ناصر الجاسم - أترجّة خلود.. قصة قصيرة

الصباح الأول في الحسا، ورائحة الخبز تملأ النفق الأول فيها انتهاءَ شارعِ الظهران للقادم من الدمام، تتسرب الرائحة كعطر صباحي خاص للجوعى من المخابز العلوية الحديثة الكائنة فوق الجسر، وتلامس أنوف السائقين والراكبين وهم يعبرون النفق فوق سياراتهم، وعين الحويرّات تضخّ للسماء بخار الماء على شكل غيمات متجاورات تصعد للأعلى بهدوء جميل، وباعة البطيخ الأحمر شقّوا بطيخات حمراوات ناضجات إلى نصفين شقّاً حسناً، وعلقوا الفاكهة المشبعة بالماء والسكر فوق أحواض سياراتهم لتغازل أبصار السائقين في سياراتهم وهم يعبرون الطريق الحلزوني المؤقت، وتضطرهم للتوقف والترجل لأجل الشراء.

وباعة الرمان اليمني يصفّون الرمانات في أوعية سوداء كالزنابيل بشكل هرمي أخّاذ يأخذ بالألباب، وباعة جَذَبِ النخيل لا يكفّون عن تقشير الجذب بأدواتهم وهم وقوف وينظرون للأسفل، وبائع الشتلات الباكستاني بلباسه البنجابي الواسع واقف عند سيارته القديمة (الوانيت) الحمراء يشرب الحليب، مما استدعى الأب أن يقول لعائلته وهو يقود سيارته: “باكستاني مجرم، لا يهلل ولا يكبر يبيع أشجار الترنج في الحسا؟! لقد قلّ مذاق التمر في الحسا بعد أن لامسته أيدي الهندوس والبنغالية ويريدون أن يضيعوا مذاق الترنج أيضًا؟!”، ونظر نظرة في النخيل الناميةِ أشجارُه بكثافة عن يساره ومن خلفه استدارت عنقه معها وقال ملمحًا لانتهاء موسم الصرام: “النخل أربعة أشهر جريح وأربعة أشهر نضيح وأربعة أشهر تستريح “..

أغرت الشتلاتُ الخضراءُ المتجاورات المنتظرة بفرح استقبال شعاع الشمس خلودًا، وهي معروضة فوق الباب الخلفي لحوض سيارة الوانيت، وتريد ألا يغير الباكستاني مكانها، لتظل فارّة من جحيم ظل الشراع الأبيض الثقيل الجاثم فوق باقي شتلات اللوز والليمون والنبق والورد والصبار والشمام الصيني والتين الحساوي..

جذبت شتلات الأترج بخضرة أوراقها الداكنة عيني خلود الجالسة في المقعد الخلفي والمرتدية بناطيل ثلاثة خوفاً من موجة برد قادمة أعلنت عنها الأخبار المحلية، وصرفتها عن تأمل أشجار الياسمين الهندي التي تنمو ببطء في الجزيرة الصناعية على امتداد طريق الظهران بجانب الحشائش الخضراء وأشجار النخيل، وأوقفت إصبعها الذي يتحرك في فراع المقعد الخلفي راسماً هذه الشتلات قبل أن ترحل اللوحة الفنية لكراسة الرسم الخاصة بها: “أبوي.. أبوي!.. الله يطول بعمرك.. اشتر لي أول وحدة على اليمين”.. وأشارت إليها بإصبعها وهي تودّ الترجل والنزول من السيارة لولا خشية البرد يلفحها بلفحة تجعلها طريحة الفراش زمناً طويلاً..

نقد الأب الثمن وهو ثلاثين ريالاً للباكستاني الجشع، وسلّم الفسيلة لابنته خلود التي أجلستْها بفرح فوق حجرها، وراحت تتشمم أوراقها ورقة ورقةً بجذل، وتتلمس جذعها ببنانات أصابعها بحب كبير وكأنها طفلة لها، وقال الأب محذراً لبقية أبنائه: “لا أحد يؤذي ترنجة خلود”..

في مساء من مساءات الهفوف جلست خلود بخصر أخذ كثيرًا من جمال رسم حرف الياء، وبلون أسمر فاتن يحرك شهوات الذكور ويجري شعرَ المواويل على ألسنتهم، ويعلمهم عزف آلة العود، وبنهدين يشدّان عيون الرجال من محاجرها شدّاً بتكورهما الجميل، جلست تغرس شجرة الأترج في نخلهم بعين مرجان، توارت أولاً تحت غصون وأوراق شجرة السدر العتيقة، وتوضأت بماء زمزم، فلما انتهت حملتْ الفسيلة فوق راحتي يديها وهي تتلو عليها: “أفرأيتم ما تحرثون ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون”، “فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً” ونظرت لاتجاه الشمس، فاختارت المكان وقالت: “بسم الله” وحفرتْ ثم غرستْ فسيلتها وسقتْها بماء زمزم حتى ارتوتْ واستودعتها الله وغادرت النخل إلى بيتها وهي تشعر أنها تركت في النخل جزءاً منها.. وفي الطريق إلى بيتها كان الشوق للأترجة يعصف بها، ويعيق تنامي خطوها، ويكثر من تلفّتها للوراء، ولكن ظلام الهفوف قد أسدل على الكائنات، ولا سبيل لرؤيتها مرة ثانية إلا في صباح الغد..

تكاثف الليل قطعًا بعضُها فوق بعض، ونادى خلوداً سريرُها، وشاركه النداءَ دميتُها التي نسجتها بيديها، فاستسلمت لنوم عميق قبل أن تتم قراءة وردها الليلي. استيقظت من نومها مبتسمة مطمئنة والارتياح يملأ نفسها..

وبينما هي في لجّة سرورها، كان أبوها والفلاح المصري حسنين المتعهد برعاية النخل واقفين عند أترجة خلود غير مصدقين نموها السريع وزيارة العصافير والبلابل لها في يومها الأول في النخل..

قصدت خلود سوق القيصرية، واشترت من عند العطارين قناني دهن العود والمسك الأبيض وأعواد الصندل المجلوبة من المدينة المنورة، والتي كان الهنود الهندوس يحرقون موتاهم بها حتى يتحولوا لرماد يُجمع ويُرمى في النهر أو من فوق الجبال، واتجهتْ إلى عين مرجان قاصدة نخل أبيها وزيارة أترجتها، ولم تنس أن تحمل معها فرشاة ناعمة، ولمّا وصلتْ النخل طلبت من أبيها ومن الفلاح حسنين أن يخلو النخل لها وحدها..

غادر الاثنان النخل، وأسرعت خلود لأترجتها، فلما رأتها من مكان بعيد وهي مقبلة عليها لاحظت نموها الحسن، وقرأت بصوت عالٍ: “ولولا إذ دخلت جنّتك قلت ما شاء الله” ثم رمت عباءتها فوق سيقان البرسيم الطويلة، فخشيت أن تكسّرها، فانتزعتها من فوقها وعلقتها برفق وبرفقة برقعها فوق أغصان السدرة، وعندما اقتربت من شجرتها، قامت باحتضانها بشوق حقيقي، وقبّلتها في أكثر من مكان على جسدها، على ساقها رصفت أكثر من قبلة، وكذلك فعلت مع أغصانها وأوراقها الخضراء الكثيرة، ولم تخفْ أن يؤذي التقبيل بشرة شفتيها الرقيقة، أو يجرحها، ثم أخذتِ الفرشاة وبدأت تطيّب ساق الأترجة الطويل المتين بدهن العود، تدهنه من أوله حتى آخره، وتغادره إلى الأغصان وتدهنها بالمسك الأبيض غصنًا تلو غصن حتى تتمها كلها، وتختم بالأوراق ورقة تلو ورقة، ورقة تعطرها بدهن العود، وورقة تعطرها بالمسك الأبيض دون كلل أو ملل، والعطران يزيدان خلودًا نشاطا ويرفدانها برغبة غير عادية في العمل..

ولما أيقنت أن أترجتها نال كلُّ شيء فيها نصيبَه من العطر السائل، أحضرت المبخر من مخزن النخل، وصفّتْ فيه الفحمات السود، وكسرت فوقها أعواد الصندل الفاخرة وأشعلت فيها النار، آنذاك تطاير وارتفع البخور الأزرق من تحت الأترجة ليتخللها كلها مبتدئاً بساقها ومنتهيا بأغصانها وأوراقها كلها، ولم تكتفِ خلود بذلك، بل أخذت المبخر من فوق الأرض عند أسفل الساق وراحت تدور به حول الأترجة وتردد: “لا إله إلا الله، اللهم صل وسلم على محمد، لا إله إلا الله، اللهم صل وسلم على محمد”..

وبينما هي تهلل وتصلي لاحظت أن غصنًا تبرعم للتو أمام عينيها، فأشفقت عليه من برد الليل، فما كان منها إلا أن تخلع بنطالها الثالث الذي ارتدته من خشية البرد وتلفّ به الغصن الطري الناعم كيلا يتأذى ببرد الهفوف..

وبعدما لاعبت دميتها في سريرها، ألقمتها نهدها الأسمر المكوّر وكأنها ترضعها رضعة ما قبل النوم، احتضنت الدمية وألصقتها بقوة إلى صدرها وهي تتلو وردها حتى غابت في مجاهيل نوم لذيذ، ورأت أن رجالا نورانيين بيض يعرجون من السماء إلى الأرض، ويقفون عند حواف سريرها، ويقرأونها السلام رجلا بعد رجل، ثم يقولون لها بصوت واحد: “نحن خدّام أترجتك، لا تخافي عليها ولا تحزني”

كانت الرؤيا تراها خلود وهي نائمة، والحصرة تعبث بنوم حسنين في سريره بالمزرعة، فتوقظه من نومه ليفرغ بوله الكثير فيستثقل الذهاب للحمام البعيد بسبب برد الليل المتنامي في المزرعة، فيقرر التبول عند أترجه خلود القريبة من مكان نومه، وصل عند الأترجة والحصرة تؤلمه، ويكاد صمّام الأمان ينفلت وينجّس ثيابه الداخلية، فخلع سرواله وأقعى، ولم يدرِ إلا ورفسة قوية تأتيه في مؤخرته، التفت ليبصر من رفسه، وظن أنه والد خلود، ولكنه لم يجد أحداً فخاف، وفرّ إلى حمامه البعيد، خاف من انكشاف مؤخرته، وخاف من نجاسةٍ تناله في ليلة باردة..

بدأتِ الزهور البيضاء في الظهور على أغصان الأترجة، وكان ظهورها كثيفاً وبدت الريح عاجزة عن إسقاطها، مما يبشر بطرح ثقيل من الثمار وكثير العدد، وأظهرت الأغصان الكثيفة المتشابكة قوة في مقاومة الانكسار أو الانخلاع، وأخذت رائحة الزهور الطيبة تنتشر في النخل وحوله وتمتد لمسافات بعيدة في عين مرجان، فأنشأت خلود تشم رائحتها الزكية وهي في بيتها، وصارت تحس بأترجتها وتعرف ما يدور فوقها وهي بعيدة عنها، تعرف أن الفراشات والنحلات يحببن الطيران فوقها واستنشاق عبير زهورها ولا يفارقنها، وأن الثعابين والفئران والوزغ يخشونها، وأن أعشاش العصافير والبلابل ملأى بها تنتظر التفقيس، وأن الطير فوقها لا يُعادي الطير الآخر، وأن الطيور المهاجرة ليلا ترتاح فوقها حتى الصباح وتواصل رحلتها إلى المناطق الدافئة، وأن أغصانها كلها محطّ لأقدام العصافير والبلابل والهداهد، وأن غناءَ الطير فيها مشتعلٌ صباح مساء، وأن حسنين لا يجرؤ على الاقتراب منها مرة ثانية، ولا على استنشاق زهورها، وأنه عجز مرات عدة عن عدّ عصافيرها وبلابلها بإصبعه أو بعينيه عندما تندلع في أرواحها رغبة الطيران الجماعي من فوقها..

رويداً رويدا تتحول الزهرات البيض وتتخلق أترجات صغيرات خضراوات بخضرة داكنة، وتنمو بسرعة مذهلة، سابقة غيرها من أشجار الأترج الأخرى بعين مرجان أو التي في أم خريسان، أو في أرض الحسا كلها. ويكتمل نموها حتى تصبح في حجم ثدي امرأة مرضع، ثم ينالها الاصفرار الجميل، صفرة النضج التي تقرر قطفها، فتحضر خلود وبمعيتها صديقاتها ويقطفن الأترجات الناضجات الشهيات ذوات الأحجام الكبيرة، ويملأن بها خِيَش الطحين البيضاء الفارغة، ويحتفلن ليلا بأكل الأترجات بالملح وبدونه، وبأكل اللب الأبيض وحده أيضا..

وعندما ينصرفن تدخل خلود غرفتها وتبقى فيها عارية وحدها، وتضيء الشموع البيض والحمر والخضر والصفر في الزوايا وتقف في وسط الغرفة وتدعك بشرتها السمراء بلب الأترج الناعم الندي بعصير الأترج، ومن ثم تمرر اللب على سائر جسدها، وتخلله في تلافيف شعرها الأسود، دون أن ينال اللب محشميها أو عورتها الغليظة، ثم تعصر الأترجة في زجاجة، وتقطّر قطرات من عصيرها ذي الرائحة الجميلة النفاذة المنعشة على سرّتها، وخلف أذنيها، وعند انثناءتي رجليها من الخلف وفوق كوعيها من الخلف أيضا، والشموع مستمرة في الإضاءة كمشاعل صغيرة، ثم تذهب للنوم، وقبل أن تنام تدعو الله لمن آذاها وسلب حقوقها..

وفي الصباح تطوف على فقراء الهفوف وتوزع الأترجات الفاخرات عليهم تكفيراً عن ذنب صديقة لها تركت والدها يموت وحيداً في نخله، بينما في اللحظة ذاتها في سوق الخضار المركزي صبيان اثنان يدللان على أترجة خلود ويحرّجان عليها، وأمام كل واحد منهما مرحلة ملأى بالأترجات اللذيذات: “ترنج خلود.. ترنج خلود.. لا يفوتك.. لا يفوتك” والزبائن يتوافدون عليهما كما توافدت العصافير والبلابل على أترجة خلود، ويخترق الصفوفَ المجتمعة رجلٌ عفيف هو والد خلود صائحًا في كل رجل ولاّه دُبره: “ّابعد شحمتك عني”.. ولمّا تفرّقت المؤخرات التي تعترض طريقه أدرك الصبيين، وتحدث خطيباً في الجمع فقال: “أتدرون ماذا قال الطبيب الإنجليزي سميث الذي فحص أترجة ابنتي في مختبره؟ لقد قال: كيف يمرض فيكم أحد وعندكم هذه الأترجة؟! أو تدرون ماذا فعل العطار الفرنسي أندريه؟ لقد سبقكم واشترى مني كميات هائلة من أترجات خلود وصدّرها لمعمل عطوره في باريس”.. والبائع الباكستاني قد ارتدى لباسه الكشميري الواسع ووقف على ناصية من الشارع الحلزوني المؤدي لشارع الظهران بجانب سيارته الوانيت الحمراء وهو ينادي الزبائن العابرين كاذبًا: “شتلات اترنج من اترنجة خلود.. شتلات اترنج من اترنجة خلود ” بينما شتلات أشجار الأترج التي يعرضها للبيع أتينَ من أمهات أخريات غير معروفات!

ناصر الجاسم - السعودية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى