أحمد عثمان - ساعة في منتصف الليل

الساعة السادسة أقلعت الطائرة وكان النهار قد مضى متثاقلاً يحمل معه عشرين يوماً تؤرق النفس التي لا يهين عليها الفراق وأي فراق كان , إلى أقاصي الشرق حيث تشرق شمسها قبل شمسي بفارق خمسة ساعات, وعدنا لا نلتقي إلا بالذاكرة والقلب الذي ينبض باسم الآخر, فماذا ينطوي عليك بهذه الحال أن تفعل؟ تخيل أنك في منزل واحد مع حبيبك تنام أنتَ, وهو يستيقظ ثم ينام هو, وأنت تستيقظ , فكم سيبدو لك هذا جحيما, فما بالك عندما يكون بعيدا عنك بفارق خمس ساعات بتوقيت شروق الشمس , فأنت لابد لك أن تسترخي بكل ما أوتيت من قوة حتى تستطيع التركيز بالاسترخاء وتتمدد ذاكرتك إلى لا نهاية, لتستجمع كل المشاهد الماضيات التي حدثت بينك وبين الحبيب, وهنا يبدأ الصور تنقلك حيث كانت منذ عرفته حتى فارقك, فتحزن والأسى يأكل قلبكَ دون أي مقاومة تُذكر, وتصير حالتك كمن يرى نبع ماء بعيد عنه ومضة عين ولم يستطع رشف نقطة واحدة منه وهو يكاد يموت عطشاً, هذه حالة مأساوية يعيشها المرء عندما يفقد أنيس قلبه, تلك هي لحظات السفر الصعبة التي تأخذ حلمك بعيداً ويُعل القلب بمفرده ولا يعرف بذلك أي إنسان كان قربه منك إلا الذي قلبه رفيق قلبك , تمضي الساعات الأولى والدمع عصي بعينيك , لقد غادرك قلبك إلى المعلوم المجهول , وبقيت الروح حبيسةً تضج بصدرك تريد مغادرته أيضاً, وأنت لا تستسلم أبداً موقناً , وتمني النفس بعودة الحبيب إليكَ أجلاً أم عاجلاً, فتروح وتجئ متثاقلاً وكل ما لمحتْ عينيكَ شيء يُشابه شيئا من أشياء حبيبكَ ترغرغ الدمعة فيهما , وتقف ترمق كل شيء فيصيبهما التباس بالرؤية, وتنتظر أي فكرة أي معلومة أي حركة مثل صياد صار بآخر قواه التي خارت من شدة الانتظار والتعب الذي أنهك كل أعصابه , (لماذا هذه الحياة مريرة هكذا)؟ هل الحياة تحتاج إلى أسلوب المراهقة حتى تنهكنا, وتؤخر خُطانا؟

هل تفعل ذلك لتعيد إنتاج نوع آخر للحياة, تعبنا ما يكفي من التعب وقد ضجت الكرة الأرضية من ضجيجنا , ألا يكفي أن نشاهد كل يوم عشرات النعوش , ألا يكفي الانهيارات التي تصيب قيمّنا ثم نشد العزم على تدويرها من جديد, كفى أيها الحزن أكلاً لأفراحنا , كفاك جرِّ الأمل إلى الخيبة, دعني أصلح حال إنسان طيب بسيط , وأعود إليك أيها الحبيب المغادر, الذي عندما أنظر إلى صورتك أعرف أنني سأفقد قواي من جديد, وسأفقد أفكاري أيضاً, ولم أتمكن من البحث عنك بينها , أنت لست مجرد فكرة, أنت كل الأفكار التي تغادرني عندما شددت العزم على السفر بيوم السفر, واعلم إنني عندما لامست كفي محفظة سفرك, قد ارتعش قلبي مختنقاً, ولم يعد بمقدرتي أن الفظ كلمة الوداع, وراح الصمت يأكل كل شيء مني, ولا تحسب أنني كنت غير مبالٍ, لكنني كنت أخشى أن أنظر إلى عينيك حتى لا ترى دمعتي, وافتعلت معك شجاراً قبلها كي أغيب. لأنه ليس بمقدرتي أن أقف مودعا قلبي الذي سيغادرني لأبقى مثل ذاك الصياد الذي أعياه التعب, وهو يبحث بكل موجة ربما تحمل إليه بعضاً من ما يريد ويتمنى, فحين غادرت والنهار لم يأتي بعتمته, كنت أعيش لحظات المُصدق وغير المُصدق, وما إن أتت لحظات الليل حتى طغى على عالمي الحيوي عالم الوحدة القاتلة, ومن ثم صرت أدور حول نفسي, أبحث عن شيء لا أعرف ما هو, وأخيرا أيقنت أنني أفتقدك ولا شيء آخر مفقود, كانت نسمات الريح تشكل صفيرا أثناء عبورها من النوافذ التي أشرعتها ظناً مني أنها ستحمل معها رائحة عطرك, وما شعرت كيف يمضي الوقت, حتى لاحت الشمس أشعتها على الأريكة التي سلبتني جسدي المرتجف مثل قبره انقض على عشها صقر جارح فتهاوت بلا حراك, بعد ذلك لملمت قوايّ, وانتشلت نفسي من وحدتي, وذلك عندما خُيّلَ إليَّ أنك قادمة من ذاك الطريق, فانطلقتُ لألاقيكِ, وصار يومي كله راكضاً مثلي, لعلي ألقاكِ في حين ومكان ما, ولم ينتفي عندي الأمل بذلك حتى عاد الليل بسكونه مرة أخرى, وهذا هو طيف الحبيب يحوم في كل أرجاء المنزل ليبدد الوحدة, وليُصبح الشوق أكبر إلى اللقاء, أما كفاك تغريباً للفكرِ تعالي وانثري ما بقي من العمر حولي, ودعي شعرك الشلال يتطاير في فضائي متراقصاَ مع كل قفزة تقومين بها , دعيني أشعر بالأنس وبالضوضاء, لأني اعتدت عليهما صارا من أساسيات يومي, وإن خلا منهما صار الجحيم يتمثل بيومي,أتدرين كم ساعةً أقضيها في ساعةٍ ؟أنا لا أعرف ...

لا تتعبي فكرك لن تهتدي للجواب, لأنني حطمت كل ساعات الجدران, وحتى ساعة يدي أوقفتها, وعدت لا أنظر إليها, لأن لا قيمة للوقت أذا ما كنت أنت تملئيه بتراقصك كالفراشة الربيعية, بكل ليلةٍ هذا الذي ينتابني وأشعر به, ويوم بعد يوم يزداد ضجري يا حبيبتي , لا تسأليني أن أقوم بالتسلية كي ارتاح, ما تركت شيئاً إلا ومددت يدي إليه, فمحطات (التلفزيون)الألف قلبتها.... كتبي أيضاً ...... موسيقايّ أنهيتها....كل شيء لم يُغنِي عنك .... طالت الأيام وتمددت الليالي, أما السكون كنت يوماً قد أحببته, لكنه صار الآن مقيتاً كالظلام فلا أطاقني ولم أعد أطيقه . كفى ... كفى ... تَحضّري وارحلي إلي فالأسفار لن تنتهي, لكن عمري سينتهي وقد لا أعود مشاهداً لك . هذا الربيع أقبل بكل أزهاره وخضرته وأقسم أنه سيرحل إن لم تضيفي إليه حضورك وزهرٌ تَحمليه وعليَّ أن أرويه من ينبوع حبي , لا تتأخري ,فالخريف ينتظر على حافة العمر يتربص بنا, لقد أنهكني وهدني التعب اشتاق إلي التراب ولم أستسلم, ضيعتني الأيام ولم أنثني, كل شيء مفقود بالنسبة لي ولم أفقد أملي ...أنتِ وطني ...أنت شجرة الظل بالحر والقر ,فكوني العَودُ لأملي , خذيني ولا تخجلي, واعلمي دونك أفقد هويتي ويصير القيد هوية معصمي , فماذا أفعل إذا كان حبك ملك قلبي يا وطني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى