سفيان صلاح هلال - الإنقاذ البديل في رواية رمال سوداء لطارق فراج

" إننا نكتب لنحتفظ بذاكرتنا على الأوراق"، قالها أحد المبدعين، وتشتد الرغبة في الاحتفاظ بالذاكرة حين يكون العمل تتجه نية كاتبه للاحتفاظ بصورة كلية لوطنه الذي يعيش فيه، خاصة إذا كان المبدع يشعر بتميز وخصوصية المكان، وتاريخه، وأن تهديدا بالضياع يلاحقه.
"إلى جدتي، التي فَتَحَت أمامي صندوق الحكايات ونَسِيَت أن تغلقه، إلى جدي ورفاقه الذين تعبوا كثيراً ولم يحصلوا على ذكرى تليق بهم، وإلى أبنائي الذين سأحكي لهم حكايتي يوماً." بهذا الإهداء "يقدم "طارق فراج" روايته "رمال سوداء" الصادرة عن سلسلة إبداعات قصصية 2019. إن في قوله "ولم يحصلوا على ذكرى تليق بهم" إشارة لقصد الكاتب من كتابة نصه، إنه نص تواصلي يحاول أن يربط الأجيال ببعضها كمكون لهوية خاصة.
غير أن المبدع لم يغب عنه أنه يكتب عملا روائيا، والرواية مركب فني من بنية ولغة وروابط ظاهرة وخفية وغير هذا......؛ لذا فقد اختار رابطا رمزيا يصلح أن يكون حدثا واقعيا في عالم الصحراء وهو مشكلة "تزايد قلق الشيخ وهو يرى الكثبان الرملية الضخمة تزحف نحو بيوت الواحة وحقولها الواقعة في الناحية الغربية. "الحق أنه لا يمل من التفكير في هذا الأمر. وكثيرا ما اجتمع الرجال عنده، وتباحثوا في أمر الرمال الزاحفة. "إن موضوع طمر الواحة ببيوتها تحت الرمال، والذي يخشى السارد تكراره كما حدث في مكان سابق، يمثل الحدث الرئيسي العام الذي ينمو وتنمو بنموه الرواية "أرى الرمال بأم عيني وهي تقترب رويدا، رويداً نحو منازلنا ونخلنا( ثم ناظراً إلى الشيخ منطوق) ألم تلاحظ يا شيخ أن الرمال في كل عام تلتحم أواصرها عن العام الذي يسبقه حتى قاربت التلال الضخمة تلك على الاندماج؟
قال الشيخ: ستصبح جزيرة رملية مهولة، عندها ينهار كل شيء تحت سطوتها."
، غير أن هناك تفاصيل كثيرة، كأن الكاتب يجري ليجمعها قبل أن تنطمر تحت الرمال، وهذه التفاصيل هي روح الواحة ومكون خلاياها الحية، والتي أدرك الكاتب أنها لولاها لكانت الواحة مجرد بقعة من الصحراء لا أـكثر. وكما استطاع الناس منح الحياة للصحراء، استطاع الكاتب منح عمله الحياة كرواية، والخروج به من حيز الكتابة التسجيلية البحتة، وهذا باختلاق مجموعة من القصص كل قصة تحمل درامتها عرض عادة، أو علم، أو أسلوب حياة اجتماعية أو قانونية أو غير ذلك مما يراه الكاتب يمثل شيئا من هوية الواحة.
يدرك الكاتب أن الواحة في عزلة خاصة بها في مواضع كثيرة، وهو يتمرد على هذه الحالة المفروضة على الواحة؛ حتى أنه يستنكر بقاءه فيها، فواحته لا يظن أن حاكم البلاد يعرف عنها شيئا، كما لا يعرف الناس هنا عن العالم خارج واحتهم شيئا سوى ما كونه خيالهم مما يسمعونه من الراديو الوحيد عند شيخ الواحة. "هذا الخلاء الواسع الذي لا يُحد، هل يدري بنا فيه أحد؟ ما الذي أستطيع أن أحققه من الأحلام في تلك الواحة الصغيرة، التي لا يعلم أحد بوجودها إلا الله؟ وما الهدف من هذا العمل الممل الرتيب الذي يُتَعهد به إليّ كل يوم؟ رعي الأغنام، مساعدة أبي في الحقل، الجلوس في ظل شجرة الكافور الضخمة إلى جوار بيت العمة فوز،..." إن صعوبة التواصل تكاد تقضي على الواحة مثل الرمال التي تزحف وعين المياه التي يقل ماؤها؛ حتى أن المريض ليس أمامه غير ما درجت عليه فنون الطب الشعبي التي يراها الكاتب لاتجدي في كثير من الأحيان رغم سرده لها، لكن ما العمل؟ فأقرب مستشفى " في المدينة التي تبعد عن واحتنا ما يزيد على خمسة عشر كيلومتراً، تقطعها الدواب في ساعة أو يزيد، بين كثبان رملية وصخور، يوجد مستشفى حكومي يعالج المرضى. لم يذهب إليه أحد من أبناء الواحة من قبل، يقولون إن فيه طبيباً من مصر، عنده دواء لكل داء. لكن، كيف يصل إلى هناك إنسان حُطمت عظامه، على حمار يتهادى به في مدق رملي!!" ربما كانت هذه الطبيعة ما جعلت هواجس الكاتب توحي إليه دائما بضرورة العمل على إنقاذ الواحة من الضياع؟
وهنا تتحول الكتابة في الرواية إنقاذا بديلا، ربما من هذا المنطلق ذهب الروائي دائما لتسجيل كل شاردة وواردة عن الواحة في بناء فني يجمع بين الإجمال والتفصيل، وكأنما السارد شهرزاد التي تخشي موتها فتؤجله بحكايا تتوالد من بعضها البعض تدل على وجودها ومقاومتها للفناء؛ فالحدث الرئيسي مقاومة ضياع الواحة ولكن الحدث تتوالد منه حكايا كثيرة تشرح الواحة:
تضاريسها، أنواع زراعاتها، رصد صور التكافل بين الناس مثلما حدث حين تم إنقاذ ثور أحد السكان ولما كان الثور لن يعيش تم ذبحه وتقسيمه ليتشارك الجميع في شرائه تعويضا لصاحبه، رصد زوار الحارة من التجار، ومن فروا منها من أبنائها والتغيرات التي طالت أشكالهم وأحاديثهم حين عادوا، إن الكاتب يرصد حتى القاعدة الخشبية التي توضع عليها جرة الماء، وكيفية طلاء الجدران بالجير والكتابة عليها احتفالا بالحجيج، ويكاد ينقل لنا روائح الناس وطعم الفواكه، ويكاد يصور ملامح الأشخاص بالكلمات "ثريا تُشبه والدتها في طولها الواضح وعينيها الجميلتين الثاقبتين. تمشي كأنها تهبط من منحدر، فيهتز نهداها الناهضين، ويتأرجح فوقهما عقد الخَرَز الملوّن الذي تتقلده. كان نهداها حديث الأحاديث وأضحوكة الفتيان؛ فقد كانا مثل ثمرتي الليمون، لا يتناسبان أبدا مع طولها. كنا نطلق عليها "عود القصب"، نظرا لنحافتها الزائدة. أما لو شاهدتها الآن، لا تملك إلا أن تقول سبحان مغير الأحوال؛ أضحت مهرة عَفيّة جامحة، ذات مؤخرة كاملة الاستدارة تقريبا. تُظهِر جدائلها البُنية الطويلة على ظهرها. تمشي ولا تلتفت كأنها ملكة متوجة. لديها الكثير من الثقة".
وكما يريد الكاتب الحفاظ على واحته وانقاذها أو نسخ صورة منها في روايته تمنحها تواجدا ما، فهو يريد أن يشاركه الآخرون في هذا الفعل؛ لهذا نراه يركز على الإنسانيات كما يركز على الجغرافيات، وكأنه يكتسب تعاطف الآخرين لينضموا إليه في الحفاظ على هذا الكنز الجغرافي والإنساني.
يتوزع الإنساني في قصص كثيرة وفي مناطق شتى، فها هي "فاكهة" جميلة الجميلات قد ابتليت بزوج عنين، وهي تجرب ملتاعة في رحلة بحثها عن الولد والمتعة الجنسية الحلول بالدواء والشعوزة والطقوس " عند مغطس العين، أُمرَتْ فاكهة أن تخلع جلبابها.. سطع جسدها من تحت القميص الأحمر الشفاف أبيض كاللبن. كان القمر قد ارتفع في السماء كاشفا عن سحره الأسطوري ما حدا بالكون أن يقف لحظة مأخوذا بعظمة المبدع وروعة المخلوق، والجسد يمنح الماء ناره فيفور ملتاعا على جانبي المغطس بينما تتمايل جذوع النخل طربا.. ضربت أم سبيل على صدري شاهقة: "لك الله يا تعلب. أين تذهب، وماذا تفعل يا مسكين!!". إن الوصف في هذه القطعة يمنح تلك الجميلة المحرومة تعاطفا من القارئ حتى ليتمنى أن يحل مشكلتها بنفسه...! ويصف الكاتب مشاعر الغيرة عند نساء القرية بطريقة لا تخلو من صدق إنساني رغم خروجها عن العرف السائد اجتماعيا في الحديث "حتى الزوجة التي لم ينم معها زوجها ليلة الجمعة تستيقظ مبكراً لتسكب أمام بيتها دلواً مليئاً بالمياه، حتى لا تكون عرضة لشماتة جاراتها. المتزوجون يطلقون على ليلة الجمعة "الليلة المبروكة". وقد تناهى إلى سمعي ذات يوم قولهم إن أسقف البيوت لا يمكن أن تقع ليلة الجمعة، ... قلة أدب!! لكني أتمنى أن يكرمني الله وأقلّ أدبي مثل هؤلاء." لا يقتصر ما هو إنساني على المشاعر الجنسية، لكن هناك مشاعر الفقد مشاعر تلك المرأة التي هرب ابنها ومات زوجها فتملكتها العصبية والعبوس. "كلما طرق أحد بابها، تندفع خارجة حاسرة الرأس، آملة: "ربما يكون حماد قد عاد"، فإن سمعت جلبة خارج البيت هرولت مسرعة، فربما يكون ابنها قد عاد، وإن تنهد أحد إلى جوارها فزعت وساورتها الشكوك: "ربما حدث لحماد شيء في غربته، ولا يريد أحد أن يخبرها".
مشاعر الفرح التي تعتري سيدات الواحة حين يزورها تاجر الأقمشة ومعه الجديد من لوازم النساء..
مشاعر المسؤولية لدى الشيخ منطوق كبير الواحة والذي يؤمن أن للإنسان طاقة لا حدود لها لو اكتشفها وهو يستغل تلك الطاقة ما استطاع لرد الضياع عن الواحة بالجهود الذاتية أو بالعمل الجماعي المنظم، أو محاولة التواصل مع مسؤولين، أو حتى استغلال الطاقات الروحية وتفجيرها داخل الذوات، وضمن الراوي روايته عشرات من قصص الحب بين فتيان وفتيات الواحة مثل قصة حب "ثريا" "وبدر"، "سبيل" و"حسان"، "عوض" و"فطومة" عبدون وصديقة أخته وغيرهم .... وعلى مجرى الأحداث كلها تتربع قصة حب الراوي ل"مليحة" ... تتميز كل قصص الحب أنها حب بشري يمتزج فيه عشق الجسد والروح فمثلا "عاد عوض من القاهرة بعد أن جمع مالاً يؤهله للزواج. رأى "فطومة"، لأول مرة بعد عودته، وهي تحمل جرَّة الماء وقد برزت تضاريس جسدها ونضجت ثمارها. يومئذ أخبر والده عن رغبته في الزواج منها" وقالت البنت " جذبتني من يدي وقالت ضاحكة: "كان نائماً على ظهره، وحيوانه منتصب، بين فخذيه، مثل وتد". حتى قصة حب الراوي رغم ما حاول أن يطفيه عليها من رومانسية ربما ندركها من قوله عندما رمته بحجر من شباكها "ذلك الحجر الصغير الذي ربما لا يفيد في شيء، لكنه أثمن ما في الوجود إذا ألقته إليك فتاة؛ لأنه يعني أنها تعاهدك على المحبة والإخلاص إلى الأبد. / كنت أحاول أن أنقل إليها فورة مشاعري عبر نظرة طويلة واحدة.. كانت تشعر بي، وتبادلني شوقا بشوق، دون أن تتفوه بكلمة واحدة". رغم ذلك لحظات وصفه لجسد "مليحة" منتشرة في الرواية وفي مفاتن كثيرة. ومليحة اسم رواية سابقة للأديب، في الحقيقة هذه الرواية التي بين أيدينا هي كتابة أخرى لها فيها من التوسع والتعمق ما فات الرواية الأولى وقد كان حقا توسعا لا بد منه إنك بعد قراءة هذه الرواية لا تملك إلا أن تتعاطف مع الواحة وتخشى زوالها تحت وطأة الرمال التي وصفها الكاتب بأنها رمال سوداء مانحا إيانا أبعادا دلالية تتعدى حدود واحته الخاصة...

سفيان صلاح هلال


تعليقات

أعلى