عبد القدوس التجكاني - عاد إلي شرفي.. قصة قصيرة ( مستوحاة من قصيدة المومس العمياء لبدر شاكر السياب)

كانت سليمة شابة جميلة تعيش راغدة مع أبيها الشيخ في بيت وسط حقل صغير ينتج له بعض الخضر والفواكه ينال ببيعها كريم القوت . ذات يوم في غبش الإصباح طرق باب دارهم خفير قائد المنطقة، فتح الشيخ الباب وقبل أن ينبس ببنت شفة تحدث إليه أحدهم بغلظة
هناك أمر بطردك من الحقل لأن القائد يملك أوراقا تثبت أن هذه الأرض ملك لأحد الأعيان.
أجاب الشيخ بصوت مبحوح:

- ماذا تقول يا ولدي؟ هذه أرضي ورثتها عن والدي والجميع يعلم ذلك.-

فجأة التحق بالخفير قائدهم وهو يحمل مخطوطا في يده مخاطبا الشيخ وابنته :

- إن الأرض لغيركما وصاحبها سيعوضكما بمبلغ مقابل تركها. -

رفض الشيخ مقترحه متهما إياه بزيف حجته مصرا على ملكيته للأرض وبطلان الادعاء ، استشاط القائد غضبا بعدما تحداه الشيخ في سابقة لم تحدث بالقرية لأنه كان مهاب الجانب يخشى بطشه دراويش البلدة ،أمرهم بسحبه خارجا، ففعلوا دون رحمة ؛ولج البيت مختليا بسليمة النادبة أباها المظلوم بصراخ زادت حدته بعد أن تهجم عليها مستبيحا جسدها،قاومت المسكينة بشدة لكن دون طائل،في غضون ذلك كان الأب يلفظ أنفاسه الأخيرة حسرة، غادر القائد المكان مسرعا بعد أن أخمد شبقه تاركا سليمة في غيبوبة لم تستفق منها الا بعد أن هرع سكان القرية إليهما بعد فوات الأوان، استندت إلى عكاز والدها لتترجل وهي خائرة القوى من أجل تفقده، لمحت جمهرة الناس خارج الحقل يحوقلون لمآله، توغلت وسطهم ثم ارتمت على جثته تلثمه محاولة إيقاظه وعويلها يملأ المكان. فقد أدركت أن أباها مات قهرا.

ادلهمت الدنيا في ناظري سليمة بعد أن فقدت أغلى ما تملك-شرفها و أباها- بسب جور القائد، لم يسعفها البكاء ولا مواساة من رق لحالها في تناسي مصيبتها ، فهاجرت القرية نحو المدينة حيث يخبئ لها القدر حياة أشد مرارة، توجهت إلى أحد الفنادق الشعبية وسط المدينة علها تجد غرفة متواضعة بقدر ما كانت تملك من دراهم وفرتها أيام الرخاء، سألت صاحب الفندق بنبرة محزونة :
- أريد غرفة للمبيت؟
أجابها صاحب الفندق
- كم ليلة ستقضين هنا؟
ردت وهي تتلعثم بعد أن تذكرت أن دراهمها لن تكفيها الا أياما معدودات:
- لا أدري، سأحجز بعض الأيام إلى أن أبحث عن عمل و غرفة فوق السطوح للكراء
تمتم الرجل وهو يشير برأسه لامرأة سمينة في خمسينات عمرها تمسك بسيجارة في بهو النزل، لتتقدم صوب سليمة متحدثة بصوت جهوري:
- يبدو أنك متشردة أيتها الجميلة --وهي تتفحص خصلات من شعرها الحريري الاسود متفرسة قوامها المثير وردفيها الممتلئين-، اسمي الشعيبية، ولقد رثيت لحالك يا صغيرتي، سأساعدك في تدبر أمورك لتجدي دخلا تعيشين به،تعالي معي.
وافقت سليمة بسذاجة شاكرة إياها صنيعها وعقلها الباطن يقول:مازال هناك طيبون في هذا العالم.
رافقتها إلى غرفتها حيث ستتفاجأ بقهقات نسوة يتواجدن هناك، دخلت عليهن ممسكة حزمة ملابسها تحدجهم بنظرة المذعور المتعجب من أشكالهن، رحبن بها على طريقتهن وهن يستهزئن:
--عصفورة جديدة يا معلمة،هنيئا لك.
تقاطعهن الشعيبية وهي تأخذ بيد سليمة نحو ركن من الغرفة لتستطلع أمرها
ما قصتك يا جميلة؟ما الذي جاء بك إلى هنا؟
دمعت مقلتا سليمة ساردة قصتها على الشعيبية التي لم تمنعها نيتها اللئيمة من ذرف دموع الشفقة وهي تقول في قرار نفسها:
إنها ضحية أخرى لظلم استشرى في هذا البلد.
مالبثت إنسانيتها تعطف عليها، حتى خضعت لسلطة واقعها المرير مكفكفة عبراتها:
-أتريدين النوم الآن أم ترافقينني إلى مكان تنسين به أوجاعك؟
-لا رغبة لي في النوم فقد جافاني.
تبسمت ابتسامة خبث ثم قدمت لها فستانا قصيرا سرعان ما ارتدته لتضع لها طلاء على وجهها وأحمر شفاه بدت به فاتنة، ثم اصطحبتها إلى حانة قريبة، حيث ستشرئب أعناق السكارى لترنو إلى هذا الجديد الذي جاءت به ( المعلمة)، خطت سليمة خطوات وسط الحانة وهي تسرح بعينيها في فضاء غريب تعالت فيه الأصوات وترامت فيه زجاجات الخمر،تقدمتا إلى طاولة مخصصة لهما، ليتطاول عليهما ثمل من رعاع المدينة، لفظته الشعيبية بسرعة وهي تردد:
لا حاجة لنا بمثل هؤلاء إنهم رموز البؤس.
قصد النادل مجلسهما حاملا معتقة سكب منها كأسين، تناولت الشعيبية أحدهماا ثم ناولت الثاني لسليمة التي لم تقاوم طويلا رفضها ، لترتشفه فتسافر إلى عالم آخر كانت ترسمه لها نديمتها بريشة وردية. انضم إليهما رجل ببذلة أنيقة وربطة عنق، رحبت به الشعيبية ترحاب الفرسان وهي تعرفه لضيفتها:
-إنه مسؤول كبير بالبلدية --تغمز لها-


طلب المسؤول أفخم الخمور وعيناه تلتهم جسم سليمة بشهوته محاولا استدراجها إلى ضالته ، تفرست ملامحه ولمعت في مخيلتها صورة القائد، فجأة تجهمت قسماتها فأرغت وأزبدت في وجهه.
فر المسؤول تفاديا لإحراج أكبر والشعيبية تهدئ من روعها إلى أن جاء صديق لها نحيف الجسد يرتدي معطفا أسود وسراويل دجينز ، على رأسه قبعة ( بيرية) متأبطا كتابا وجريدة.
استقبلته بلباقة:
أهلا بشاعرنا ومثقفنا كيف أنت؟

لقد سمعت أنك اعتقلت في مظاهرة هذه الأيام.

- نعم اعتقلني بوليس هذه الدولة الغاشمة ونحن نطالب بالعدالة الاجتماعية لابد من نشر فكرمتنور لنحارب الاستبداد، لا حل إلا بتبني الفكر الشيوعي.
ابتسمت سليمة لكلام الشاعر الشيوعي رغم جهلها بإديولوجيته ولكنها تفاعلت مع خطابه الرنان انطلاقا من قصتها ثم سألته:
ما معنى الشيوعية؟لقد أحسست أنك تدافع عن الفقراء والمظلومين ضد الاستبداديين؟.
بادلها بسمة بلمسة شاعرية ثم حدثها:
عينان حوراوان و أنوثة فتانة تسأل عن الشيوعية.
استرسل في كلامه ، تارة يشرح توجهه الفكري، وتارة يتغزل بها، إلى رافقته لتفعيل شيوعيته في منظر تساوى فيه المسؤول المستبد بالمناضل الثوري أمام سلطة النزوة.
خرجا من الحانة و عند الباب لمحت شرطيا واقفا عند الباب فسألته:
-من هذا؟
إنه الشرطي تضعه الدولة ليحرس مرتادي الحانة لأنها تساعدهم على تغييب العقول عن واقعها.

بدأت سليمة تبيع جسدها مقابل دراهم استأجرت بها غرفة اتخذتها مبغى بعد أن ذاع صيتها لما لها من مؤهلات احترفت في تطويرها لاستقطاب زبنائها، تكررت زيارات سليمة إلى الحانة بشكل روتيني حتى صار طريقها محفوظا يتعقبه معجبوها .

ذات ليلة استوقفها أربعيني بلحية طويلة وعباءة قصيرة بين سبابته وإبهامه سبحة،ا مانحا طرفه الأرض:

- السلام عليكم يا فتاة.
-ردت عليه السلام.
'-يا فتاة،إلى متى ستعيشين في ضلالك و فسادك أما آن وقت التوبة؟
استحيت من كلامه وقالت:
- مكرهة إنما هي ظروفي ، ادع لي بالتوبة.
-حانت والله .

تفاجأت لكلامه فاستفهمت:
- وكيف؟
أتزوجك بالفاتحة وترافقينني فتتوبين.
ولم الفاتحة؟ أليس هناك عقد وشهود و إشهار، هل أنت متزوج؟
-أجابها :مثنى وثلاث ورباع.
انصرفت عنه وهي تتعجب لواقعها؟ أي بلد أي وطن؟ نظلم ونغتصب؟ وأمام الجسد تنصهر كل الإديولوجيات والمبادئ، واصلت مسيرها صوب الحانة وعند اقترابها اعترض سبيلها مراهق بمدية، صرخت تطلب النجدة دون مجيب ،هرولت إلى الحانة مذعورة وهي تسأل:
-أين الشرطي الذي اعتاد الوقوف هنا؟
فأخبروها أنه انتحر أمس بعد أن اكتشف أن زوجته تخونه في ليالي عمله.....
مر عشرون عاما خط الدهر فيها تجاعيد على وجه سليمة،أعياها شظف العيش وأضنتها حياة الليل فأصابها داء السكري الذي لم يكن رحيما ببصرها، ووري جسدها الفتان في رمس الزمن، لم يتبق منها إلا جسد مترهل زهد عنه الزبائن باستثناء أولئك الذين بلغ منهم الشبق مبلغا لا يميزون فيه بين بصير أو عمياء، احتفظت بمبغاها الذي كانت تنيره بزيت قنديل لم تجد ثمنه يوما فتوجهت إلى حانتها علها تجد زبونا قديما يرأف بحالها، شاءت الصدفة تواجد الشاعر الشيوعي هناك بعد غيبة طويلة حيث رمقها تتوسل كرم السكارى، سأل رفيقا قديما له عنها:
- من هذه؟
إنها سليمة صارت عمياء وتنادى الآن *صباح* ألم تذكرها؟
عاد بذاكرته عشرين عاما فتذكرها:
نعم إنها سليمة مازلت أتذكر لقد تعرفتها اول ماجاءت وكنت اول زبون ...
طلب منه مرافقته إلى خارج الحانة ليتعقبا أثرها.
اقتربا من بيتها، أرسل الشاعر طرفه صوب مسكنها ثم تعجب:

صارت عمياء فلم تضيء سكنها مادام صباحها ظلاما؟ ليستنير به ما تبقى من زبناء؟
تتسول من أجل تأدية ثمن زيت القنديل الذي تنعم الدولة ببيع خيراته ، فقدت بصرها وسميت *صباح؟؟؟*.

وبينما هو غارق في تساؤلاته عن تناقضات الوطن ،سمع صوتا، يهمهم، تلفت يمنة فوجد * صباح*، دنا منها وأمسك بيدها خوفا عليها من عثرات الطريق، حياها:
-أهلا سليمة كيف أنت؟
ردت تحيته ثم قالت:
-من أنت صوتك ليس بغريب؟
-ياه!تذكرت صوتي بعد ردح من الزمن، أنا ذلك الشاعر الشيوعي الذي تعرفك أول ما جئت إلى المدينة.
-كيف لا أتذكرك؟ وأنت أول زبون استلطفته بكلامه المعسول، مازالت كلماتك الثورية عالقة في ذهني، تأثرت بها حينئذ،أحسست بأنك هدية قدر ستعوضني عن مصيبتي، لكن تحطمت آمالي على صخرة نزوتك، كنت استبداديا معي نلت وطرك وغبت عني، لم جئت إلي الآن؟ ماعادت عيناي حوراوين، لقد ذبلتا، ولا أنوثتي فتانة ،أجئت لتنشلني إذا عثرت في مطبات الطريق بعد أن تحول حور عيني عمى؟ليتك نشلتني من مطبات الليل...
تملك الندم الشاعر وبرقت في عينيه دمعات ندم على نزوة ضربت مبادئه عرض الحائط وهو يتخلى عنها وسط ذئاب الحياة. ربت على كتفها ثم قال:
-حقا أخطأت في حقك، لكني لن أكرر الخطأ مرتين.
سألته:
ماذا ستفعل:؟
-أنا الآن مقيم في العاصمة، وأتزعم نقابة عمالية تدافع عن ضعفاء الوطن والفلاحين، سأصطحبك معي إلى هناك حيث سأجد لك عملا شريفا وسكنا، وستصبحين عضوا في نقابتنا .
اقنعها بكلامه فركبت معه القطار المتوجه إلى العاصمة و هي تمني نفسها في عيش ما تبقى من عمرها كريمة شريفة، أثناء السفر لم تتوقف عن توجيه الأسئلة للشاعر، فمرة تسأله عن حياته و أحيانا تسأله عن النضال و جدواه في نيل حقوق الشعب والقضاء على المستبدين، لم يرهقه كثرة أسئلتها بل راقه حب استطلاعها وإعجابها بأفكاره الثورية لتنساب أجوبته انسيابا... وصلا العاصمة ظهرا، نزلا القطار وأمسك بيدها متوجهين إلى مقهى شعبي ، فجأة سمعت سليمة أصوات متظاهرين في مسيرة يرددون شعارات نضالية، تبسمت ثم استفسرته:
- من هؤلاء الذين يصرخون؟ اسمع إنهم يقولون فليسقط الاستبداد.
رد عليها:
إنهم كادحو الوطن من عمال وفلاحين و مثقفين، يقفون أمام مجلس ممثلي الشعب للاحتجاج على أوضاع البلاد.
-وما مجلس ممثلي الشعب؟ ولماذا يقفون أمامه ؟
-ممثلو الشعب هم أشخاص تم انتخابهم من قبل سذج البلاد لخدمتهم وتمثيلهم، لكنهم خيبوا آمالهم وعاثوا في البلد فسادا،لم يفيدوا إلا أنفسهم بعدما نهبوا ثروة الوطن...
ـتأثرت سليمة بكلامه، فثارت غضبا و صرخت مع المتظاهرين:
يسقط يسقط الاستبداد
انفرجت أسارير الشاعر ثم خاطبها
-أنت أشرف من ألف مسؤول، لقد أخطأت حين لم استقدمك منذ عشرين عاما، لقد فرطت في مناضلة شوساء.
انبعثت ذكرياتها الأليمة من رمادها وهي تقول:
-كرامتي طمسها مسؤول، قتل أبي وحكم علي بموت بطيء في غياهب حياة فاسدة رغما عني. سأناضل مع كل مظلوم سأشارك في المظاهرات، أرجوك جد لي مهمة في النقابة.
مرت الأيام وسليمة تتشبع بأفكار الثوريين، صارت تحضر اجتماعاتهم فكلفوها بتوزيع المناشير بين المقاهي و منحوها مقر النقابة سكنا.
توالت اجتماعات النقابيين وتوسعت قاعدة المناضلين بعدما انضم إليهم عدد من كفاءات البلد كان من بينهم طبيب عيون،أدرك أن موزعة المناشير عمياء، استفسر عن حالها فأخبروه أنها فقدت بصرها بسبب داء السكري، دعاها إلى عيادته ثم فحصها ليجري لها عملية جراحية، مكنتها من رؤية عالمها مجددا.
فرحت سليمة وهي تبصر النور من جديد بعد ظلام دامس تخبطت فيه طويلا، نعم لقد أبصرت نور حياة جديدة.
كان القدر رحيما بها بعد أن نكلت بسعادتها ظروفها القاسية، عادت إليها بصيرتها ثم بصرها، صارت من كوادر المناضلين تتصدر الاحتجاجات و ترفع الشعارات التنديدية في كل محطة نضالية....
ذات صباح خرج سكان العاصمة في انتفاضة شعبية ضد محافظها الذي همش المدينة تهميشا انعدمت به فرص العيش الكريم، اغتصب خيراتهم و طرد موظفين من عملهم........

دخلت سليمة على وجه السرعة إلى مقر النقابة وهي تصيح:
-انتفاضة الشعب لقد خرجوا نحو مقر سكن المحافظ.
وقف الشاعر من مكانه يصرخ:
- حانت نهايته،إنه اليوم الموعود،لقد نجحت تعبئتنا،هيا إلى ساحة الاحتجاج.
انضما إلى المحتجين متصدرين ، ارتفعت الشعارات وأصبحت أكثر قوة تطالب برحيل المحافظ المتعنت الذي اضطر إلى النزول للساحة مخاطبا المحتشدين حول مقره.
وقف على مقربة من سليمة والشاعر، يفصله عنهما بعض الحرس ثم قال:
- ماذا تريدون ؟ ستتحسن الأوضاع .
كان وقع صوته على سليمة قويا، حملقت في ملامحه وعادت بذاكرتها إلى الماضي، ثم تمتمت:
لا يعقل: إنه الصوت نفسه والملامح لم تته عني رغم أن الشيخوخة عبثت بها، لا يعقل!!
قاطعها الشاعر:
- أتعرفينه؟ لقد كان قائد منطقة قروية ورقي إلى رتبة محافظ قبل عشرة أعوام.
لعلع صوتها كرصاص طائش وهي تبكي:
- إنه هو ، إنه القائد الذي دمر حياتي!
تفاجأ الشاعر:
يالتفاهة المنطق؟ رقي بعدما آذى بطغيانه ضحاياه
ثم هتف:
- ارحل يا ظالم .
تبعته سليمة بالهتاف ومن بعدها المحتجون.
صاح المحافظ:
- لن أرحل سأتمسك بمنصبي.
استفز كلامه المحتشدين، فزاد غضبهم واحتجاجهم حتى أطاحوا به...

فرحت سليمة ثم صاحت : عاد إلي شرفي....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى