اوعاد الدسوقي - الموت فرحاً

من وراء ستار النافذة وقفت تودع تلك الحارة التي عاشت بين جنابتها أيام فرح وسنوات عذاب , وشهدت جدرانها ولادة قصة حبها مع جارها المهندس القادم من اعماق الصعيد , بدا على وجهها علامات الإستغراب وكأنها لاتصدق ان أهل الحارة الذين يتسابقون الأن لتقديم التهاني ويشاركون في تعليق الزينات و ترتيب الفراشة و أعداد الكوشة و يرقصون على انغام ال دي جي و اغاني امينة وسعد الصغير , هم انفسهم من كانوا يمطرونها في الذهاب والإياب بوابل من نظرات التحقير واللوم, حتى نسائهم اللاتي يطلقن الزغاريد لطالما لكأت السنتهن سيرتها وسمعتها ومنعن بناتهن من التعامل معها , اعتبر أهل الحارة حبها خطيئة واتهموها بما ليس فيها , انتبهت على دقات هاتفها يعلن عن رسالة إلتقطته من على المنضدة فتحت الرسالة لتجدها كلمة واحدة (( أحبك )) تهللت اساريرها اعادت قراءتها عدة مرات وهي تتحسس سلسال ذهبي حول رقبتها يتدلي منه قلب علية صورة من كان حبيبها أمس وسيصبح زوجها بعد ساعات قليلة ,سرحت بفكرها وتذكرت كيف خرجت من رحم امها تحتضن حبه بقوة كـ زهرة برية اطبقت اوراقها على قطرات الندي بعد أن اضناها العطش , رضعت هواه حليباً, تغمض عينيها على وقع نبضات قلبه, و تفتحهما على خلجات انفاسه,



معجونة هي بعشقه ترى فيه كل الرجال ,لا تعرف عن الرجولة سواه, جعلته وطن , تعيش فيه ويعيش فيها , و لم يكن هو اقل منها شغفاً بحبها يتغزل في عيناها وينظم في هواها ما لم ينظمه قيس في ليلاه من الأشعار , مشاعر مرتبكة و احاسيس متناقضة مابين الفرح والخوف ان لا تكتمل فرحتها استعاذت بالله من الشيطان الرجيم , توضأت وصلت ركعتين شكر لله ثم توجهت اليه بالدعاء والإبتهال ان يتم زواجها ويصلح أمرها , هدأت قليلاً وأطمئن قلبها , إمتلاء البيت بالمهنئين , صواني الشربات والحلويات تطوف بين المدعوين , زميلات الدراسة وصديقات الصبا اصروا على عمل زفه لها على طريقتهم الخاصة ,


انقضت بعضهن ممن لم يسبق لهن الزواج عليها في محاولة لقرصها من ركبتها لتلحق بها في جمعتها عملاً بـ المثل الدارج ,حاولت لملمة ثيابها واخفاء ركبتها وسط اجواء من الضحكات و القفشات الطريفة , اقتربت منها أحدهم لتهمس في اذنها ببعض نصائح ليلة الدخلة ارتبكت فـ ازداد وجهها إحمراراً , هربت خجلاً وركضت بعيداً لتتعانق دقات قلبها مع دقات ساعة الحائط الأثرية التي تتوسط الجدار ,رمقت تلك الساعة بنظرة استعطاف ان يمر الوقت , تبتسم وتلمع عيناها كحبتين من اللؤلؤ , ها هي عقارب الساعة تشير الى السابعة مساء, تحتضن نفسها تدور ثم تقفز كالفراشة في الهواء,تهمس بصوت مخنوق بدموع الفرح باقي من الزمن ثلاث ساعات تفصلني عن حبيبي لأمحو سنوات ظللتنا فيها سماء العذاب و ارض من الاشواك, أثقل كاهلنا فيها جبالا من المشكلات والعقبات لكننا لم نفترق وتمسكنا بهذا الحب و دافعنا عنه , ثلاث ساعات فقط و ستزهر اوراق الأمل ويبدد الظلام شعاع النور الذي طالما عشت من أجله, كفكفت دموعها ,وقفت أمام المرآة تطمئن ان الدموع لم تفسد بشرتها و عيناها وضيعت مجهود خبيرة التجميل التي اخضعتها لجلسات مرهقة على مدي أسبوع لصبغ الشعر و تشقير الحواجب و سنفره البشرة بالوصفات والحمامات المغربية ,


جميلة هي ولكن لتبدو أجمل في ليلة عرسها , وقفت تتأمل فستان زفافها , وتذكرت كم من مرة وقفت امام فساتين الزفاف التي ترتديها المانيكانات في فترينات العرض وكم حلمت ان ترتدي فستاناً منهم وتتأبط ذراع حبيبها , وها هي الأمنيات تصبح حقائق والحلم واقع , فجأة شعرت ببعضاً من التعب و شيئاً من الدوار , حاولت التغلب على ما اصابه , دخلت أمها عليها فـ اخبرتها بما تشعربه من تعب , اقنعتها الأم ان ما تمر به ما هو الا حالة ارهاق نتيجة المجهود الذي بذلته في تجهيزات العرس خلال الأيام الماضية,طلبت منها ان تتمدد على السرير وتسترخي ,تركتها الأم وذهبت لتعد لها كوباً من الليمون بالنعناع , وقبل أن تلقي العروس بنفسها على السرير أحضرت فستان زفافها من على الشماعة ووضعته بجوارها و كأنها تخشي علية من السرقة أو لتتأكد أنه حقيقة , مدت يدها الي دفترها التي تحتفظ به دائماً بجوار سريرها على الكمودينو , فقد تعودت أن تكتب فيه قبل نومها بعضاً من ترانيم الحب في محبوبها , كتبت شئ ما ثم اغلقت صفحاته و احتضنته واغمضت عيناها في محاولة لتهدئة النفس والإسترخاء , مر بعضاً من الوقت , دخلت الأم تحمل كوب الليمون , شعرت بـ إنقباض في القلب عندما لم ترد ابنتها عليها , سقط الكوب من يدها ركضت نحوها حاولت إفاقتها ولكن ذهبت محاولاتها سدي إستغاثت بالمدعوين ,


دخلوا عليها وجدوا الأم تحتضنها وهي تحتضن دفترها , اقتربت صديقتها اخذت الدفتر من بين ذراعيها وقرأت اخر ما كتبت ((أعلم أن فرحتي لن تكتمل فقد عودتني الحياة الا تعطيني ما أريد وعلمتني كيف احزن وأتعايش مع أحزاني حتى أصبح الحزن جزء من مكونات جسدي , لذا عندما فرحت بقوة لم يستطع هذا الجسد التأقلم مع الفرح , و كريات دمي لم تتقبل تلك المشاعر فـ هاجمتها مثلما تهاجم كرات الدم البيضاء الميكروبات , و فشل القلب في تحمل الفرح فتوقف عن النبض ... .. ليكتب أسمي في تاريخ العاشقين العروس التي ماتت فرحاً ))

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى