مهند ذويب - لكنّ عكّا تختلف!..

بعد واحدٍ وسبعين عامًا من الغِياب النّهائيّ لملامح المَدينة الفلسطينيّة، وفكرتها، باتَ من الصّعب الحديثُ عَن النّكبة، من الصّعب تناولها في أيّ نصٍ عاديّ وبطريقة تقليديّة، ليسَ لأنّنا كأجيالٍ تعيشُ الارتداداتِ والنّتائج فقط، وليسَ لأنّنا أصبنا بتخمة الأعمال الحقيقيّة وغير الحقيقيّة التي تناولتها، بل لأنّنا نشعر بالارتباك الشّديد وبالاغتِراب عندما نقرّر إمساك هويّتنا الوطنيّة من ياقتها، وأحيانًا من قميصها المرقّع لفرط ما ضربته الشّمس، ولأنّنا مصابونَ بداء الأسئلة، لا أبالغ، يُمكنني كتابة مقال كامل بالأسئلة فقط.

كيفَ "أضيفُ إلى الحكاية وصفَ عكّا"؟ وأنا الذي ظلتُ أتحسّس آثار أقدامِ إحدى جداتي هُناك مطلع نيسان البائِد، نعم، البائِد كملامحي التي اعتلت السّور وأجهشت بالبُكاء بلا سبب، بلا توقّف، ثمّ أجهَشَت بالهرب، كنتُ أبحثُ عن لكلّ ما حصل في أزقة عكّا، في حالة غرائبيّة قلّما تحدث، في نقطة وجودٍ استثنائي، حيثُ نقطة الثلاثيّ: التاريخ وهي وعكّا، فتحت المدينة صدرها/سورها بحياء لعاشقين يهرولانِ في أزقّتها، "كُلٌ على حدةٍ"، ولا أعرفُ إذا كانَ البحرُ عامدًا متعمّدًا شدّ حواسي وأغرقها برائِحة السّمك، وهو يعلمُ أنّ العطر كانَ سيسهّل العثور عليها، إذ أحسّ به، لا أشتمّه فقط، ويعلمُ أنّني لا أحبّ السّمك.

"لم نفترق لكنّنا لم نلتقِ أبدًا"، هل تصدّقون هذا؟، إذن كيفَ انعكست النّكبة علينا؟، على شُعور عكّا تجاه العشّاق، تجاه أبنائِها الذين يلجؤون إليها في كلّ مرة، أو أوّل مرّة، "لقائي الأوّل مع عكّا، مع نصفي المَفقود في أزقّتها"، أو تيهي الأوّل، هل تصدّقون أنّ بحر عكّا كانَ مختلفًا؟، في الدار البيضاءكازابلانكا وقفتُ كثيرًا أمام البحر، ربّما دوّنت هذا من قبل، وكتبتُ أنّ المدن الغريبة أكثر حميميّة، لأنّها خالية من الذّكريات، لكنّ عكّا تختلف، يافا تختلف، مع أنّه اللّقاء الأوّل، إنّها مدنُ الذّكريات، هل تفهمون هذا الشّعور؟ يُشبه أن تحبّ فتاةً لأوّل مرة، وفي أوّل لقاء تشعر أنّك مرهقٌ بالذكريات معها، بالشّوارع التي تابعت خطوكما، بالأزقة، وعيون الباعة، ثمّ تهرب، نعم تهرب إلى سريرك محاولًا إقناع نفسك بضرورة الذّهاب إلى طبيبٍ نفسي، الطبيب الذي أمضى حياته في فرانكفورت لن يصدّقك، سيشرح لكَ أعراض الإصابة بالشيزوفرينيا، وسينصحكَ نصائِح حمقاء، تعود إلى البيت، تقع على خبرٍ عن استنساخ الأرواح، تجنّ أكثر، هل تَسكنكَ روح أحد أبناء "أمّ سعد"، أم أنّك ذاتك الذي ماتت حبيبته رميًا عن سور عكّا، الجيوش التي تدخلُ رأسك وتخرج فجأة، أصوات البنادق الرديئة، شجرة الخرّوب التي تنحني إليك كلّما اقتربت منهاإليها، كيفَ نفسّر هذا، وكيفَ نكونُ رغم إرادتنا داخلَ المشهد التي يتجدّد كلّ يوم، كأنّنا نفسنا عشنا النّكبة وارتداداتها، نفسنا الذين هجّرنا، وعدنا زوارًا، نفسنا الذين نمارس علاقاتنا مع الأمكنة، والجمادات، لأنّنا مقتنعون أنّ الله نفث من روحه في كلّ شيء، روحًا لا تموتُ ولا تُستبدل، أفكّر، ماذا لو كانَ اسمي حسن عام 1948؟، فهل ستواجه "جميلة" المتخيّلة أصلًا ذاتَ المصير؟، ماذا لو كنتُ شاعرًا؟، وكتبتُ قصيدة عمودية محكمة لعكّا، تشبه التي كتبتها قبل شهر في المضمون.

صَديقي، ومعلّمي الكبير يسأل: كيفَ نكتبُ النّكبة؟، وأنا أحاول الإجابة فقط، وأفشل جدًا إذ تتجلى هي وعكّا ويافا "التي لم تأتِ بالمراكب" أمامي، ولا أنساق إلّا لها، هل للنّكبة أثر في هذا؟/على هذا؟، هناك في عكّا:

هُناك، حينَ اعتَلت عكّا ربوة الزّغب الأخير
كانَ الضّبابُ آخر ما رآه المُسافر
صعدَ البعيدَ ولوّح
هناك، تركَ يده إلى الأبدْ

مَشى، فانقطعتْ خطاهُ إلى شَفَة البحرْ
كانَ الموجُ القادمُ من السّماء يشبه صوتَ أقدامه
حتّى انقطع أيضًا،
الصّوتُ والاتّجاهات وذاتُ المَصير

حاصرًا نبضه المحمومَ بينَ جسدينْ
قال: كأيّ نهر،
هو يعلمُ أنْ لا نهرَ هناك
يعلمُ أنّه الوحيد الذي فضّ بكارة الزّقاقْ
لكن كأيّ نهر أيضًا،
عشراتُ الجميلات يداعبنَ بأقدامهنّ الماء،
أو يداعب الماءُ أقدامهن!

ليَ الأنصافُ، كأيّ قرية لم ينفعها إيمانها
كأيّ قرية دخلت حانةً لأوّل مرة
كأيّ قرية لم تقرّر بعد كلّ شيء؛ فارتدت منديلًا وحمالة صدرٍ فقط

"وقد يُقاسُ البعيدُ على القريب، والغائبُ على الحاضِر" فهل يقيسُ النّفريّ أصابع الله على يديكِ؟




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى