أحمد يعقوب ابكر - حكاية ام وطفلها الذي شاخ

شتاءات الخرطوم

قالت والدتي وهي متّكأةٌ على ذكريات طفولتي، حينما رأتني شاحباً كشتاء المدينة،وانا الجُ باب منزلنا واثار الازمنة الكلبية على وجهي الذي غطاه التعب : ماذا فعلوا بك طفلي العزيز؟.
هاأنذا أعود بعد غيبة امتدت لعقد من الزمان ، عشرة أعوام تهالكت فيه الازمنة ، وغطى الظلام تخوم الانحاء ، وركض الهواء من تلك المسامات،سنين عدداً من صلب الذات على حقولٍ جرداء، والهرولة المستمرة نحو مواسمٍ لم تزهر بعد !وأنا في ذلك التيه والغور العميق، أغني اناشيد العشب للزهرة ، وادوزن اوتار الليل علّني اسمع هسيس فجر يتنفس من نار ( التُكل ) الموقدة كنار المجوس.
في تلك الحقب التي كنت فيها تائهاً وغريباً ويتيماً، تذكرت قسمي قبل ان اغادر المنزل وامي تغالب دموعها وتتظاهر بشجاعتها المعهودة ، كان وداعاً طقوسياً لطفلٍ يقطع الحبل السري ويغادر الرحم للابد ،وفي تلك الليلة الليلاء كان المساء في لون المرارة وشهقة النحيب ، رفعت أمي المصحف بيدها اليمنى وبالاخرى صحناً من الطحين ، طلبت مني ان اضع يدي الغضة على ظهر المصحف ، وضعت يدي على رأسها المقدس وارتجلت صلاة أو قسماً " اقسم بك ايتها الام المقدسة وبالحليب الذي شربته ان اكون وفياً للارض ورائحتها وأن لا أنسى في الغربة البعيدة، صلوات الاسلاف ومسبحة جدي العتيقة، وغثاء الشاة الحلوب ، وعصيدة الدخن والسمن، وان أؤدي صلواتي في انبهاقات الفجر ، وان لا أقرأ ماركس وسارتر ابداً " وقال لي صوتٌ غريب نبت من ارخبيلات دماغي المشتت: لاتطل الغياب،وانتبه لنفسك في بلاد الغرباء ، وابتعد من اولاد البحر والغرب واولاد الحرام واولاد اللاولاد.
(2)
وفي تلك الازمنة الازمنة الخريفية الماتعة ،دثرتني والدتي بالدموع ،وكان ابي الذي انتبذ مكان قصياً تحت شجرة الفراولة او السدر ، يؤدي صلاته التي لن تنتهي ابداً ، اشار الي بالمجئ، جثوت على ركبتي في مصلاته ، انخْتُ قلبي ، وتوسدت التراب، وضع يده على رأسي المحلوق الذي نبتت فيه طحالب الرحيل، تمتم بأدعية سحيقة موغلة في تشظيها لم أدري كنهها أبداً ، أقامني صبّ زيت السمسم على رأسي ، صلبني بنصائح لم اعد اتذكرها ، او باتت لا تعني لي شيئاً، قال لي ردد معي " ....الفاتح لما اغلق ...ناصر الحق بالحق والهادي الى صراطك المستقيم ..." رددت معه ادعيته ، خلتني كأني أتهيأُ لغزوة تبوك! بكت اختي الصغيرة حينما لم التفت اليها ، ناحت حمامةٌ كانت تسترق السمع ، أما كلبي الوحيد فقد هز ذيله وكأن الامر لا يعنيه ! ياللازمنة الكلبية والحقب الخراء، تأبطت مخلاتي المصنوعة من جلد فهد اصطاده جدي عام1921على تخوم ونجوع براري وادي أزوم ،وأعطاه لابي الذي بدوره مرر لي هذه المخلاة الانيقة والتي تحمل تاريخ تلك الجغرافيا وحنين الصبا للهو والصيد وشئ من بقايا رائحة جدي ، حملت زادي الذي يتكون من أحاديث ابي ومسامرته لي عن قريته التي ولد فيها قبل خمسين عاماً قبل ان يُيمّمُ وجهه شطر ( دار صباح) متجهاً الى غابات وصحاري وحروب ولا سلام داخلي .
(3)
دخلت الخرطوم في شتاءٍ اشعثٍ أغبر، كما دخل نابليون مصر غازياً او فاتحاً،طرقت باب منزلنا ، استقبلتني روائح الامس بعبقها ، احتضنتتي نبتة الصبًار، فتحت شجرة الليمون ازرعها وسقتني عصيراً من خشوعٍ ، شممت التراب وجدت رائحتي لم تزل في الانحاء، جاءت اختي التي تركتها وهي في مهدها ، تسألني من أنت؟قلتُ : رجلاً من أقصى المدينة يسعى،رجلٍ تائهٍ في الفلوات يقتات العسل والجراد ، قالت: أأنت يوحنا المعمدان ، قلتُ : لا أنا أحمد بن يعقوب ، واذا بها تصرخ (أمي أمي ولدك جاء)، حلقت أمي على جناح البراق ، وهبطت فوق رأسي بكاءاً وتقبيلاً احتضنتني طويلاً – حضناً عبر بي الى تخوم رائحة الحليب الاول ، وساقني الى ( شاي المغرب) واخذني الى ( بخسة اللبن) وصاج الكسرة المعتق (بالطايوق)، وقهوة العصاري ثم اعادني نفس الحضن الى الام المقدسة مرة اخرى، قالت خلتني فقدتك يا طفلي العزيز، قلتُ: لم أفقد نفسي بعد، عمّديني يا اماه بالحليب الراشح مرة اخرى ، عمّديني يا أماه بالطين والثورة ، واعطيني روحاً جديدة، فلقد شخت ، روحي ملقاة على قارعة الطريق ، والسابلة أنظري الى السابلة كيف يحدقون ، ضميني مرة أخرى، أريد ان اعود الى الرحم مرة اخرى فالمدينة شتاءاتها قارسة البرودة ، لقد رأيت ...... قالت لي ماذا رأيت ياطفلي؟ قلت : في مجرات الذاكرة المضطربة المشوشة والملتاثة بالمشاريع الوهمية ومنافقات التحزب وغياب المشاريع الوطنية للبناء ، زمن التفكك والخراب وتوحش الضمير اللانساني والمستقبل الاسود ، وفي أزمنتنا الكلبية هذه؛ على مرمى نظرة من الضفة الاخرى رأيت انقشاع سحابة اللاتماسك وراء ستار زجاج المدن ، الرتابة ، صهيل خيول الخوف ، الكلمات المبتذلة ، هرولة الجنود ، الحيض على الذات ،البول على العقول، البثور والخراء في وجه ناقة الحضارة، وهاانذا في الربع الاول من الالفية الثانية يا امي ، في عقدي اللامعلوم والدونكيشوتي وفي حقب البحث عن زمني الضائع كمارسيل بروست ـ أقول لروحي المتصدعة وانا في هدأة الاغساق :صلّي اليوم فقط ، توضأ بعُقدِك ونرجسيتك الطاغية ، صلّي فرضا أو نافلة تزجي بها هذه الدهور ، اتدرين يا امي لقد : إمتشقت لواء العناد محاولاً لجم عقلي الذي يأبى ان يصلي لاله متوهم ، قررت أن أصلي لانني فقط موجود وفقا لكوجيتو ديكارت، ولتيقظات بودا ، على الفسقية ركعت أو سجدت لايهم؛ فالمهم أنني أغتسلت وتوضأت بمحابر نيتشة وهنري ميلر ، وتناسيت عن عمد مسجد الحمراء وكنيسة المهد وطقوس الزار ، وارواح الاسلاف وقرع الطبول ،وحين بحثت عن قبلة أُيَمِّمُ وجهي شطرها ، رأيت المرأة ، والشعر ، والوطن والمتاريس ، والمناحات ، الثورة المسروقة ، أولاد البحر ، اولاد الغرب ، اولاد الزنا، وطحالب المنفى ، والسراخس المحنطة واميبا الازمنة الانشطارية ،والجنجويد ، ومثقفي الباطل ، والالهة المصنوعة من عجوة، والكتب المكدسة فوق كراسي الغرفة ومنفضة السجائر ، وبضع كؤوس من خمر لم تجف بعد على قميصي، وفي الافق رأيت الغزلان مصابة بانفلونزا العصافير ! سبحانك ، سبحانك يا امي ،آنها قررت في اعماق ماضيّ السحيق ان استقبل الذات وأؤدي صلاة خاشعة ، وسوف ارفع أكفي لاناي العليا وساتمركز في لوغوسي الذي توهمته ،وإذْ أتجه مُيمِّماً وجهي شطر قدسية ذاتي ، خاشعاً عارياً الا من الكلمة التي صارت جسدي – سابحاً في بحور العرفان وبركات الاسلاف ويباس الطبيعة والدلافين الزرقاء أرى طيفاً أو لاأرى أفقاً ،إني أرى هشاشة الانسان وضعفه ، هرمونات الموت تحقن في الشرايين والاوردة، الفراشات المذعورات من حملات الورود الانتقامية ،صهيل الخوف في هذا الكوكب الابليسي ، تفسّخ وجه ما يدعى بالحضارة الانسانية، البثور البثور في وجه روح البشر التافهين ،المنافقين والتواقين لارتكاب الاثام .
وأُدرك الان يا امي، أنّ روحي هائمة على سطح المياه والغمر ،وأن افضل طريقة لمواجهة هذه الحلكة والانشطارات ، هي الكتابة ، وهاأنذا أكتب بكل خبلٍ في ازمنة اللاتماسك وفي حجيم القراطيس البيضاء والمحابر الزرقاء.
قالت امي : أنت تسير في الخطر وتأكل تحت سقف الخطرـ وتكتب في جفون الردى والردى حي لا يموت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى