عدي مسعد جريس مدانات - دمعة عصيّة

لم يعد لدى أبي حسان ما يفعله منذ أن أحيل إلى التقاعد، سوى الجلوس في باحة منزله الظليلة الصغيرة، وقراءة جريدة الصباح من ألفها إلى يائها، ثم حل لغز الكلمات المتقطعة، فيما تنشغل زوجته عنه في أعباء المنزل ومكالماتها الهاتفية. كانت بطبيعة الحال تتفقده بين الحين والآخر، تسأله إن احتاج خدمة ما منها، أو تسأله عما قرأ، فيبدأ بسرد الأخبار، لكنها تنصت قليلًا، ثم ما تلبث أن تنصرف عنه لمتابعة ما كانت تقوم به، فيلحق بها حيثما تكون ويختصر الكلام، ثم يعود إلى مكانه. غير أن أمره مع نفسه ومعها اختلف ذلك الصباح بعض الشيء، فقد نزع منامته وارتدى بنطالًا وقميصًا، ثم لم يستقر على أمر، وأكثر من التنقل بين غرف المنزل والباحة، كما لو كان يبحث عن مفتقد، وعند الظهيرة التحق بها، وهي منشغلة في المطبخ بإعداد وليمة يجتمع عليها الأبناء. كانت تقشّر حبات بطاطا، فجلس قبالتها منكس الرأس، وران عليهما صمت كسول.

وجد أن خير ما يفعله، مشاركتها في ما تفعل، فتناول مقشرة أخرى وشرع في العمل. كانت المقشرة بيدها تأخذ القشرة بيسر، فيما كانت تتعثر بيده، تنغرس في جسم الحبة أو تمر على السطح دون أن تنجح في إزالة القشرة، فيتوقف ليراقب كيف تنجح في فعل ذلك، ثم يحاول مجاراتها ولا ينجح. قطعت الصمت على حين غرة، وقالت بنبرة خافتة تكاد لا تسمع، فيما كانت مثابرة على عملها:

– أخبرتني أم حردان أن الشركة التي يعمل زوجها فيها فقدت المحاسب يوم أمس.

لم يبد من جهته أدنى اهتمام بقصة فقد شخص لا يعرفه، ومضى في مجاراتها في حسن تأدية عملها. أمسكت بحبة أخرى، فانسلت القشرة مع حركة يدها عن جسم الحبة بأسرع مما توقع، فتوقف ونظر إليها، وكاد يقول شيئا في هذا الشأن، غير أن متابعتها الحديث لجمه:

– لم يكن يشكو من علة كما قال أبو حردان، فهو قوي البنية ويمارس الرياضة البدنية.

رفع رأسه الخالي من الشعر إلا من بياض على الجانبين وقال:

– المرض يعرف طريقه إلى أشد الأجسام صلابة.

ثم ترك المقشرة من يده ووضع أمامها حبة البطاطا التي تحفّرت في أكثر من مكان، فتناولتها وتابعت قصتها:

– أفاقت زوجته في الصباح وتركته في الفراش وذهبت لإيقاظ الأولاد. أيقظتهم وجهزت لهم طعام الإفطار، ثم افتقدته، فبمثل هذا الوقت يكون جاهزًا لنقلهم إلى المدرسة. ذهبت لتوقظه، ولكنه لم يستجب.

تناول حبة بطاطا أخرى وثبتها بقبضة يده، وأمسك بالمقشرة ثم انطلق في عملية التقشير. أنهت قصتها بالقول:

– كان ميتًا.

استوقفه الخبر للحظة، وارتسمت على وجهه علامة اندهاش مفاجئة، لكنه لم يأخذ من اهتمامه الكثير؛ فقد ساء فعله مع حبة بطاطا كثيرة العقد، وهو الأمر الذي استحوذ على اهتمامه، أكثر مما فعل خبر موت محاسب الشركة، فتخلى لها عنها وجمع القشور، وألقى بها إلى سلة المهملات وقال: الله يرحمه.

ثم نهض.

استوقفته فيما كان يهم بمغادرة المطبخ وسألت:

– إلى أين أنت ذاهب؟

عاد وجلس وهو غير راض عن مكوثه في المطبخ مدة أطول، وهو لا يزيد في ما يفعله عن محاولات بائسة لتقشير البطاطا، في حين أن لديه الكثير مما يود قوله، وجاءت قصة موت المحاسب لتفسد رغبته. أمسكت بحبة وأخذت في تقطيعها، فوجد أن التقطيع لا يشكل معضلة، فأراد أن يجاريها. أمسك بحبة بيده، وسكين باليد الأخرى، وشرع في تقطيعها، فسره أن أمره مع التقطيع يسير بسهولة، مما دفعه للمضي فيه، فأخذ حبة أخرى، لكنها انزلقت من يده واندفعت بعيدًا، فأعادها وثبتها.

ساد الصمت من جديد، فرفع رأسه ونظر إليها ثم أطال النظر. استغل الصمت ليقول ما لديه، واحتبس طيلة الوقت؛ إذ إنه لاحظ قبل انضمامه إليها في المطبخ أنها غيرت ثوبها المنزلي داكن اللون بآخرَ زاهٍ، ودفعت شعرها المرسل إلى الخلف ليكشف استطالة وجمال عنقها، ليس هذا فحسب، فقد شبكت به قرب الجبين قرنفلة بيضاء. فكر أنها جملت نفسها لأجل الأبناء ورغب أن يعبر لها عن سعادته بهذا الاختلاف الجميل، وكاد يقول شيئًا بهذا الخصوص حين انضم إليها في المطبخ وانشغل باختيار المفردات المناسبة. وجد أن الفرصة مواتية، ليمتدح منظرها، وليطلب منها أن تفعل ذلك كل يوم، غير أنها سبقته إلى الحديث، بذات النبرة الخافتة، وكأنها لا تفعل سوى إفراغ ما بجعبتها، ولا هدف آخر لها فيه:

– تحسين الأزبكي، أبو أحمد، أنت تعرفه، كان جارنا قبل ثلاث سنوات، أخبرتني جارتي أنه صار مديرًا واشترى شقة وسيارة، أتعرف كيف حصل على الوظيفة؟

لم تنتظر إجابته وتابعت:

– نشب خلاف بين مديره المباشر والمدير العام، والخلاف تطور إلى شجار، مما أدى إلى طرده. اغتنم أبو أحمد الفرصة وعرض على المدير العام أن يحل محله بزيادة طفيفة على راتبه، لكنه بعد أن حصل على الوظيفة وتمكّن منها، فرض شروطه بزيادة الراتب.

نكس رأسه ولاحظ إذْ ذَاكَ وجود حبتي بطاطا من حصته لم تقشرا، فترك السكين وأمسك بالمقشرة وانصرف عن حديث زوجته الذي لم يتوقف، بانتظار فرصته في الكلام:

– أبو سمير صاحب ابنك، يتقاضى راتبي تقاعد؛ واحدًا من الحكومة وآخر من الضمان، ويعمل سائق أجرة على سيارته الخاصة، يعني لا أحد يشاركه في تعبه. ولو أنك..

كان قد نجح في إزالة قشرة البطاطا، وانشرح صدره، فقطع عليها كلامها وقال:

– لقد نجحت أخيرًا.

ثم تضرّج وجهه وابتسم وأضاف:

– دعيني أقول لك ما كنت أود قوله طيلة الوقت، فما فَعلْتِهِ بنفسك اليوم كشف كم أنت جميلة، وأن الزمن فشل في إضعاف هذا الجمال، ثم إن القرنفلة البيضاء هذه أعادتني إلى لقاءاتنا الأولى وجمال المواعيد.

غير أنها لم تول ملاحظته الاهتمام الذي توقعه، فقد انصرفت عنها لتقول:

– لو أنك تذهب إلى الشركة مع أبي حردان، وتعرض استعدادك للقيام بوظيفة المحاسب الذي مات، لسبقت الآخرين وحصلت على الوظيفة دون منافس. نحن بحاجة إلى المال ليعيننا في شيخوختنا، وأنت لا تفعل سوى إبداء الأسف؛ لأن العمر مرّ وأنت لم تحقق أحلامك، ولم يعرف العالم عنك سوى أنك موظف مغمور، فيما أن زملاءك في الدراسة صاروا مهندسين وأطباء ومحامين منعمين، ونحن نعيش على راتب التقاعد الهزيل، نقتطع أكثر من نصفه بدل إيجار البيت، ونعجز عن جمع الأولاد والأنسباء على وليمة “عليها العين”.

استوقفه الكلام هذه المرة وفتح عينيه على وسعيهما اندهاشًا، ثم اغتم وخفض رأسه وقال:

– أتعيرينني بعد عمر طويل بفقر الحال؟ من قال لك: إنني سعيد بما نحن عليه، ولكن الوظائف لا تؤخذ بسهولة، لا يأخذ الواحد وظيفة؛ لأن من كان يشغلها مات، ثم إن عمل المحاسب يحتاج إلى خبرة، وأنا ليس لي خبرة فيه، وأنا لا أحب أن أشغل وظيفة لمجرد أن من أشغلها مات، فسأظل في قفص الموت.

جمعت قطع البطاطا في الوعاء، فيما كانت تفكر مقطبة الجبين ثم قالت:

– الناس يموتون ويحل غيرهم في وظائفهم، هذه سنة الحياة. أنت درست الحساب في المدرسة، وأشغلت وظائف مختلفة في الدولة، ولو كلفوك بوظيفة محاسب لكنت اشغلتها ونجحت.

أسند جذعه إلى المقعد، وعقد ذراعيه خلف ظهره، والتمعت في عينيه فرحة صغيرة وقال:

– من غير شك كنت سأنجح، فقد أجدت كل عمل قمت به.

نهضت وأشعلت الغاز وصبت زيتًا في مقلاة، ثم وضعتها على الشعلة وانتظرت قليلًا، ثم أخذت حفنة بطاطا ووضعتها في المقلاة وهو ينظر وينتظر، فقد حان دوره لأن يفاخر في إنجازاته الوظيفية، وما أن عادت وجلست حتى قال:

– كنت أعطي للوظيفة حقها، بغض النظر عمن يغضب أو يرضى.

قالت:

– أعرف ذلك لأن الغاضبين كثر، ولو أنك لاطفت الناس، لوجدت من يعرض عليك وظيفة فور تقاعدك.

نهضت من جديد، أخرجت قطع البطاطا التي احمرت ووضعت غيرها، وقالت:

– ما رأيك أن تجهز نفسك وتذهب الآن؟ جرب.. ليس في ذلك خسارة، ولكن لا ترسم على وجهك تلك التقطيبة المنفرة.

نكس رأسه ونهض ثم غادر، غير أنه عوضًا عن تجهيز نفسه، أغلق الباب وذرف دمعة كانت عصيّة طوال عقود من الزمن.


عدي مسعد جريس مدانات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى