عدنان نصار - ماذا حل بالمدينة ؟

استهلال…
لكم غاياتكم…
ولي نفس مثقلة بالجراح
لكم أحاديث الليل …
ولي الصمت المستباح
لكم نهارات مطهمة
بشهيق الشمس…
ولكم حفيف القمر المشتهى
وللمدينة النواح .!
****
من بعيد كان صوت أم قاسم ، شاهداً على سكون المدينة ..وشاهداً على غياب ثغاء الأغنام ..وانطفاء الموقد ..والمدينة، هذا الصباح تبدو على غير عادتها .. الشوارع مثقلة بالسكون ، والأحياء الفقيرة تغط في النوم بين أحضان الحلم المشتهى ، وشارع الجامع الكبير يخلو من المارة، ومن أصوات الحوقلة والبسملة وازدحام الوضوء ..والحسبة القريبة ،من الجامع تعج بالخضرة والفواكة الطازجة التي جاءت بفعل حماسة الفلاّح الذي يمتشق محراثه ومنجله ويعانقهما على طريقة العاشق المتصوف ،منذ سماعه صوت المؤذن :حيّ على الفلاح..
المدينة هذا الصباح تبدو على غير عادتها .. التماعات سنابل القمح انطفأت بشكل مفاجيء ، والفلاحّات المواظبات على تقبيل مشقة الطريق المؤدي الى المستنبت عبر شارع الشعب المشرق بثورية الندى المتفتح ، الناطق باسم هديل الحمام الذي يرفرف فوق ربى المآذن وعلى قباب الكنائس العتيقة ..الفلاحات لبسن وقتها ثوب الدفاع ليدرءن خطر السؤال : ماذا حلّ بالمدينة ؟؟
المدينة هذا الصباح على غير عادتها …
فالشوارع ، مائعة ..ناعسة ..وتشبه اعواد المعكرونة المسلوقة رخوة ، وانحناءات تكسر القلب ..وفراغها يبذر الرعب في النفس ..
لا أحـد هنا ،لا أحد هناك .. تخلو الشوارع من كل شيء ..وكل شيء له مرارة.. له حزن ..له شهقة تحتمل أكثر من تفسير ،تماماً ،كالغياب الذي أصاب توهج السنابل الذهبية التي كانت تشتد بها الزنود ..ويعود السؤال :ماذا حل بالمدينة ؟؟
المدينة هذا الصباح بلا وجه ..بلا ملامح ..بلا يد تلوّح للمارة ..كل شيء فيها موات، كل شيء فيها يعيش حالة جدلية بين القول والفعل ..كل شيء فيها وقع ضحية المعاشرة للحداثة ،وغاب عنها السطوع ..
فقط وحدها الحاجة أم قاسم التي جاءت من هناك ..من طرف الشارع الملتوي وكسرت بإبتسامتها حاجز السؤال ، ورخاوة الشارع الذي يشبه إلى حد بعيد كسل ساعي البريد .. وغسلت ـ ام قاسم ـ شيء من حزن الغياب بتمايلها ، وحضورها الشهي ، واستنهضت كل الذي في جوّانا، بعد اغفائة دامت حوالي ألف عام ..
ـ كنت صغيراً وشقياً ، وكان بيت الطين ملاذهم وعنوانهم ..وحدك كنت تطل على أسرارنا ،وما كنا نحس بوجودك ..قالت أم قاسم ذلك وهي تلوّح لي بيمناها قبل ان تصير بموازاتي.
قلت حين اقتربت منها:
ـ ربما لقصر قامتي ..
ـ ضحكت ، وأخذت تشمشم بالهواء القادم من ناحية البيوت الطينية ،والحواري القديمة ـ تحديدا تلك البيوت القريبة من التل ومن الشارع المؤدي الى الجامعة التي استحدثت هناك .
قالت أم قاسم:
كنت صغيراً وشقياً حين كنت أمسك بيدك ، وكنت تطير من الفرح كقش البيدر ، كنت تستثير خوفنا عليك كلما انسبت كافعى بين اكوام التبن ..وكنا نستثير حبك حين كنا نرميك بالحجارة الصغيرة المرقرقة .
يمه .. قالتها أم قاسم بلكنة مباغته واردفت :
ـ أنا عمري من عمر هذا الشارع الذي خططه رجال زمان على غرار العلم الاردني ، كرد على الانتداب البريطاني الذي حاول تقسيم الخرطوم على شاكلة علمهم ..أيامها صارت ضجة كبيرة ، وتحبّسوا ناس كثير ، لأنه الحاكم البريطاني منع الزلم من تخطيط الشارع ..وأيامها الشباب طلعوا من المدرسة الرشيدية وقالوا سنقف ضد التشويه والتزوير وانعدام الضمير ، سنخطط الشارع بالدم وأعواد المشانق ..
كنت مواظباً على الإصغاء ، وكانت تتمتع بذاكرة متيقظة، ذاكرة لا تعرف النعاس لا تعرف الكسل .. حدثتني عن كل شيء .. حتى عن جمعه العطار الذي كان يبيع النعنع الناشف ، والسمسم ، والزعتر البري ،وكزحة خبز العيد ..واشياء لها علاقة بمستلزمات النساء .
كانت تتحدث برتابة ،وذاكرة صلبة كالسنديان وكنت أصغي
برصانة مصطنعة، أقلّب صور حديثها في ذاكرتي ، كنت أختلي مع نفسي وأنا بجوارها ، وأتخيل مشهد المدينة القديمة ، كنت اسرق الذكرى ، وارسم المشهد وأقع عبداً له .
جمعه العطار ؛ اتضحت صورته في ذاكرتي ..لماذا جمعه ذلك الرجل الذي كان يعرف غالبية نساء المدينة .. صحيح هو رجل طيب ، وشجاع ،وشهم ، لكن شعره المنفوش ولحيته البيضاء كانت تخيفني ..وكان يغيضني حين كان يقول : أمك بتحب اللون الازرق ..اذكر ذلك جيداً ، وكان يقول أيضا أم قاسم ما بتخاف من الحاكمدار ..
أم قاسم سرقت المشهد من ذاكرتي بالتفافها حول نفسها وهي تصيح ..هون كنا .. هون كانوا .. هون زرعنا .. وهون حصدنا .. شمشمت الهواء مرة أخرى احتضنته بثوبها ، قالت المدينة مش هي المدينة ،والهوا مش الهوا وسالتني بصوت مرتجف : ماذا حل بالمدينة ..وقبل إن اجيبها غابت وغاب معها السؤال .؟
ماذا حل بالمدينة ؟ عدنان نصار قاص أردني استهلال…لكم غاياتكم…ولي نفس مثقلة بالجراحلكم أحاديث الليل …ولي الصمت المستباحلكم نهارات مطهمة بشهيق الشمس…ولكم حفيف القمر المشتهىوللمدينة النواح .!****من بعيد كان صوت أم قاسم ، شاهداً على سكون المدينة ..وشاهداً على غياب ثغاء الأغنام ..وانطفاء الموقد ..والمدينة، هذا الصباح تبدو على غير عادتها .. الشوارع مثقلة بالسكون ، والأحياء الفقيرة تغط في النوم بين أحضان الحلم المشتهى ، وشارع الجامع الكبير يخلو من المارة، ومن أصوات الحوقلة والبسملة وازدحام الوضوء ..والحسبة القريبة ،من الجامع تعج بالخضرة والفواكة الطازجة التي جاءت بفعل حماسة الفلاّح الذي يمتشق محراثه ومنجله ويعانقهما على طريقة العاشق المتصوف ،منذ سماعه صوت المؤذن :حيّ على الفلاح.. المدينة هذا الصباح تبدو على غير عادتها .. التماعات سنابل القمح انطفأت بشكل مفاجيء ، والفلاحّات المواظبات على تقبيل مشقة الطريق المؤدي الى المستنبت عبر شارع الشعب المشرق بثورية الندى المتفتح ، الناطق باسم هديل الحمام الذي يرفرف فوق ربى المآذن وعلى قباب الكنائس العتيقة ..الفلاحات لبسن وقتها ثوب الدفاع ليدرءن خطر السؤال : ماذا حلّ بالمدينة ؟؟
المدينة هذا الصباح على غير عادتها …فالشوارع ، مائعة ..ناعسة ..وتشبه اعواد المعكرونة المسلوقة رخوة ، وانحناءات تكسر القلب ..وفراغها يبذر الرعب في النفس .. لا أحـد هنا ،لا أحد هناك .. تخلو الشوارع من كل شيء ..وكل شيء له مرارة.. له حزن ..له شهقة تحتمل أكثر من تفسير ،تماماً ،كالغياب الذي أصاب توهج السنابل الذهبية التي كانت تشتد بها الزنود ..ويعود السؤال :ماذا حل بالمدينة ؟؟المدينة هذا الصباح بلا وجه ..بلا ملامح ..بلا يد تلوّح للمارة ..كل شيء فيها موات، كل شيء فيها يعيش حالة جدلية بين القول والفعل ..كل شيء فيها وقع ضحية المعاشرة للحداثة ،وغاب عنها السطوع .. فقط وحدها الحاجة أم قاسم التي جاءت من هناك ..من طرف الشارع الملتوي وكسرت بإبتسامتها حاجز السؤال ، ورخاوة الشارع الذي يشبه إلى حد بعيد كسل ساعي البريد .. وغسلت ـ ام قاسم ـ شيء من حزن الغياب بتمايلها ، وحضورها الشهي ، واستنهضت كل الذي في جوّانا، بعد اغفائة دامت حوالي ألف عام ..ـ كنت صغيراً وشقياً ، وكان بيت الطين ملاذهم وعنوانهم ..وحدك كنت تطل على أسرارنا ،وما كنا نحس بوجودك ..قالت أم قاسم ذلك وهي تلوّح لي بيمناها قبل ان تصير بموازاتي. قلت حين اقتربت منها: ـ ربما لقصر قامتي ..ـ ضحكت ، وأخذت تشمشم بالهواء القادم من ناحية البيوت الطينية ،والحواري القديمة ـ تحديدا تلك البيوت القريبة من التل ومن الشارع المؤدي الى الجامعة التي استحدثت هناك .قالت أم قاسم: كنت صغيراً وشقياً حين كنت أمسك بيدك ، وكنت تطير من الفرح كقش البيدر ، كنت تستثير خوفنا عليك كلما انسبت كافعى بين اكوام التبن ..وكنا نستثير حبك حين كنا نرميك بالحجارة الصغيرة المرقرقة .يمه .. قالتها أم قاسم بلكنة مباغته واردفت :ـ أنا عمري من عمر هذا الشارع الذي خططه رجال زمان على غرار العلم الاردني ، كرد على الانتداب البريطاني الذي حاول تقسيم الخرطوم على شاكلة علمهم ..أيامها صارت ضجة كبيرة ، وتحبّسوا ناس كثير ، لأنه الحاكم البريطاني منع الزلم من تخطيط الشارع ..وأيامها الشباب طلعوا من المدرسة الرشيدية وقالوا سنقف ضد التشويه والتزوير وانعدام الضمير ، سنخطط الشارع بالدم وأعواد المشانق .. كنت مواظباً على الإصغاء ، وكانت تتمتع بذاكرة متيقظة، ذاكرة لا تعرف النعاس لا تعرف الكسل .. حدثتني عن كل شيء .. حتى عن جمعه العطار الذي كان يبيع النعنع الناشف ، والسمسم ، والزعتر البري ،وكزحة خبز العيد ..واشياء لها علاقة بمستلزمات النساء .كانت تتحدث برتابة ،وذاكرة صلبة كالسنديان وكنت أصغي برصانة مصطنعة، أقلّب صور حديثها في ذاكرتي ، كنت أختلي مع نفسي وأنا بجوارها ، وأتخيل مشهد المدينة القديمة ، كنت اسرق الذكرى ، وارسم المشهد وأقع عبداً له . جمعه العطار ؛ اتضحت صورته في ذاكرتي ..لماذا جمعه ذلك الرجل الذي كان يعرف غالبية نساء المدينة .. صحيح هو رجل طيب ، وشجاع ،وشهم ، لكن شعره المنفوش ولحيته البيضاء كانت تخيفني ..وكان يغيضني حين كان يقول : أمك بتحب اللون الازرق ..اذكر ذلك جيداً ، وكان يقول أيضا أم قاسم ما بتخاف من الحاكمدار ..أم قاسم سرقت المشهد من ذاكرتي بالتفافها حول نفسها وهي تصيح ..هون كنا .. هون كانوا .. هون زرعنا .. وهون حصدنا .. شمشمت الهواء مرة أخرى احتضنته بثوبها ، قالت المدينة مش هي المدينة ،والهوا مش الهوا وسالتني بصوت مرتجف : ماذا حل بالمدينة ..وقبل إن اجيبها غابت وغاب معها السؤال .؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى