أحمد رابع أبو فراس - إيلان كردي

انه الوطن.... الارض الثكلى . ارضَك انت .. ارضك التى لم يندمل نزيفها .. لقد اصبحت بقايا من خراب . فالطائرات تلبد سماءها ، والاحلام فيها تصلب فوق أعلى تلة من حديد ، وارواح الشعب تتأرجح على حافة الموت ، والدوي يطارد افواج الحمام ، وجثث القتل العبثي تقبع تحت الانقاض .
هي لعنة الدكتاتورية التي اسكرت ارضك بالدماء واجبرت الكثيرين على الرحيل من الوطن الام .. هم الان تائهون في الاصقاع .. في تخوم المدن المحاطة بالاسلاك الشائكة بحثاً عن حياةً مزعومة . واخرين إحتضنهم قاع البحر بعد ان ضاقت به مساحات الكون الشاسعة .
انت هنا في هذا الوطن الجريح والملئ بالانين والتمزقات . وطن مفتوح الشرايين ، ومصاب بمرض ناعور . ارض يحكمها عبدة الشر الذين يقودون قطار الوطن صوب مستنقع الموت . انهم لا يستحقون البتة الانتماء إلى كيان البشرية الذي يشنون عليه حرباً ضارية.
منذ ميلادك وانت تعيش في هذا المحيط الذي ضيع مبرارات وجوده ، تعيش وسط أسرة صغيرة تضم ابويين واخاً يكبرك سناً . هي عائلة ارهقها الضنك والعذاب ، وذاقت كل ألوان الشقاء . انها تبحث عن مكان يضمن لها البقاء . انها خائفة من رعشة الفقد والموت العبثي . فالبقاء في الوطن ما هو إلا حماقة والرحيل منه هي الحماقة الاكبر فالوطن مصاب بجرح عميق . انه في حالة من الامنيزيا لذلك يغتالون كل من يسكنه . لا يفرق بين ابنائه واعدائه . كم هو مؤلم ان يرفض الوطن إنتماءك له و تصبح أُبوته لك قيد النكران .
عائلتك يمر عليها وقت عصيب فحياتها مجموعة من الكوابيس الحمراء . هي لا تقل معاناة عن شعب الروهغينا الذي إغتاله الوطن وعاش كل حياتها طريداً باحثاً عن هويته الجغرافية .
عائلتك تبحث عن ملجأ آمن . تريد ان ترحل من هذه الارض ليس حباً في الرحيل وانما دكتاتور الارض هو من نفاها إلى دهاليز مجهولة مليئة بالتعرجات ويصعب عليك ان تستدل دروبها .
وهكذا ذات ليل سوادي وهالك ترتفع فيه اصوات تلاطم الامواج الهائجة . تستعد عائلتك للفرار من ارض المحن
فالليل انسب الاوقات للفرار من ويلات الوطن.
تستغلون قارباً صغيراً لعبور المقبرة الملعونة .قارباً انهكته إرتحالات الفاريين من ويلات الحرب . قارب صغيراً جدا . انه الوصفة المثالية للموت .
ها انت تركب البحر ولا تعرف اين هي وجهتك ، ولا تعلم ما يقبع وراء هذا البحر . تبدو كرحلة إستكشافية .
في هذه اللحظات القارب غامر بالخوف . انه محمل بالبؤساء اكثر مما هو مخصص له . الجميع في حالة ترقب . لا صوت سوى تمزقات الامواج المتأتية من مكان قريب .
وانت إبن الثلاثة ربيعاً تستحضر الوطن في المخيلة "انكسارته ، فواجعه ، الشعب الذى يحتضر ، الاطفال الذين شابوا قبل الاوان " كأنك تريد ان ترسم في المخيلة تلك الارض التي قضيت فيها طفولتك وتلوح بيدك وتقول متى اراك من جديد يا وطني .
فجأة.. يهتز القارب بفعل الامواج . يقذف قائد القارب إلى البحر ويعود ادراجه خوفا من المقبرة الملعونة .
يتركك وكل البؤساء في عراء البحر . ولا شئ يِرى غير الخوف .
وانت مع مجموعة من المنسيين تائهين في عراء البحر ويتأرجح بكم قارب الموت على حافة الهلاك كسِكِير في نذوة الثمالة.
اباك وجد نفسه مضطرا علي ان يكون ادميرال القارب . يجدف بهدوء وحذر في محاولة بائسة لمنع القارب من الغرق. ان الاباء عليهم ان يفعلو كل ما في وسعهم من اجل حماية ابناءهم . انه منطق الحياة .
وامك هي الاخرى تخفيك بين زراعيها ... تخفيك في حضنها الدافئ حتى لا ترى الرعب وهو ينتشر على إمتداد البصر . ان الامومة هي الملاذ الوحيد الذى يشعرنا بالامان .
بغتة... يهتز القارب كهزة تشانتي . فترتفع الصرخات . صرخات تضاهي صرخات ركاب سفينة التيتانيك التى سرعان ما إبتلعها البحر الجائع .
اصبح الادميرال حائراً . فالامواج تهز القارب بكل ما أوتيت من قوة .
فينقلب القارب ، والامواج تبتلع الجميع . الادميرال يصارع الامواج لكي ينقذ احداً من البؤساء . لم يفلح الادميرال فيجن جنونه ويصرح ملء رئيته . في ذلك الوقت الجميع كان يفلظ انفاسه الاخيرة .
اما انت لقد اصبحت اعزل وحيد تجوب قاع البحر في انتظار معجزة تنتشلك من رحلة الفناء، فتقذفك الامواج إلى الشاطئ وانت نائما نوم الخلود
  • Like
التفاعلات: نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى