محمد شمخ - وَقْـــــــع.. قصَّة قصيرة

كنت أمشي في شارع ( النقراشي)، في طريق عودتى إلى منزلي، الواقع عند المصباح الحكومي في حارة "علي السَّقا". أدفع ساقيّ دفعا، وأقاوم دغدغة النوم التي تسري في جسدي.
كان ميلي للنعاس شديدا. وكان الشارع خاليا.
الدكاكين والورش والمعارض ومتاجر الأدوات النسائية والكماليات والمقهى والكبابجي يوحي منظرها جميعا، بأنها أغلقت منذ وقت طويل. وأغراني خلوْ الشارع وهدوءه النادر بالتثاؤب، وأن ألوي فَـكِّي عن آخره وأُضمه، كما لو كنت أبتلع قطعة حلوى.
في تلك اللحظة - ولا أدري لماذا تلك اللحظة بالذات- شعرتُ أني لستُ بمفردي. وبخلاف بضع قطط وفئران عند أكوام القمامة، هناك مَن يمشي في الشارع غيري.
خجلتُ من صوت تثاؤبي. أسرعتُ مشيتي، دون أن أحاول الالتفات رغم رغبتي في ذلك.
السكون طغى على ( النقراشي)، عدا بعض الموؤات والخرفشات، ويتمدد الأسفلت متعرجا لامعا، ومن فوقه الأضواء تختنق ببعضها.
كان حذائي يصدر صوتا خفيفا من عند نعله الذي جددته حديثا. وفي كل خطوة أسمع وقعاً يأتي من خلفي:
- وقع أقدام ؟
- وقع أقدام
- من الخلف؟
- من الخلف
تردَّدتُ.. لكني واصلتُ السير.
حاولتُ اختلاس نظرة إلى الخلف. رأيت قِطًّا يَحُـك ظهره بالحائط، ويرفع ذيله إلى أعلى. جاءت عيناه في عيني، تجمد متحفزا، وأحسستُ أن نظرته تثقب وجهي.
بسملتُ، وأعدتُ وجهي إلى الأمام. يزداد وقع الأقدام من خلفي قليلا، ويقترب. استبطأت خطْوتي. ودُستُ على أطراف حذائي، حتى حسبتُ أني أسير إلى الخلف. انتظرتُ - كعادتي لما أنتظر الأيام تمر، المائع منها أو المر - انتظرتُ أحداً يمر.
لكن وقع الأقدام من خلفي تلاشى شيئا فشيئا، حتى توقف.
شعرتُ بمعدتي تضطرب، وبرهبة تخض صدري. استعذتُ. واستجمعتُ كل بأسي، ولويتُ عنقي في حركة سريعة إلى الشارع من خلفي. فرّت فئران من أكوام القمامة، وقوّس القطُّ ظَهره.
كررتُ التفاتتي إلى الخلف، وحددتُ عيني في الزوايا والأركان. تابعتْ الفئران فِرارها والقط شخر، ولم أر أحداً يظهر في الشارع غيري:
- من أين ياتي هذا الوَقع؟
- من هنا، أكيد..
- من يكون ؟
- ربما أحد أهالي الشارع؟
- ربما.. ولكن لماذا لايظهر نَفسه؟ أو ظِله على الأقل؟
- من قبيل المداعبة.. ؟!
- أو يعرفني ؟! وأية مداعبة هذه التي توقف القلب ..؟!
- أحد الضالين ؟
- هل يوحي منظري بشيء يستحق منه مطاردتي؟!
- يكون...؟
- .........
- يكون..؟
- ....
ظلَّلت التساؤلات في رأسي تشعلل كالنار، والعرق يخرج من جلدي ساخنا لزجا. فكرتُ في قراءة (آية الكرسي)، لكن أولها اختلط بآخرها. رفعتُ يدي واعتصرتُ أنفي بقوة. تمنيتُ أن أجري، بينما ساقيَّ لاتقويان حتى على الوقوف.
سمعتُ وقع الأقدام يعود من جديد. حاولتُ التشاغل عنه بأن أعد أعمدة الكهرباء التي أمر بها. الفكرة راقت لي، بعد عمود واحد سئمتها، بل وتخيلتُ كل عمود يرمي بسلاسل صفراء يكبلني بها، ثم يجذبني إلى المصباح ويتركني، فأسقط في سواد الأسفلت، ليتسلمني عمود آخر.
كنت اقتربتُ من حارة ضيقة، تؤدي إلى سوق الخضار. ولمّا حاذيتها لمحتُ سيارة زرقاء واقفة بها، وفي غمقة زجاجها أحسستُ بعيون ووجوه داكنة، تنظر إلي، تتابعني بقوة:
- يتابعون؟
- يتابعون..
- والأقدام؟
- لأحدِهم..
- أحدُهم .؟.
- ربما..
- مطاردة..؟
- لم لا.. ؟!
- اقترفتُ شيئا؟
- ماهو.. ؟!
- تأخرت..؟
- قابلني صديق لم أره منذ زمن طويل.. وطال الحديث بيننا، وخجلتُ أن أقاطعه..
- وماذا لمّا تأخرت ؟
- اشتباه ؟
- ربما..
- ربما ؟!.. ما وجه الاشتباه في رجل مثلي..؟!.. لايعشق مثلما يعشق (الفيشار)، ورائحة البن المحمّص..؟! عيناه من التومباك تدمعان، ومن عيون القطط يرتعب..؟! يشعر في الأماكن العليا وأمام صفحة الحوادث بدوار.. ؟! يقرأ اللافتات المضيئة بصوت مرتفع، وليس في صدره سوى أوراقه وقصار السور.. ؟!
رغم ألمي الشديد من مسمار في نعل حذائي، ينغز باطن قدمي، ظلَّلت أمشي بخطوات سريعة واسعة، وكنت أحس أن آلافا من العيون تتوزع في الجدران وأبواب الدكاكين ومداخل البيوت والنوافذ المواربة والمغلقة، وتتابع ما يحدث.
وحين ظهر المصباح الحكومي، القريب من منزلي، رغبتُ في الجري.
توقعتُ أن يلحق وقع الأقدام بي.
اقتربتُ واقتربتُ.. ثم لم أستطع أن أمنع نفسي قفزات سريعة متشنجة فوق درجات المدخل.
ولا أذكر هل كان الباب مفتوحاً.. ؟
أم موارباً ..؟
أم مغلقاً..؟
لا أذكر سوى أنني أغلقته بقوة، وألصقتُ ظهري به. شعرتُ بدبابيس حارة تنغز فيه، وبأنفاسي تضرب صعودا وهبوطا في الهواء الراكد من حولي، ووقع الأقدام يقترب من الباب.
انحنيتُ.. جحظتُ في ثقب الباب، مرة تلو الأخرى، والوَقع يقترب قوياً كأنه يأتي من مكبر للصوت. يدوّي في المكان. يهّز الجدران والأرائك والصور المعلقة.
وفجأة توقف.
سكنتْ كل الأشياء. خيّم صمت ثقيل، فَـرِكَ عروقي واحداً واحداًـ وأنا أمطُ سَمعي إلى كل ما حولي في الداخل والخارج.

محمد شمخ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة " مساحة بلون الشمس"
  • Like
التفاعلات: أحمد رابع أبو فراس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى