مولود بن زادي - الكاتبة توني موريسون.. ذلك الصوت الأمريكي المؤثر

كثيرا ما تترك أنباء رحيل الأدباء عن الحياة أثرا عميقا في نفوس الجماهير العاشقة والوفية. لكن قليلة هي الأقلام التي يمتد صدى أثرها ليغمر نفوس رجال السياسة وأصحاب السلطة والنفوذ في أنحاء العالم. من هؤلاء الأديبة الأمريكية السوداء توتي موريسون، الفائزة بجائزة نوبل في الأدب عام 1993 عن مجمل أعمالها، والتي فارقت الحياة في يوم 5 أغسطس/آب 2019 في مركز مونتيفيوري بنيويورك عن عمر يناهز ال88 سنة.

موريسون المرأة المؤثِّرة

كان لخبر رحيل موريسون عميق الأثر ليس فقط في قلوب محبيها في الولايات المتحدة وخارج أمريكا، بل أيضا في نفوس سياسيين وزعماء كبار ذوي نفوذ من أمثال رئيس الولايات المتحدة السابق أوباما الذي قال عنها في بيان: "كتابات موريسون لم تكن جميلة فحسب، بل أيضا ذات مغزىً، وتحدٍ لضميرنا، ودعوة إلى إبراز مزيد من التعاطف". وفي أوربا وصفت وزيرة اسكتلندا الأولى، نيكولا ستورجيون، وفاتها ب "خسارة كبيرة للغاية". ستورجيون عبّرت عن تقديرها لمثل هذا الصوت المؤثر قائلة: "العالم يحتاج إلى أصوات مثل توني موريسون اليوم أكثر من أي وقت مضى." وزيرة اسكتلندا لم تخطئ عندما قالت ذلك، فقد كان المواطنون السود في أمريكا يعانون من الميز العنصري والظلم وعدم تكافؤ الفرص والفقر والحرمان والجريمة والعنف، فكانت لهم ذلك الصوت القوي والشجاع القادر على كشف هذه المعاناة للرأي العام والدفاع عن حقوق هؤلاء السود ومحاربة هيمنة البيض البارزة في شتى الميادين بما في ذلك المدارس والجامعات. فاستطاعت بفضل نضالها أن تكون عن جدارة واستحقاق أول امرأة سوداء تحصل على مقعد في جامعة برينستون، والذي كان حكرا على الرجال البيض! توني موريسون لم تؤثر في نفوس الجماهير والسياسيين فحسب، بل أيضا في جيل من الكتاب والمفكرين من أمثال الكاتبة المعروفة بريت بينيت.

كاتبة مميزة وقارئةٌ ممتازة

لم تكن توني موريسون كاتبة مميزة فحسب، بل أيضا قارئة بامتياز. والقراءة الجيدة في نظرها هي القراءة الواسعة والعميقة التي تعين المرء على إغناء ثقافته وتوسيع أفاقه وتنمية خبراته وتطوير آرائه. قالت عنها (جريدة هارفارد) الأمريكية: "ناشدت موريسون الطلبة لأن يقرؤوا قراءة واسعة الآفاق عميقة، وهو ما لم تكتف بالدعوة إليه بل مارسته شخصيا." وأضافت الصحيفة: "خلال كل السنوات التي كانت فيها كاتبة، قرأت (توني موريسون) التاريخ الاجتماعي وتاريخ الفن والأساليب الأدبية والنظرية السياسية وتاريخ الدين والأنثروبولوجيا والحركة النسائية..." وقد انعكس أثر هذه القراءة المتنوعة الثرية في كتاباتها التي اتسمت بثراء اللغة وحسن الطرح ونصاعة البيان وتنوع الأفكار.

الإيمان الراسخ بالذات

اللافت أيضا في شخصية موريسون نزعتها إلى التحرر والاستقلال والاعتماد على الذات، وهو ما انعكس أيضا في كتاباتها التي بدت مميزة ومختلفة عن كتابات معاصريها. فلم تخطئ الكاتبة والمنتجة التلفزيونية شوندا رايمز عندما وصفتها بالمرأة التي "نشأت وهي ترغب في أن تكون هي فحسب." وهكذا، رسمت موريسون لنفسها سبيلا مختلفا، مستقلة بذاتها، معتمدة على نفسها، مؤمنة بقدراتها الشخصية، لا يصدها شيءٌ عن تحقيق غاياتها وإثبات جدارتها، وهي القائلة في موضوع الاعتماد على الذات: "إذا كان هناك كتاب تحدوك رغبة جامحة في قراءته ولكنه لم يُكتب بعد، يجب عليك كتابته"

واقع السود محور اهتمامها

لقد استطاعت توني موريسون، بفضل كفاءتها اللغوية ومهارتها الأدبية ورغبتها الفولاذية في إيصال صوت السود إلى المجتمع الأمريكي والدولي، أن تثير أنظار العالم إلى هذه الفئة المهمشة في المجتمع الأمريكي. كان ذلك من خلال كتابات وصفتها صحيفة (الغارديان) البريطانية ب "كتابات ملهمة، عبرت عن التجربة الأميركية الأفريقية"، أحسنت فيها وصف تجارب الأمريكيين السود وصراعاتهم اليومية لأجل الحياة في مجتمع أمريكي يطبعه الميز العنصري وعدم تكافؤ الفرص. نلمح ذلك جليا في رواية (أغنية سليمان)، كتابها الثالث، الصادر عام 1977، والذي يعود بالقارئ إلى ثلاثينات القرن الماضي والصراع الدموي بين السود والبيض في أمريكا وما صحبه من اغتيالات وثأر بين الطبقتين. المؤلَّف يتناول أيضا سعي السود للعودة إلى أفريقيا فرارا من أغلال العبودية في أمريكا.

حتى قصص الحب التي كتبتها توني موريسون، فإنها لم تخلُ من وصف معاناة المواطنين السود في المجتمع الأمريكي. يتجلى ذلك في روايتها الرابعة بعنوان (تار بيبي) الصادرة عام 1981، عن قصة غرامية بين أمريكيين من طبقتين مختلفتين، امرأة سوداء متعلمة وثرية تدعى جادين ورجل أسود غير متعلم وفقير يدعى سون. يلتقي بطلا الرواية في جزر الكراييب وبعد ذلك يعودان إلى الولايات المتحدة حيث يجدان صعوبات في التأقلم. معاناة جادين وسون هي إشارة إلى ما يعانيه الأمريكيون السود في حياتهم وعلاقاتهم. توني موريسون لم تكن الوحيدة التي تناولت قضايا السود في المجتمع الأمريكي، فقد خاض في هذه المواضيع كثير من الكتاب. لكن، ما ميزها عنهم جميعا هو معالجة هذه القضايا بأسلوب رمزي، وهو ما نلمسه في رواية (تار بيبي). فضلا عن الرمزية، تميزت روايات موريسون بقوة البصيرة والمضمون الشاعري الذي يمنح الواقع الأمريكي ملامحه الأساسية في قالب جميل.

سجل أدبي ثري ومعبر

رواية (تار بيبي) تعدّ اليوم من أبرز إنجازات توني موريسون في مشوارها الأدبي الطويل الذي بدأ عام 1970 برواية (العين الأكثر زرقة) عن فتاة سوداء تتوق إلى الحصول على عينين زرقاوين. الرواية تتناول الأمراض النفسية التي يعاني منها السود في أمريكا ومنها الشعور بعقدة النقص نتيجة الفوارق الاجتماعية والميز العنصري. بعد ذلك بنحو أربعة أعوام، أي في عام 1974، أصدرت رواية (سولا) التي تنكشف عبر صفحاتها ملامح شخصية الكاتبة نفسها. قالت عنها صحيفة (ذو نايشن) الأمريكية: "في شخصيات مثل سولا، تظهر أصالة توني موريسون وقوتها." في عام 1975، رشحت رواية سولا لجائزة الكتاب الوطنية. لكن موريسون لم تحقق شهرتها إلاَّ عام 1978 عندما أصدرت روايتها الثالثة (أغنية سليمان) التي اختيرت كتاب الشهر وهي أول رواية لكاتب أسود يتم اختيارها بعد رواية الكاتب ريتشارد عام 1940 وقد حصلت أيضا على جائزة النقاد الوطنية.

بعد ذلك انتظرت موريسون ما يناهز عشر سنوات لتنشر أشهر رواية في سجلها الأدبي بعنوان (محبوبة) عام 1987، وهي الرواية التي ترجمت إلى عدة لغات منها العربية والفرنسية والإسبانية والألمانية والإيطالية. تناولت فيها مسألة الرق في القرن التاسع عشر من خلال شخصية مارغريت غارنر التي أقدمت على قتل ابنتها من لحمها ودمها لأجل إنقاذها من العبودية. وقد أثارت هذه الرواية ضجة وجدلا في بداية الأمر لفشلها في الفوز بجائزة الكتاب الوطنية وجائزة النقاد الوطنية، فقام عدد من الكتاب بالاحتجاج على ذلك لتتوج بعد ذلك بجائزة Pulitzer Prize for fiction وجائزة الكتاب الأمريكي.

تألق توني موريسون بلغ ذروته في عام 1993 عندما حصلت على جائزة نوبل للآداب. ولم يتوقف التكريم عند هذا الحد. ففي عام 1996، فازت موريسون بميدالية المساهمة المتميزة في الآداب الأمريكية التي تمنحها مؤسسة الكتاب الوطنية تقديرا لمساهمتها في إثراء التراث الأدبي الأمريكي. وفي عام 2012 ، منحها الرئيس باراك أوباما وسام الحرية الرئاسي.

في يوم 5 أغسطس 2019 فقدت أمريكا والعالم الأديبة توني موريسون، لكن اسمها يبقى خالدا منقوشا بأحرف من ذهب في سجل التاريخ. ستُذكر توني موريسون لكونها أول امرأة أمريكية سوداء تفوز بجائزة نوبل للأدب. وستُذكر لإسهاماتها الأدبية العظيمة، وجهودها المميزة لتصوير مسلسل الميز العنصري الأمريكي الدرامي وإيصال صوت المواطن الأمريكي الأسود إلى العالم. وستُذكر لقوة إرادتها، وثقتها الكبيرة بنفسها، وإيمانها الراسخ بالاعتماد على الذات والاستقلال والتحرر، وهي القائلة: "إذا أردت أن تطير، عليك أن تتخلّى عن القذارة التي تثقل كاهلك." ومهما اجتهدنا، فإنه سيعسر علينا إنصاف أديبة في منزلتها وتقدير قيمة امرأة في مقامها وبقوة شخصيتها. فلم تخطئ صحيفة (الغارديان) عندما قالت عنها: "يتعذر علينا تقدير عظمة توني موريسون وتأثيرها بالكامل.. كاتبة بهذا القدر من القوة والجاذبية والإبداع."



مولود بن زادي.. طيور مهاجرة حرة بريطانيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى