أحمد رابع أبو فراس - القلب القاتل

بعد ان انزلق شعاع الشمس من الافق واجتاح المدى .. ثلة من الاطفال في طريقهم إلى المدارس ، تجمعات بشرية في المقهى الوحيد في الحي يجلسون في شكل مجموعات صغيرة ويتناقشون في الواقع المرير الذى يعيشه البلد والمستقبل المبهم الذى سيؤول له .. وفي مقعد جانبي وحيد يجلس شاب عشريني بوجه لا يخلو من الوسامة وبهندام شبابي متناسق ، يجلس وحيدا منعزلا كعادته ..
يحتسي قهوته الصباحية ويتوغل في اعماق الذكريات ومتأملا تفاصيل الصباح المجنونة فالقهوة عنده أخت الوقت لا تشرب على عجل ...
في مثل تلك اللحظات مزاجه محصور بين صوت مذاقها ورائحتها اللذين يلامسان المخيلة ويرسما أبهى الاحلام.
كان يكنس الاماكن المحيطة به بفضول وعلى حين غفلة من كوبه ترصد عيناه فتاة فائقة الجمال ترتدي فستاناً يظهر معالم جسدها الفاتن كأنه الزي الرسمي للإغراء .. فأصابه الجمود من فرط الدهشة ودخلت حواسه في حالة من الفوضى واصبحت كل الاشياء غير مرئية بالنسبة له سوى تلك الحسناء صاحبة الوجه الصبوح و الاطلالة المشرقة . التي أتت كغيمة ضائعة مانحة له الاحلام .
انها تتقدم نحو المقهى بخطوات متناسقة كأنها ملاك جاء من اللامكان لتغزو كوكب الرجال بكل ما اوتيت من جمال .
كل الانظار اتجهت صوب الحسناء وساد صمت رهيب ، حيث لا صوت يسمع سوى وقع اقدامها على الارض.
وقفت بالقرب من المقهى وقفة عارضات الازياء مترقبة سيارة اجرة
الكل يحملق نحوها بعيون تكاد ان تخرج من محاجرها . كأنهم لم يروا انثى قط في حياتهم . لقد انتصبوا من مقاعدهم كأنهم جنود في وضعية الانتباه اما هو فقد استمر ينظر إليها بغرابة كأنه اعمى، قبل ان يراها فجأة تلوح بيدها وتوقف سيارة اجرة ....
تجلس في المقعد الخلفي وتنطلق بها الي وجهتها بعد ان تسللت إلى قلبه وفتحت نوافذ لا محدودة .
يعتدل في مقعده محاولا جمع ذاته التي بدأت تتبخر في السماء من جراء الحضور الفيزيائي للحسناء .... وتثور تساؤلات كثيرة في ذهنه.
من تكون هذه الحسناء...؟
ولماذا تتعمد إرباك قلبي.....؟
ومن قال لها بأنها بحاجة إلى هذه الاناقة المفرطة....؟
يتنصل من قهوته التي لم تحظ بالاهتمام المعتاد ويتجه صوب المنزل ومخليته موبوءة بتفاصيل الحسناء ... لقد قلبت حياته رأسا على عقب ، لقد اقتحمت حصون قلبه واصبح احد مستعماراتها ، انها تجيد سرقة القلوب من حضورها الاول.
يعود إلى المنزل ويتهالك على الاريكة من شدة التعب يحاول معانقة النوم .. لكن الاخير يعانده... فيدخل في رحلة تفكير عميق . فيدق صوتا داخله " انتظرها صباح الغد وتحدث معها " فينتظر الغد بقلب متلهف .
يتأمل عقارب الساعة ويتوسلها الدوران باسرع ما يمكن وقلبه يناجي الشمس بالشروق حتى يتخلص من عبودية الانتظار.
وهكذا في صباح اليوم التالي وبعد ليل طويل لم يذق فيه طعما للنوم يتجه إلى المقهى بعد ان إرتدى اجمل ما يملك من ملابس ووضع من العطر ما يكفي لجذب إنتباه أي انثى .
يصل المقهى مبكراً وقبل ان يتبين الخيط الابيض من الاسود من الفجر . لقد جاء على غير العادة لتنفيذ اوامر قلبه وإنصياعا لإستبداد الحسناء .
ان أسؤ الاشخاص حظاً هم الذين يملكون قلبا دكتاتوريا بحيث يحتكر كل قرارت الذات.
يجلس في مقعده الذى يسمح له برؤية كل الانحاء المحيطة ، يطلب من النادل قهوته ويبدأ يحملق بعياه مترقبا قدومها والارباك يسطر عليه
انه في نذوة الترقب والانتظار لقد قرر ان يمطر قلبها عشقا وان يحتجزها داخل اعماقه .....
فجاة.. تظهر الساحرة قادمة من نهاية الطريق ويسبقها عطرها الذى لا يقل عنها جنونا ، تُحرك اقدامها فوق الارض برشاقة كأن الارض هي التي تتحرك تحت قدميها .
هاهو القدر يعيد يوم امس بكل تفاصيله الجنونية .. بدأ متظاهرا بالهدوء ونبضات قلبه تتراقص على إيقاع خطواتها ، ومن سوء حظه انها لم تتوقف بالقرب من المقهى فقد واصلت السير وهي تستعير إنتباه كل من يصادفها على إمتداد الطريق ..فراح يتبعا وقلبه يتوسلها التوقف .
يقول فكتور هيجو " لا شيئا اجمل من تتبع إمرأة جميلة "
لم تكن تعلم بان ثمة شخصا يتبعها ، لم تلتفت ولو عن طريق الصدفة .
يحاول ان يلوح لها بيده وهي تعبر الطريق السريع المكتظ بالسيارات لكن دون جدوى ، فيجازف بعبور الطريق وحواسه جميعها تركز على الحسناء فلا شئ يبدو له حقيقياً سواها حتى الارض التي يمشي عليها يكاد لا يراها .
ثمة فخاخ تتوارى خلف بعض القرارات لكننا لا ندركها إلا بعد الوقوع فيها ... فيعبر الطريق وما لبث ان يجتازه بحطوة واحدة فتصده عربة وتسحق جمجمته وتغرق أشلائه في نهر من الدماء وتتوارى روحه في السماء كما توارت الحسناء في الزحام .
  • Like
التفاعلات: مليكة ابابوس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى