480 صفحة.
4 - انظر كتابي المخطوط: مدخـــل إلى الأدب السعودي المعاصر (مقاربة ببليو- سيميوطيقية وميكروسردية).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى