مها الهنداوي - قيود.. لا تموت

لم يعد يهزها صرير باب الشقة في الثالثة والنصف فجراً.. يحاول أن يريح أنفاسه المتقطعة.. يمد رأسه إلي الكرسي الخشبي ويشعل سيجارة.. عائد بيدين فارغتين وذهن شارد.. ترتسم فيه علامات استفهام كثيرة.. تري لِم لم أحصل عليه؟؟؟؟؟

في سكون بزوغ أول الفجر تتسلل أنفاسه المتقطعة إلي أذني نور.. تشتم رائحة عرقه ورائحة الطين المنبعثة من حذائه.. تري أين كان يبحث في هذه الليلة؟

وأسئلة أخري كثيرة تلح بقوة في رأسها، تجعلها تتململ في فراشها طوال الليل.

تذرف دمعتان ساخنتان.. تمسح إحداهما بأطراف أصابعها البيضاء الناعمة بينما تتشرب الوسادة الدمعة الأخري.

يدخل يوسف الغرفة وقد تركت نور له الباب مفتوحاً.. تلتفت إلي الجانب الآخر حتي لا تتلاقي الأعين.

في النهار يستلقي يوسف علي سريره مواجهاً الصورة المعلقة في إحدي زوايا غرفة نومه.. يحدق فيها.. لا يري سوي الصورة المعلقة.. يحفظ معالمها.. يتحسس اللون الفضي البراق.

في كل ليلة يخرج يوسف ليبحث.. إنه يعرف ما يريد.. يعرف أين يجده.. يتجه إلي الطريق المظلم المقابل لشقته.. إنه الطريق ذاته الذي كان يسلكه إلي الجامعة عندما كان طالباً في كلية الحقوق.

يمشي.. يتلفت حوله.. لا يجد أحداً.. يشعر بالراحة والطمأنينة.

من بعيد يلمح اللون الفضي البراق في آخر الطريق.. معلق علي غصن شجرة يتيمة.. تشتعل في قلب يوسف جذوة الحياة.. يمشي.. يهرول إليه.. كلما يقترب يوسف، يبتعد اللون الفضي البراق.. يختفي ويظهر كلما يركض يوسف باتجاهه.. يصل يوسف إليه.. لكن قبل أن تمتد يداه إليه، يظهر رجل ضخم.. يرتدي قميصاً أبيضاً.. طويل الأكمام.. رثاً.. وبنطالاً لم تعرف المكواه له طريقاً.. في جيبه ثلاثة أقلام.. تختفي عيناه خلف عدستين سميكتين.. ينتزع اللون الفضي البراق بقوة.. ينظر في عيني يوسف.. تتحرك شفتاه بأسي.. آسف.. يهز رأسه يميناً وشمالاً.. تمتليء عيناه حسرة وألماً.. يرمي ما أمسك بقوة في الاتجاه الذي جاء منه يوسف.. يتطاير اللون الفضي البراق من فوق رأس يوسف.. يشتد بريقه كلما ارتفع في السماء.. يتبعه يوسف بعينيه ورجليه ويديه.. لكنه يستقر في يد رجل آخر ذي ملامح مألوفة.. يرتدي بزة سوداء.. يجلس علي كرسي ناعم وثير في أول الطريق الذي سلكه يوسف.. ينهض الرجل بعدما يلتقط اللون الفضي البراق.. ينظر في عيني يوسف بوقاحة.. يمشي.. يلحقه يوسف راكضاً لكنه يختفي.

يلتفت يوسف.. ينظر من حوله.. يهيج.. بحشرجة يصرخ.. لا.. لا.. لقد تعبت.. يسمع صدي صوت الرجل الضخم يهمهم بكلمات لا يفهمها يوسف.. يلحق يوسف به.. يهتف.. لماذا.. لماذا وأنت تعلم أنني أستحقها؟؟!! لكن الرجل الضخم يختفي أيضاً.

في الليلة التالية..رجل ضخم آخر.. يظهر ليوسف.. ذو ملامح مألوفة.. يرتدي قميصاً نتناً.. يحمل أقلاماً وأوراقاً.. يقتلع اللون الفضي البراق.. يقذفه في الهواء باتجاه رجل ذي ملامح مألوفة يجلس في أول الطريق.. يرتدي قميصاً حريرياً.. أكمامه قصيرة.

يركض يوسف باتجاه البريق.. لكن الرجل يلتقط اللون الفضي البراق بابتسام.. يمشي متمهلاً ثم يختفي في سيارة فارهة.

ويعود يوسف في كل ليلة إلي الشقة.. شارد الذهن.. كسير الفؤاد.. متهالك الجسد.. مصفراً وقد انطفأت فيه روح الحياة.

لم يعد يسرد علي نور الحكاية.. إنها تعرف كل شيء وطالما سألته عن كنه اللون الفضي البراق.. أهي ماسة.. جوهرة.. أم نجم؟؟

لم يكن يجيبها يوسف.. كان يكتفي بالابتسام متجهاً إلي الصورة، متحسساً اللون الفضي البراق.

اليوم هو الثلاثون من شهر ديسمبر.. يوسف يتم عامه الستين.. يعيش في غرفته الكئيبة.. تدخله الحشرات من كل صوب.. تنسج العناكب خيوطها في كل زاوية من زوايا الغرفة المتصدعة جدرانها.. السجاد مهتريء.. أطرافه متآكلة.. ألوانه باهتة ككل شيء في الشقة.

ما زالت زوجته تسكن الشقة معه وكذلك أبناؤه الثلاثة.. لكنهم لا يشعرون بوجوده.. هو كذلك.. لا يشعر بوجودهم أبداً.

نادراً ما يخرج من غرفته المنزوية، المظلمة من كل نور عدا المصباح الصغير الذي يحتفظ به يوسف مشتعلاً دائماً في كفه اليمني.. مسلطاً ضوءه علي اللون الفضي البراق.. محدقاً فيه.

يرن جرس الباب.. تفتح نور.. تتسلم ظرفاً.. كتب عليه.. يسلم إلي السيد يوسف سعيد.. تأخذه إلي يوسف.. تطرق بابه.. تدخل.. تمد الظرف إليه.. يشير إليها أن تفتحه بينما هو يحملق في الصورة المعلقة.. تفتح نور الظرف.. تسحب طرف الورقة الموجودة بداخله بأطراف أصابعها البيضاء الناعمة.. يشيع وجه نور نوراً.. تهتدف بيوسف.. أنظر.. يلتفت إليها.. ورقة بيضاء يتوسطها اللون الفضي البراق.. يحتضن الورقة.. تتحرك الدماء في جسده الهزيل.. يقف.. إلي خزانة الملابس يتجه.. ينتزع بزة مغطاة بكيس أحمر.. لقد اشتراها بعد أن تخرج من الجامعة.. لم يرتدها قط.. اليوم فقط آن أوانها.

لأول مرة يودع نور بقبلة.. ثم يخرج.

تتجه نور إلي غرفة يوسف بجناحي السعادة والبهجة.. تفتح باب غرفته.. تفتح نوافذها.. تمسح الغبار المتناثر علي قطع الأثاث.. تزيل الطين المتراكم في مدخل الغرفة.. لا طين بعد اليوم.. إلي الصورة تتجه.. تتأملها بابتسام.. تحملها بين ذراعيها وفي غرفة الجلوس تعلقها.. تنتظر زوجها بشوق عارم.. تذبل عيناها في غفوة.. ثم يهزها صوت مفاجيء.. تنادي.. يوسف.. يوسف.. لكنها تري الصورة محطمة علي الأرض واللون الفضي البراق قد انطفأ..

تخفي نور وجهها خلف كفيها البيضاوين الناعمين.. وتدرك حينها أن يوسف لن يعود أبداً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى