المختار السوسي - الدكتور طه حسين في إلــغ..

عجبا كيف نال الدكتور طه حسين الجواز من سفارات الحكومية الحامية، حتى تأتى له أن يفوز بما كان يحلم به كثير من كتاب الشرق، فيرجعون دونه خائبين، يضرب كل واحد منهم أصدريه ويمسح مذرويه(1)، وهو يلقي برأسه المطرق على صدره ويلمح ببصره كيف لون خفي حنين اللماعتين في رجليه(2). إنها لمعجزة لطه، ومفخرة يطل منها على كتاب (مصر)، وأدباء كل الشرق من قمة شماء.

جلست في غرفتي فولج علي أناس من (السراغنة) لا أعرفهم، يتقدمهم رجل ممن لهم بي اتصال، ويجرؤ على أن يهتك سجف غرفتي علي بلا إذن بأناس غرباء عني، فسلموا علي مقدمين هدية، كما هي عادة الزوار الطارقين في بلدنا، فصرت أكلمهم وأنا أتذبذب في حيرة، لأنهم ربما يوقعونني فيما لا أحمد مغبته، وربما يصل الخبر لمن في مركز المراقبة (بتفراوت) فيقومون من جديد ويقعدون، وتجري السيارات بهم إلى (إلغ) ليتداركوا الأمر قبل أن يفلت نابليون بونابارت من جزيرة (البا) أو يباغت حنبعل القرطاجني بجيشه مدينة (رومة)، حرت في أمري فلم تستطع الهدية أن تكفكف من رسني، ولا أن تؤثر في حالي، على خلاف ما يعهد من أبناء الزوايا، إن قدمت لهم الهدايا، فصرت أجاوب القوم باقتضاب، وأنا أستحيي أن أجاوبهم بالتأنيب حين وغلوا بلا استئذان، فكانت طلبتهم أن أتوسط لهم عند فلان في (تادلة) ليخطبهم في بنته، فقلت لهم: إنكم ترون من حالي، وتعلمون أنني لا يمكنني الاتصال به، فأنا هنا في (إلغ) وقد حيل بيني وبين الاتصال بالعالم، وقد يمر الشهر والشهران دون أن أتصل بعدد من أعداد جريدة”السعادة” التي يعظم في نفسي وقع ما تنفحني به من أخبار عامة(3) يكفيني منها أن أعلم أن القيامة لم تقم بعد، وأن القارات والجبال والبحار ما زالت في أماكنها بأسمائها المعروفة، فكيف يتأتى لي أن أقوم بما تأملونه مني، ثم رددتهم حتى خرجوا، فأكببت على كتاب جديد لطه حسين، لا أدري أي سعادة اتفاقية، أو عناية ربانية، ساقته إلي، فصرت ألتهمه بتشوق زائد، وأنا أسبح في أفكار صائبة عالية، لا نعهد صدورها إلا عن الكتاب العظام الممتازين، كالدكتور طه حسين، في عباراته الرشيقة السهلة التي تزيد تلك الأفكار رونقا وجلاء، حتى لا يدري الإنسان هل يقرأ العبارات ليصل من خلالها إلى الأفكار، أو يقرأ الأفكار مباشرة غير محجوبة بخط ولا بكلام، فيفتتن، ولكن لا يدري بأي الرشاقتين ولا بأي الجمالين:

فكأنما خمر ولا قـــدح = وكأنما قدح ولا خمــر(4)

فكان من الأفكار التي حملتني على أجنحة السرور، وسقتني دهاقا من الحبور، (فصل) عقده الدكتور طه حسين للمعاني التي أخذها كل من شكسبير، وفيكطور هوكو، ودانتي وكوت، ولامارتين عن العرب. فيأتي بالمعنى المعروف عن جاهليي العرب في بداوتها. وكثيرا ما يكون هذا المعنى مما يقل أن يقع فيه الحافر على الحافر. فيقابله بما يقوله أحد هؤلاء. ثم يوازن المعنى العربي في جلائه ووضوحه، بالمعنى الغربي في تعرجه والتوائه، فيحكم للعرب بالسبق.

فسار الدكتور العبقري طه حسين كذلك في عشرات المعاني. ويؤيد أن كل معنى منها لم يصدر إلا عن التفكير العربي البدوي البحت.

ولا يمكن أن يكون إلا كذلك. ويدعم ما يقول بحجج يواليها ساطعة ناصعة، ويقول: إن اعتداء الغربي على المعنى قد أفسد طلاوته، وشاب عجمته حلاوته. وأنا أعلم- كما يعلم جميع قراء العربية- أن الدكتور طه إذا تصدى لشيء أتاه من كل نواحيه، ويعاني إيضاحه بشيق أسلوبه، حتى يضع المعنى المقصود على طرف التمام.

ملك علي ذلك الفصل مشاعري، ووافق مني نعرة عربية، لعلها كامنة في دماغ كل شرقي مسلم أيا كان. فنويت في نفسي أن أشكر الدكتور طه على هذا الفصل شكرا جزيلا. فإنه قام خير قيام لا ينتظر إلا من الموفقين أمثاله. ولا يتصدى له ثم يستوفيه كما ينبغي إلا من خاض آداب اللغات على اختلافها. فقمت إليه، وقد كان نازلا في بيت من دارنا في(إلغ)، وقد سمحت له الحكومة أن يتجول في بلاد المغرب. بشرط أن يحمل معه نسخة تامة من كتاب (الأغاني)، كأنها تريد أن تذكره بجولته التي كان يجولها في بلاد (فرنسة) أيام كان يكتب (حديث الأربعاء) فتزيده بهذه الذكرى إيناسا وحسن ضيافة(5)، ومن الذكريات ما يستثير من الإنسان ما لا تستثيره رنات المثاني والمثالث من (المعزف)”بيانو”.

وقفت أمام البيت الذي ينزل فيه الكاتب الكبير: فقلت بصوت عال: (السلام عليكم)، فأجابني:( وعليكم السلام) بصوت رنان، كأن صاحبه تربى في بادية عبس وذبيان(6)، ثم أذن في الدخول، فوجدته مستندا إلى ثياب وراء ظهره(7)، وقد افترش حصيرا غير خلق وزربية لا تزال تحتفظ ببعض جدتها، فمد يده فصافحني، ولم أصادف عنده أحدا. ورأيته ذا خذ مستطيل، وأنف أقني، وجبهة فيها عرض، ففاتحني المساءلة بعربية فصيحة، متزنة النبرات، لا غنة فيها ولا ترقيق، فقلت له وأنا أعرف أن الصواب أن أعرفه بنفسي، لأنه يجهلني كل الجهل، حتى ما يمكن للبصر أن يستنتجه ببصره في اللحظات الأولى إذا صادف من لم يره قبل، فإن الكاتب الكبير قد حرم منه منذ حرم كريمته.

قلت له: إنني ممن ولد في هذه القرية البعيدة عن العالم المتحضر، ثم حدتني السعادة فزاولت من العربية علومها وآدابها مما حولني من مسلاخ بربري(8) إلى مسلاخ عربي فكرا وذوقا وغيرة وشعورا وعواطف. وقد تخرجت من(كلية ابن يوسف) ثم من (القرويين)، وزاولت الحياة العصرية وأفكارها، وقرأت لغالب كتابها ومفكريها الشرقيين، وكانت كتب حضرتكم، يا عميد كلية الآداب في (مصر) مما حظيت بقراءة جملة كبيرة منها؛ وإني بهذا التعارف القديم بين أرواحنا، أقدم نفسي لحضرتكم، أيها الأستاذ الكبير لتحظى منا الأشباح اليوم بما سبق أن حظيت به الأرواح أمس. (أقول) ذلك، وأنا أحاول أن أملأ أذن سامعي بعربية فصيحة على قدر جهدي(9) لتسترد مسامعه من بهجتها ما فقدته منذ ابتدأ الأستاذ الجولة في بادية (سوس) الشلحية، التي لا يتخاطب فيها مع الناس إلا بترجمان إن وجده، فقال الدكتور: الحمد لله الذي أظفرني اليوم بأحد إخواني أصحاب الثقافة العصرية، وممن انخرطوا في التفكير الحي، والشعور الوثاب(10) فأهنئ (إلغ) بابنها القائم فيها بدور العربي المبين. ثم قال: وأي كتاب من كتبي يعجبك؟ فقلت: ليسامحني الأستاذ إن رآني في صراحة ما تعودتها إلا منه ومن أمثاله، فقد طالعت جملة من كتبك التي تيسر لي، فاستفدت منها كثيرا، وإن كان يظهر لي أن غالب كتبك، في نظري، أمشاج أخلاط، فيها مقبول ومردود، وما يعرف وما ينكر، وأولاها عندي وأسلمها من هذا الاختلاط من بين كتبك الأدبية هو: (حديث الأربعاء)، فقال: عجبا منك يا هذا عجبا، ملت إلى مجموعة مقالات لا أحتفل لها، ولا أهتبل بكتابتها، إلا لأستعين بها على زيادة دراستي لأدب العربي. فقلت: إنه أفضل كتبي.فقال: فسامحني أيضا بدورك إذا قلت لك: إن ذوقك ليس بذوق عصري مثقف، وقد غررتني بما قدمت به إلي نفسك. فقلت: مهلا أيها الأستاذ: إن (حديث الأربعاء) لا يعجبني منه إلا أنك تشهد فيه للعروبة بأن أدبها حي؛ توجد من بين أقوال شعرائه آيات لا تقتصر عن الآيات الإنكليزية من أقوال شكسبير، والإيطالية من أقوال دانتي، والألمانية من أقوال كوت، فهذا ما يعجبني من الكتاب لا غير. وأما مثل جعلك حياة أبي نواس مرآة لحياة (بغداد) في عصره تهتكا واستهتارا؛ فإن ذلك من الخطإ الصراح في نظري؛ ومن خطل الرأي الذي لا يكاد يبدو بادئ ذي بدء؛ إذ حكمت عليها كلها حكما واحدا عاما؛ فأين أنت من آلاف مؤلفة من الفقهاء والمحدثين والصوفية الذي لا يكون التأثير حقا في أي عصر من عصور الإسلام لسواهم. و(بغداد) إذ ذاك تطفح بهم حتى تدفقت من أطرافها. أما تستحضر وأنت تحكم ذلك الحكم أن الخيزران أم الرشيد أطلت يوما من قصرها، فرأت (بغداد) متموجة إلى جهة باب (خراسان) وقد ثار الغبار إلى عنان السماء، والناس قد ركب بعضهم بعضا زحاما(11) وفي الأفق بضعة أفراد أقبلوا إلى جهة الجموع المحتشدة المتموجة، فقالت لجواريها: ما الذي عرا الناس حتى قامت قيامتهم، وخرجوا هكذا كأنما هم في يوم العرض؟ فقالت عجوز متجالة ممن يخلف إلى القصر: إن الناس سمعوا بمقدم عبد الله بن مبارك، عالم (خراسان)، فخرجوا ليتلقوه. فقالت الخيزران: هذا هو الملك. لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بالأعوان والشرط. فقال الدكتور طه: إنني لم أغفل عن هذه القصة وأمثالها، مما يقال إذ ذاك في أمثال كتب المحدثين عن مجالس أكابرهم حينئذ؛ إذ يقولون إن أحدهم يجتمع في مجلسه خمسة عشر ألفا أو أكثر؛ وأنهم لا يبلغهم السماع إلا بمسمعين يبلغ بعضهم بعضا أقصى ما في وسعه من رفع الصوت، ولكن أرى أن كل ذلك منتحل(12)، وإلا فكيف يعلم أهل (بغداد) كلهم بمقدم عبد الله بن المبارك، حتى يثوروا هذه الثورة في وقت واحد، إلا إذا كان هناك من يزعم أن المذياع موجود أيضا إذ ذاك، فيأتي بما يختم على هذه الأكاذيب بخاتم لا يشك فيه تزييفا. والتزيد من كل جنس من أجناس الطوائف متى تحدثوا عن أسلافهم معهود، وها أنت ذا حين حكيت حكاية الخيزران زدت من عندك جملة ليست في التاريخ. تريد بذلك بهرجة حديثك، والتأنق فيه، لكي تؤثر علي، وهيهات أن يؤثر مثل ذلك في مثلي، بعدما بنيت أساس أبحاثي على قواعد ديكارت(13). فقلت له:عفوا أيها الأستاذ إن كان هناك جملة زائدة، فإني هنا في (إلغ) بعيد عن الكتب وعن المراجعة، منذ نفتني يد الاحتلال، وحالت الكوارث بيني وبين من تزداد بهم معلوماتي. فلا يلاحظني الأستاذ كما يلاحظ من تمت ثقافته، واستولى على ناصية العلم الحديث، فما أنا في هؤلاء- ولا أقصد هضم نفسي- إلا بمنزلة ذنب الناقة من أنفها، على أن ما يراه الأستاذ من أن المحدثين يتزيدون مبالغة حين يقصدون قصص أسلافهم ، وربما تستدل حضرته على ذلك بأن تلك الآلاف المؤلفة التي تذكر، لا يسعها جامع، حتى الجامع المنصوري الذي كان أوسع الجوامع في (بغداد) ما يراه يصدق على كل إن صدق في جزئية واحدة، ولعل مولانا يهدم قاعدة ( ديكارت) حتى القاعدة المؤسسة على التواتر الحقيقي والمعنوي، وذلك- ولا شك- مردود. فقال: أحسب أن لك من الذكاء ما كنت تنجح به، لو التحقت برفيقك الشيخ المكي الناصري المغربي؛ فقد سمعت أنه كان نجيبا وخطيبا مفوها قبل أن يرتحل إلينا (بمصر). وأدل دليل على ذكائك هو ما ذكرته من أن الآلاف المؤلفة التي يذكر المحدثون أنها تجتمع في مجلس من مجالس أسلافهم، يكذبه الواقع، وساحات المساجد قلما يتجاوز أوسعها وأفسحها لآلاف لا غير.

ومما يستعظم: ما يذكرونه من أن أسماء تلك الجموع تقيد كلها على قراطيس، يختم عليها الأستاذ، وتؤرخ باليوم والشهر والسنة، فأين المكاتب المتعددة التي تتصدى إلى تلك العملية العظيمة، وهب أن عدد الحاضرين لم يتجاوزوا أن يكون أقل ما يذكر أن يحضر في مجلس من تلك المجالس، ولنقدره بعشرة آلاف، وهل يظن الإنسان أن رقم عشرة آلاف اسم بالترتيب سهل، ما لم يتوفر كتاب كثيرون في ساعات كثيرة، وهذا الذي ذكرته أيها الإلغي المدعي للذكاء- ثم أتممت عليه- هو بنفسه ما وقف لي حاجزا دون أن أقبل ما في تلك الكتب(14). فقلت له: كأن الأستاذ فهم عني أنني أرد ما يقوله المحدثون عن تلك المجالس، لا والله لا أقف موقفا للرد عليهم في حياتي، وهم عماد ديني، وعزة قومي، وآبائي في العلم. وإنما أتيت بتلك الجملة في عرض ما ربما يتخيله الأستاذ، فيدعم ما يذهب إليه من ذلك، ثم كان العجب عندي أن تفجر سيدي الدكتور وراء تلك الجملة التي ألقيتها جزافا كأنها استدلال محكم البراهين، ربما يغتر بها من لم يخالط كتب المحدثين، ولا عرف كيف تثبت القوم، على أنني أقف محاميا دونهم، وليسامحني الأستاذ في ذلك ، فإن الحق يعلو ولا يعلى عليه. وأنا بهذه المجاملة أفتخر، وأجر ثياب الخيلاء. فقال: أحسبك فطنا تنتمي إلى الذكاء ، ولو كنت على ما أحسبه منك في تلك الجملة، فبنيت عليه ما بنيت. ولكن سامحني الآن أن أسحب ذلك الوصف لأرده إلى حقيبتي، حتى أجد في (الجزائر) أو (تونس) من ربما يستحقه، حين أعوزني من يستحقه في حاضرة المغرب وباديته، لأن المستحق لهذا الوصف مستحق أعظم استحقاق لأعظم وصف، فلا يشاركه فيه مستحق آخر(15). فقلت له، وقد ضربت على مجاذبته لسعة صدره، ولطف حديثه، وممادته النفس لجليسه:

بودي يا - حضرة الأستاذ- أن لا أخلع خلعة الذكاء التي شرفتني بها يا عميد الأدب الدكتور الكبير، وأفردتني من بين أبناء جلدتي، وطلبة قطري، ولكن الأوصاف معدودة من الرزق، والله يرزق من فضله بغير حساب رزقا آخر، ثم أراجع سيدي الأستاذ فأقول له: إن كان الفقهاء والمحدثون متهمين عند حضرتكم بالتزيد في أخبار أسلافهم، فما رأيكم في الذي يذكرونه في غير ما يرمون فيه بالتزيد، كالحكاية التي تحكي أن القاضي عبد الوهاب، وهو من هو في (بغداد)، جلالة وعلو شأن، ضاقت به الحياة هناك، بضيق ذات اليد، فخرج راحلا فشيعه آلاف من أصحاب الطيالس، وأغنياء ( بغداد) وسراتها، فبكوا بكاء مرا على فراقه. فحين جاشت الصدور، وطاشت النفوس، وبلغت القلوب الحناجر، وأخذ التوديع بالأكظام، والأكباد تذوب بالفراق، وقف عبد الوهاب، فقال: والله يا إخواني لو وجدت(16) بين ظهرانيكم قرصا كل نهار، لما ارتحلت عنكم، فأطرقت الرؤوس، وخفقت الأصوات وهدأ نشيج البكاء. وبعد ساعة وقف القاضي عبد الوهاب ومشيعوه كما يقف أصحاب ندوة جامعة في دقيقة صمت لتذكار ميت.

ثم هتك القاضي ستار السكوت، فقال: وداعا وداعا، ثم استوى على كور ناقته وهو يقول رافعا عقيرته:

سلام على (بغداد) في كل موطن = وحق لها مني سلام مضاعـف
فوالله ما فارقتها عن قلى لــها = وإني بشطي جانبها لعــارف
ولكنها ضاقت علي بأســرها = ولم تكن الأرزاق فيها تساعـد
وكانت كخل كنت أهوى دنوه = وأخلاقه تنأى به وتخالـــف

ويقول:

(بغداد) دار لهل المال واسعـــة = وللصعاليك دار الضنك والضيق
أصبحت فيها مضاعا بين أطهرهم = كأنني مصحف في بيت زنديق

ويقول:

وقائلة لو كان ودك صادقــا = لبغداد لم ترحل فكان جوابيا
يقيم الرجال الموسرون بأرضهم = وترمي النوى بالمقترين المراميا
وما هجروا أوطانهم من ملامة = ولكن حذرا من شمات الأعاديا

ثم ذهب يزمزم بناقته منشدا قول بعضهم:

جمعت فنون العلم أبغي بها العلا = ويمنعني مما أحاول القــــل
تبين لي أن العلوم بأسرهــا = فروع وأن المال حقا هو الأصل

فرجع البغداديون ثباتا وفرادى مهطعين، يقول لسان حالهم: أما المحبة القلبية فهي لكم أيها العلماء، مع مزيد الإعجاب والتقدير، وأما المحبة الجيبية فايأسوا منها كما يئس الكفار من أصحاب القبور. ولو كان في ذلك العصر محبة للعلماء لما فقد عبد الوهاب قرصا بين البغداديين، الذين يمثلون في ذلك العصر ثروة اللندنيين والواشنطونييين والنييوركيين في هذا العصر. ولو كان المحدثون يتزيدون في أخبار أسلافهم بما يزيدهم مجدا ورفعة، لما راجت عندهم هذه الحكاية التي تدل على أن العالم في قومه كقدح الراكب، وما التظاهر باحترامه إلا بهرجة يتبجح بها بعض المتظاهرين بحب الدين. فقال: شحذت يا أيها الإلغي الجسور من غراري، بعدما صدئ منذ دخلت بادية (سوس)، فلا بد أن ترى مني في مجاذبتك ما تعرف به معنى البيت:

وابن اللبون إذا مالز في القرن = لم يستطع صولة البزل القناعيس

إن هذه الحكاية لا شك أنها مختلقة أيضا مكذوبة، ويظهر ذلك في مؤخرها الذي حذفته، فإن تمام الحكاية أن عبد الوهاب دخل (مصر) فلاقاه المصريون بضد ما ودعه به البغداديون، فأفرغوا عليه ما أفرغوا، ورفعوه إلى مناصب القضاء، ثم لم يلبث، بعد أن استغنى، أن سقط مريضا، قال أحد عائديه: دخلت عليه فأعجلت زوجته أن تأخذ إحدى نعليها، فإذا هي مرصعة بالماس والدر الثمين وفي حفافيها تخاطيط الديباج والسندس. فصرت أدخل السرور على القاضي، وأريه

ما أنعم به الله عليه في (مصر) فقال:

إذا تم شيء بدا نقصه = ترقب زوالا إذا قيل تم

فقد كنا موتى في ( بغداد) ثم عشنا في ( مصر)، ولكن لما عشنا متنا. هذا آخر الحكاية، وهي بلا شك من نسج يد مصرية ، تريد أن ترفع بها مقام (مصر)، وأن تعلي شأنها قديما، كما علا حديثا. فقلت له: كيف تكون الحكاية مصرية، وهي شائعة في كل مكان، مذكورة في كتب قديمة في ترجمة القاضي. فقال: إن الكذب في التعالي قديم في الأمم، وقد كان معروفا عند (اليونان)، ولو كنت درست عندنا في الجامعة أدب (اليونان)، لعرفت ( الإلياذة) إنما هي أكاذيب عن شعراء نسبت لهم، حتى ليخال سامعها أن الأدب قديم في ( اليونان) ولكن ينبغي أن أنبهك يا ابن ( إلغ) إلى أنك تعرضت لسهام نافذة من قوس الدكتور زكي مبارك المرنان(18)، فإنه قد استحال بغداديا منذ سبته ( ليلى المريضة بالعراق) بلواحظها(19)، فويل لمن حدثته نفسه أن يمس شرف البغداديين قديما أو حديثا. فإنه سيصرصر عليه إعصار فيه نار تحرق. فأعيذك بالله أن تروج هذه الحكاية مع غيري، فيتصل ذلك به، فتكون لقومك كقدار ثمود(20). فقلت له: اصدقني فإن ديكارت محب للصدق- أقول له ذلك مداعبا وأنا أبتسم- هل يريد حضرة الدكتور طه بذكره للدكتور زكي مبارك أن يؤثر علي حتى يحملني على أن أستسلم له، ثم أسلم أن حكاية القاضي عبد الوهاب مكذوبة، مع أننا سمعناها عن أشياخنا بالتواتر. فقد سمعتها من مدارس(سوس) ومن المسجد اليوسفي (بمراكش) ومن القرويين (بفاس). فقال: أولا تزال تأخذ بكل ما أخذته جزافا في هذه المساجد والمدارس التي هي وأفكارها في هذا العصر كطيلسان ابن حرب(21)؟ فلو ذهبت أحكي لك ما سمعت من أشياخي في (الأزهر) لأخذ منك العجب- مع أنك لا تزال من الرجعيين(22)- كل مأخذ. فقلت: قرأت بعض ذلك في كتابك: (من بعيد). فاستبشر لما سمع أنني أتتبع كتبه بالقراءة. فقال، وهو يلوح بيده، لو كنت لا أزال كأسابيعي الأولى في الأزهر، لأسرعت إلى بعض مشاهد الأولياء ببعض النذور. فقد أبهجتني بأن كتبي تقرأ في هذا المنتأى، وتوزن أفكارها. وما كنت أطمع في ذلك يوم كنت أكتب ما أكتب، وكثيرون من بني (الأزهر) عندنا يحرمون قراءة كتبي. ولكن أبناء (القرويين) لا يرون بذلك بأسا. فالحمد لله على المدنية الحديثة التي اجتثت الخرافات من أعماق قلبي، وإلا كنت اليوم على قبر من القبور المزخرفة المشاهد من المنكبين. فقلت: أما أنا فأحمد الله على أن زالت مني أيضا تلك الخرافات، ولكن بتأثير رجوعي إلى طهارة الدين الحنيف، وإلى نقاوته الأولى اللماعة، فأنا أزور تلك المقابر المزخرفة اتعاظا بجلال الموت، وتذكرا لما لا بد المصير إليه للاستعانة بالمخلوق فيما هو للخالق. ولكنك أيها الأستاذ رأيتك بذلاقة لسانك، وبمعرفتك للإقبال والإدبار في المحادثة، باعدت بينا وبين الموضوع الذي نحن فيه؛ فنحن لا نزال في ما ترمي به العلماء والمحدثين، وقد وقفنا على حكاية القاضي عبد الوهاب. وقد حكمت بأن الحكاية مكذوبة من مصري، ولكن ماذا تصنع في حكاية القاضي عز الدين بن عبد السلام، حين خرج من (مصر) مغاضبا لأمرائها المماليك.

حين صمم على عرضهم في سوق النخاسة، لكونهم فيما يرى مملوكين لبيت المال، فانكفأ كل من في (القاهرة) راحلين وراءه، والشيخ يسوق حمارة يحمل عليها أهله. فسعى الساعون إلى أمير (مصر) إذ ذاك يقولون: إن ترد ملكك فرد القاضي عز الدين، وإلا فقد اتبعه الناس، فرده وأرضاه حتى عرض القواعد الكبار من المماليك في السوق ينادي عليهم حتى بيعوا عن آخرهم. وفي رواية: إنه قيل لعز الدين لو ذهبت إلى الملك وقبلت يده لسامحك. فقال: يا قوم: أنتم في واد، ونحن في واد، فوالله لا أرضى أن يقبل يدي، فكيف أرضى أن أقبل يده. فهل هذه الحكاية أيضا مكذوبة من أحد المصريين تزيدا في كون المصريين في تلك القرون ينقادون للدين انقياد الأعمى. فقال: في أي كتاب قرأت هذه الحكاية؟ فقلت: في ترجمته من (الطبقات السبكية). فقال: وهل يقدر ذو عقل أن يأخذ بكل ما في ذلك الكتاب الذي مسخ بطبعه. فأين التثبت الذي تزعم أنك قد رضعته من آبائك المحدثين؟ على أن الحكاية عليها أيضا مسحة من زخرفة السمار، وما نحن بعلم الأسمار وبهارجها من الآخذين. فقلت: أو تنكر هذا الطرف من حكاية عز الدين فقط، أم تنكر حتى ما ذكر فيها مما وقع له في (دمشق)، حين أمره أميرها موسى بن الملك العادل الأيوبي بالابتعاد عن الجامع، والانقطاع عن المجامع بتأثير من كانوا على غير مذهب أهل السنة، حتى سعى في فك عقدة ذلك جمال الدين الخضيري، ممن له حرمة وجاه. فقال: إن تواريخ الإسلام لا تزال معقدة يعرف منها المطالع وينكر. ويلمس منها الصدق والكذب والمتشابه، وانتحال تلك الأمشاج الممتزجة، ملقى على كواهل الشباب العصري إن أرادوا أن يأتوا بتاريخ حي لأسلافهم، ترتكز نتائجه على المقدمات، فينصع حينئذ للمطالع الحق المبين. وأزيدك أن توارخ (أوروبة) كانت كلها كذلك، تتخبط فيها الكنيسة، حتى صفاها أهلها في القرون الأخيرة، وخصوصا بعد 1789م فتركوا للكنسي أمشاجه، وأخرجوا للعالم زبدة طيبة بعبارة أنيقة لا مبالغة فيها ولا تحيز. فقلت: أشكر حضرة الأستاذ على ما أبداه من هذه الفكرة العالية، فإنها حق. وبمثلها كان لك أيها الدكتور عند كل أهل العربية المفكرين شأن كل شأن. فقال، وهو يمد يده إلى جهتي ويديرها(23)، وأنا لا أعرف ما يريد، حتى تنبهت فوضعت يدي في يده، فقال: شكرا لك على ما قلت، فلئن فرقت بيننا الأقطار، وميزت بيننا الجنسيات، وتحلى كل واحد منا بثقافة غير ثقافة الآخر، فإني لأسر كثيرا حين نلتقي معا على فكرة واحدة. فقلت وأنا أجزيه شكرا بشكر: إن الكنانة قلب العروبة، وقطب الشرق، ونبض الإسلام؛ فما يعد كل النائين عنها من أبناء العرب والمستعربين أمثالي من أبناء أسر غير عربية إزاءها إلا أتباعا مقتدين . ولو لا أن الدين الإسلامي الذي جمع هذه الأقطار كلها فأفرغها في بوتقة واحدة، قضى على كل متبع أن ينظر نظر المستبصر، وأن لا يقبل فكرة حتى يزنها بميزان الإنسانية العام. وما ميزان الإسلام الخاص إلا ميزان الإنسانية العام، لاتبع العراقيون والكويتيون واليمنيون والحجازيون والسوريون والليبيون والتونسيون والجزائريون والمغربيون أهل (مصر) اتباع الأعمى لفائدة المبصر. ولكن تحكيم العقل باستبصار يأبى أن لا ترفع هذه الأقطار وراء (مصر) خطوة إلا بعد التثبت. ولذلك نرى بعض اشمئزاز يتعالى أحيانا من بين هذه الأقطار أن برقت من (مصر) بارقة فيها ما يمس بجامعة الإسلام. كتلك التي قامت حين تدعو إلى الفرعونية والعياذ بالله. كان لسان حال هذه الشعوب العربية الإسلامية يقول (لمصر):

( إننا نربأ بك يا (مصر) أن يلحقك خدش أو يمسك عيب، فأنت عندنا أسمى من المستوى الذي تناله العيوب). فقال: إن الغلطة التي يرتكبها أبناء ( مصر) اليوم هي أنهم لا يأبهون بالرحلة إلى هذه الأقطار. كما يأبهون بالرحلة إلى (أوربة)، فكأن ذلك سنة متبعة عندهم، حتى جهلوا هذه الأقطار جهلا شائنا، وأنا بنفسي قد وقعت في هذا الجهل المركب، ولم أعرف مقدار ما أنا فيه حتى جلت هذه الجولة، فمازجت العرب ومازجوني، وعرفتهم وعرفوني؛ فوجدت من الغيرة والمحافظة على مآثر السلف ما أدركت به سبب تلك الحملات التي يحملها أعداء الشرق على الشرق؛ إذ يبثون في أدمغة من انساق إليهم من أغرار التلاميذ، هدم ذلك بادعاء أنه خرافات. وما قصدهم الحقيقي إلا ما يقصده من رأى أفعى انسربت إلى قصر (الحمراء) بـ(غرناطة) فيأتي بالديناميت لينسفه بحجة أن قصده القضاء على الأفعى. وإن كان قصده الحقيقي أن يذر تلك المآثر العربية الخالدة لا أثر ولا عين. وقد أحس ببقائها ماثلة للأبصار بحزازة تحدرت إليه من آبائه الأولين الصليبيين. فقلت حيا الله العروبة وبياها حين أخرجت من بين أولادها اليوم مثل حضرتك أيها الأستاذ العبقري. فقال: لا يمكن أن تسير قافلة العروبة إلى الوجهة المطلوبة حتى تتكاثف كل هذه الأقطار العربية وتتفاهم فيما بينها وتوحد ما يمكن توحيده بينها من الاقتصاد والتعليم والقانون وكل أدوات التفكير والقوة. فقلت: إن الحق فيما تقول. ولكن هذه الأقطار قد عرفت لـ( مصر) مركزها في التفكير. فلتندمج ( مصر) في القافلة. ولتحافظ على ما تبقى فيها قبل أن يأتي عليه المتفرنجون من أبنائها. وأما ما دامت ( مصر) عليه مما نراه من بعض أهاليها فإنها تبقى لا شرقية ولا غربية. تدور حول نفسها كالدوامة: فتمضي السنون وهي لا تزداد إلا حيرة وارتباكا في المنهج الذي تريد أن تنتهجه في المستقبل لها ولأتباعها من الشعوب العربية. وقبل أن تتحول (مصر) هذا التحول، فإنها في أنظارنا تتأخر. نعم وإن كان يتراءى للعيون من غيرنا، ببهرجة المدينة البراقة التي تحلت به، أنها تتقدم. نعم، لو كانت أرادت أن تفصم علاقتها بماضيها وأن تصنع كـ( تركية)، فإن ذلك يمكن لها، فينقضي الكلام وتجمع همتها إلى الأمام؛ فتعد هذا اليوم أول عهدها بالتاريخ، ولكن عرقا حساسا شريف عربيا نحس به حتى هنا ونحن بعداء عنها لا يزال ينبض فيها، ثم لا نعتقد أنه لا يزال بها حتى تستقيم في طريقها السوي على رغم الفرعونيين(24). فقال: إنني أتمنى لو سرت معي إلى (مصر)، فترى في فكرتك هذه همما فعالة تحلق إلى أجواز السماء. ولو كنت هناك، وسمع بعض من هناك منك هذه الفكرة، لاقترح عليك إلقاء محاضرة فيها. فيعلم الله ما تسمع من التصفيق الحاد من أبناء (الكنانة). فالمصريون عرب، يريدون أن يحيوا عربا، وأن يموتوا عربا. فعلى هذا شد يدك. وهذا ما يجب عليك أن تعتقده عن (مصر) العربية الوثابة إلى الأمام. وهذه غاية كل تلك الأفكار المتضاربة. ومتى كانت الغاية واحدة لا يضر الاختلاف في الوسائل. وقد أدخلت علي بما نعتقده بحسن ظنك في (مصر) من السرور، ما كنت بعيد العهد بمثله. فليحي ( المغرب)، ولتحي ( سوس)، ولتحي ( إلغ) المجيدة. يقول ذلك بصوته الجهوري العالي.

فقلت: اخفض من صوتك يا سيدي قليلا، فإنك هنا في بلاد لا تعرف مما تقول شيئا؛ فربما يتحسس على كلامنا أحد من بعيد؛ فيسمع كلمة، يطير بها إلى من آذانهم لا تصيخ إلا للنمامين. فقال: آه آه آه! مما يقاسيه الشرقيون من أوطانهم التي ولدوا فيها. ومنها نشأوا، وقد ورثوها من سلالة أحيت موتاها منذ آلاف السنين. فرأيت أن أقطع هذه الفكرة عن الأستاذ، وقد رأيته تأثر وحدقة عينيه، أستغفر الله، بل أجفان عينيه تتحرك حركة غير معتادة منها منذ جالسته. فقلت: أبعدتنا عن موضوعنا. وإنك يا أستاذ لغريب في الاستيلاء على جليسك كل الاستيلاء. ولكن لا أدعك وجنايتك على العلماء والمحدثين، الذين أبيت أن يكونوا من يمثلون (بغداد) في عنفوان شبابها أيام الرشيد والمأمون. فقال: أو لا تزال على اعتقادك الأول؟ فقلت: نعم وقد كدت يوم قرأت لك ما قرأت، من جعل استهتار أبي نواس مرآة حياة (بغداد) في عصره أن أكتب - مع احترامي الزائد لحضرتك- أكثر مما كتبه الكتاب ضد كتابك ( في الشعر الجاهلي)، فهل يتصور أن يكون أبو نواس وحياته المتهتكة مرآة الهيأة الاجتماعية في ( بغداد)، في حين أن الرشيد ثم الأمين ألقيا أبا نواس في السجن من أجل ما يعلنه من الخلاعة. وأحسب أن الرشيد مات وأبو نواس في سجنه. وفي حين أن الرشيد كان يصب بيده الماء بعد الأكل على يد أبي معاوية الضرير أحد المحدثين وهو أعمى ( في حكاية) تعظيما له. وفي حين أن الرشيد نفسه كان يحج سنة، ويغزو سنة. وقد روي أنه كان يصلي كل يوم مائة ركعة نافلة. أمع هذا كله، تقول إن أبا نواس يمثل العصر؟ فقال: مهلا مهلا! فأنا أبو الخطابة، وأنا الذي أقف ساعتين أو ثلاثا أمام أدباء (مصر) الكبار، أتدفق ببيان ناصع، وفصاحة خلابة، وبلاغة باهرة، فأعرف كيف أقبل وأرد، وكيف أهاجم وأدافع. أفتأتي أنت، وما أنت إلا قزم بين أدباء المغرب الكبار العماليق الذين هم من بني عبد المدان(25)، فتحاول بلهجتك المتهدجة هذه، وبكلماتك الملفقة تلفيقا، وبنزعك هذا المنزع الملتوي المعوج؛ وبراهينك هذه التي (ليست بنبع إذا عدت ولا غرب) أن تقودني وتستولي علي؟ اسمع يا هذا: إن أبا نواس ما جعلته إلا رمزا لآلاف أمثاله من الذين أنا في صدد ذكرهم من المتكيفين بسيما الحضارة والتهاب الملذات. نشأوا في ظل الدولة العباسية، فاستووا كلهم خلاعة واستهتارا. ومن بينهم كثيرون من أبناء العباسيين أنفسهم. وهذا ما أعني. وأما فقهاؤك ومحدثوك المتسكعون في الطرق، المتظاهرون بالغيرة على الديانة، وأما نساكك المتبتلون، فهم وراء الحضارة ولذاتها، لا يمثلونها، ولا يمتون إليها بسب؛ اللهم إلا إذا أردنا أن نجعل لعالم الأرواح مدينة. وذلك مجال واسع لا أريد أن أخوضه معك الآن. فبالله عليك! هل عبد الله بن المبارك، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وابن عدي، وابن أبي حاتم، وابن سعد، والفضيل بن عياض، ومعروف الكرخي، وجيش جرار من ورائهم الذين يمثلون ما لمدينة (بغداد) وحضارتها، والأفكار التقدمية فيها، وأنهم لا يرون منها إلا كما أرى أنا الآن من جو إلغكم المصقول. هذا لو أدعي أنني رأيته؟ فقصدي في (حديث الأربعاء) الذي أدير فيه الكلام عن الأدب والأدباء، والشعر والشعراء، أن أظهر مقدار تأثير الحضارة البغدادية في نفوس ملابسيها كالشعراء والأدباء، فحكمت بأنها استولت عليهم كما تستولي حضارة هذا العصر الحديث على مثل حافظ إبراهيم، الذي تعرفه من المصريين، وزكي مبارك، وعبد القادر المازني، وفلان وفلان من المصريين، ممن سمعت بهم ومن لم تسمع. ولا ريب أن هؤلاء هم الذين لابسوا المدينة وتذوقوها.

واستحقوا أن يكونوا من مظاهرها. وأما الظواهري ورشيد رضا، وأمثالهما فإن بينهم وبين المدينة حجابا مستورا. فلا يمثلون شيئا من مدينة (مصر)، وإن عاشوا فيها؛ فليسوا بمرآة لحياتها، كما كان الآخرون مرآة لحياتها. يتبسمون لها وتتبسم لهم، ويظلون يبيتون في معانقتها. وقد يكون للظواهري ولرشيد رضا تأثير ما في عصرهما، بوساطة مبدئهما الديني؛ ولكن ذلك لا يدل على أنهما مرآة عصرهما الحضاري.

فكذلك المحدثون في (بغداد)، فإنهم في كفة، والمدينة وأهلها في كفة. ولما كان الواجب على الملوك مراعاة التوازن بين الكفتين دائما، تراهم يلقون هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه. وهكذا بعينه ما كان من الرشيد والمأمون، فإنهما كما قال القائل:

فللملك مني جانب لا أضيعه = وللهو مني والخلاعة جانب

فيكونون أحيانا في مجالس العلماء والمحدثون، وعليهم من سيما الوقار ما يذر أفئدة أولئك الذين جالسوهم في إطراق دائم. فيقبلون ويدبرون معهم الحديث والقرآن وما إليهما من العلوم التي تروج إذ ذاك. ولكن لا يكاد آخر ذيل من أذيال القاضي أبي يوسف يختفي عن أنظار الخليفة من باب، حتى يوذن من باب آخر لأجواق الملاهي، فيتصدر ابن جامع وزلزل، وسليم والغزال، والموصلي، وعشرات من أصحاب المثاني والمثالث، ينتظمون عن أيمان وعن شمائل الخليفة، وقد أميط عنه وعن الحاضرين لباس السواد الرسمي، ويلقي عليهم بخلع المنادمة؛ فيصدح البم والزير(26) في قصر الخلافة، وتتموج الأغاني الرخيمة في أجوائها التي غامت بالند والكباء(27)، فتقوم المنادمة على ساق. والكؤوس تدار بأكواب وأباريق. فينتهك سجف الوقار بيد العقار. فلا يزالون كذلك حتى يفقدوا عقولهم. ويسلموا للراح أرواحهم، فإذ ذاك يأتي خدم كل واحد من أولئك الندامى فيساندونه إلى داره، وهو يتمايل على بغلته الفارهة، تمايل المجاذيب في حضرة الأذكار القائمة. ثم يتوسط الخليفة بين سراريه، فيعود إلى ما كان فيه آنفا. هكذا أتصور الخلفاء إذ ذاك حين لا يحزنهم ثائر يثور عليهم، ولا يتحرش بهم جيش يتسرب إلى ثغورهم من (قسطنطينية). وأما ما ذكرت من كون الرشيد كان يصلي مائة ركعة، فقد ذكره من أرخوه. ولكن إن كنت قرأت فصول الشهادات في القانون الإسلامي، فإنك تحكم بأن هذه تكاد تكون شهادة زور. لأن فعل الإنسان في خاصته داخل بيته، قلما يطلع عليه سواه، هذا إذا كان من عرض الناس. وأما الخلفاء الذين هم إذ ذاك في أقماع سرية، محاطة بأسوار وحجب كثيفة وحجاب. فمن يعرف ذلك منهم إلا إذا أخبروا به أحدا. فيدل ذلك على أن أفعالهم في هذه العبادات ليست لله. وما ليس لله لا يمكن أن يواظب عليه الإنسان في بيته الخاص، حيث لا يراه أحد. فإن ما يتظاهر به بين الجلاس، لا يقوم به وهو وحده أو أمام حريمه الذين ارتفعت الكلفة بينه وبينهم. فقلت: إن عهدي بك فيما كتبته عن ابن خلدون في كتابك الصغير عنه، قد رددت عليه فيما ذكره من تنزه الرشيد عن الخمور، ومن أنه إنما يتعاطى هو وأهل (العراق) من النبيذ ما لا يكون يسكر. وأنا أرى أن ما قاله ابن خلدون أقرب إلى الصواب. ولعل تغليظك إياه خطل بين؛ لأن ما يحيط بالرشيد والمأمون، وما هو متواتر عنهما، مما يستبعد عقليا أن يسفوا معه إسفافا إلى الخمور. وما قاله ابن خلدون واضح وذلك أولى ما تحمل عليه تلك المنادمات.

فقهقه حضرة الدكتور الكبير طه حسين، وصفق بيديه طويلا. ثم استوى بعد ما كان استند. فقال: بينما أهم أن أرد إليك الوصف(28) الذي سلبتك إياه آنفا، إذا بسذاجة جديدة تطل علي من أثناء حديثك، وتنادي بملء صوتها: اذهب بوصفك أو احفظه في حقيبتك فإن هذا الإلغي لا يستحقه. وهل يستحق الساذج في تفكيره أن يحلى بوسام الذكاء؟ هيهات هيهات! أفتؤمن يا هذا ببعض الكتاب وتكفر ببعض؟ أتستدل علي بكل ما وجدته في التاريخ الذي ذكرت آنفا أنه أمشاج أخلاط غير منقح. ثم تركن إلى معارضة من ينقحه. فيرد بعضا عن علم، ويقبل بعضا عن علم. أما ابن خلدون فقد رأيت احتجاجه الساذج، كأنما يخاطب به البله. وأما أنا فمستند إلى إجماع المؤرخين المفعم بأن الخمور في مدينة (بغداد) زاخرة في كل منادمة عند المترفين فيها. ولا يتوقف في ذلك إلا أحد رجلين: رجل ليس له اطلاع على الكتب التي أرخت ذلك العصر، أو رجل يريد أن يجعل الخلفاء قديسين. فاختر أيها الإلغي لنفسك الآن- ما دمت تأخذ بأهداب ابن خلدون الواهية- أي الرجلين تكون. فقلت: أيها الأستاذ: إني تعودت عدم التقليد. ولو كنت إمعة في التفكير، ذنبا في الآراء، لما وقفت معك الآن موقفي هذا. أجاذبك أيها المفكر الكبير الذي نحترمه من أعماق قلوبنا آراءك. فالمقلد لا رأي له. فلا يقدر أن يدافع عما يقول، ولا أن يحاج دونه. أما ما ذكرته وأكدته أيها الدكتور، فموجود في بعض تواريخ ذلك العصر. وأعظم كتاب يزخر به: كتاب (الأغاني). وما صاحب (الأغاني) بثقة في هذا الباب، لأنه يروج صناعة أغانيه، ليعظم كتابه في أعين الناس. والأغاني والخمور أخوان توأمان، وقرينان لا يفترقان. قلت هذا، فبادرني الأستاذ يقول: مسامحة في قطع سلسلة حديثك. فلا تنس منذ الآن ما تقوله من أن الأغاني تطفح بها مجالس الخلفاء إذ ذاك. وليس في وسعك إلا الإقرار بذلك. لأن ذلك أمر مجمع عليه حتى عند ابن خلدون. فإنه يلزمك أن تقول برأيي، وقد أنطقتك الحقائق. وسدت دونك الطريق بالاستمرار في المحاجة. إلا إذا كنت معاندا، فصرح لي إذا بذلك، لأطوي مجاذبتي معك، فإني عاهدت الله أن لا أحاور معاندا في حياتي. فقلت له: مهلا مهلا أيها الأستاذ! أبلعني ريقي، وارحم غربتي في هذا المنفى، فقد صدئت الفكرة، وخمدت الجذوة، وأقلعت شآبيب التبصر في مواقع الكلام منذ لازمت وحدة المنفى زمنا طويلا. وليسامحني مولاي الدكتور أن أتمم كلامي. فقال: ما دمت لا تعاند، فقل، فأذني مرهفة، وحجتي حاضرة. فقلت: إن فكرتي الجامعة في الموضوع أن الرشيد والمأمون كانا حقا من المغرمين بالسماع. وإذ كان كل سماع بلا شرب كشبح بلا روح. فإنهما أدخلا النبيذ الذي لا سكر معه في منادمتها. وإلا فما كان السكران الطافح لتصدر عنه تلك الأعمال الهائلة التي صدرت عنهما، فقد رأيت من الرشيد من المدافعات عن ثغور بلاده ما رأيت، وسمعت عنه من اختراق بادية العرب من (دجلة) إلى سيف البحر الأحمر حيث يحج سنة دون سنة. وما كانت نفس السكير تستنيم إلى عربدته، لتدوم على تلك المشقات، والأسفار إذ ذاك فيها ما فيها مما لا يتصوره أبناء هذا العصر، عصر السيارة والطيارة. وقد رأينا من محمد الأمين الذي ألف ذلك ما رأينا من زلل وخطل، حالا بينه وبين ملكه. ثم إن في التاريخ أن الرشيد حنت مرة، وقد حلف بالمشي إلى (مكة) فقطع ما بين (مكة) إلى (بغداد) راجلا.

وما كان السكران المائع العقيدة ليهتم بما يلزمه بالحنث، خصوصا إن كانت فيه مشقة فادحة. وفي التاريخ أيضا عن قرينته زبيدة ولهجها بالمحراب وقراءة القرآن، إلا إذا نفست(29) فإنها حين تنفس تتغنى. وكانت لها جوار كثيرة مولعات بتلاوة القرآن، حتى ليسمع من قصرها مثل دوي النحل في خليتها. وما هكذا تكون زوجة السكير. وهناك أيضا من عقل المأمون ونبالته وتحليقه إلى المعالي، واهتمامه بالمعارف وترجمتها ما لا يمكن أن يصدر إلا عمن لا يعرف السكر والعربدة. ونحن نرى مما يمتدح به أقوياء هذا العصر من أقطاب الساسة والحكماء والمفكرين أن يبتعدوا عن ذلك. فهذه هي فكرتي التي خلصت إلي مما لو شئت أن أجالد دونه بحجج أجمعها، وبراهين أرصفها. لتقدمت بها إلى الميدان. نعم: لا يصح لي ذلك إلا بدحض ما لا يلائم ذلك مما هو مستمد من أمثال كتاب (الأغاني) ولا يعتمد على هذه في هذه الناحية إلا من يريد أن يعتمد على كتاب (فتوح الشام) في فتوحات الصحابة، أو على كتابكم الكبير (على هامش السيرة) في السيرة النبوية الصحيحة. ولا ريب أن ذلك عين الخطإ الصراح. وأما الحكاية الزنبيلية التي تحكي في سبب تزوج المأمون ببوران. وكذلك حكاية العباسة. فلا أخال نقد الأستاذ النافذ إلا آتيا بما يوافق فيهما رأي ابن خلدون، الذي اتخذته أنا رأيي أيضا. وبعد هذا كله فإن لي رأيي الخاص، إن لم يكن الاتفاق. فقال: إنك لو درست عندنا في الجامعة، وتمرنت على ترتيب أساليب الاحتجاج، لكنت ممن يحسب له حساب ما. ولكن فوضوية دراستك كما ذكرت لي آنفا هي التي تجعلك ساذجا في احتجاجاتك هذه. فتحوم حول ذرة تخيلتها جبلا راسخا وتجعلها قطبا لبرهنتك. ولو نفخ فيها نافخ لطارت تلك الذرة في أدراج الرياح. فقلت: عذرا !فإني لو خيرت لاخترت. وهكذا قدر لي أن أدرس ثم هكذا قدر لي أن أفكر. ثم هكذا قدر لي أن أرتب حججي فيما أعتقد. ولو كنت مختارا حقا لكنت في مثل عبقريتكم أيها الدكتور. ثم إنني مع ذلك أشكر نعمة الله علي. فإنها تفوت العد، وتتمطى بلا حد. فقال: إنني لأعجب لمثلك يعيش هنا، ولا مذياع ولا سينما. ولا جرائد ولا حياة عصرية. فقلت: إن مقدرتي على الحياة بلا مذياع ولا سينما ولا جرائد عصرية من أكبر النعم علي بعدما عرفت حقيقة الحياة كما هي بلا خرافات ولا استعباد، إلا لمن تعنو له كل الوجوه رغبا ورهبا (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا)، وبعد استنارتي بعلم حي يؤنس في الخلوة، ويغني في المرتبة. وقد أراني منفردا فوق ما أراني مجتمعا. وأضفى الله علي من نعيمه في هذه القرية المقفرة، ما ربما لا أدركه في الحواضر الزاخرة الشوارع. وأكبر منة لله علي: أن آلفني أن أحيا دون ما لا يحيا كثيرون من أبناء هذا العصر دونه. فلا أشتاق إلى المذياع إلا متى تذكرت فوائده العلمية. ولا أتأسف على مفارقة السينما وأمثالها، ما دمت على ما أعرفها عليه في بلادنا هذه المستعمرة من تهتك واستهتار، ولعب بالأخلاق، وبث لمساوئ لا يتفطن لها إلا من لم تكمه بصيرته. ولا أستحضر(30) أنني استمتعت قط من السينما بمشهد، إلا يوما رأيت فيها بلاد الحبشة فاستفدت بالعين من أوديتها وصحاريها، وهيأة أهلها ما لم أكن استفدته قبل من كتب جغرافيتها. وأما الحياة العصرية إن استثنيت منها العلم وندواته وأبحاثه ومباهج اختراعاته، فإنني ما تعرفت بها يوما من الأيام، حتى أتأسف اليوم على فراقها. على أنني الآن أتلهف على مفارقة من الأيام.

على أنني الآن أتلهف على مفارقة إخوان حضريين. يحملون لي ما أحمله لهم. وتهش إلي أفئدتهم، كما يهش إليهم فؤادي، فذلك ما أتلهف عليه وحده، وتطير نفسي دونه حسرات. فالحمد لله الذي جعلني حرا من المذياع والسينما وأمثالها من الأدوات العصرية، وأقدرني على أن أعيش دونهما. وتلك نعمة عظيمة لا يقدرها قدرها إلا من استغنى عنها. ومسكين ابن المدنية الذي لا يقدر أن يستغي عنها لحظة، فيبقى دائما مستعبدا. ولا تطيب الحياة للحر إلا بما يستغني عنه لا بما يحتاج إليه. فقال: هنيئا مريئا ما أغبطك عليه. ويغبطك كثير من أمثالي، ولكن لماذا لا تقول ثالثا: ابتعدنا عن موضوعنا الذي نتحاور حوله أم طاب لك التحدث عن نفسك؟ وقد قرر الفلاسفة الأخلاقيون أن ذلك من أسوإ الأخلاق في بعض الناس، إلا إذا كان لداع خاص. وهل تقدر أيضا أن تقر بهذا العيب البارز فيك؟ هل نسيت يا حضرة الدكتور أنك كنت السائل لي كيف أقدر أن أعيش هكذا؟ ولكن على ماذا استقر رأيك؟ هل يمثل أبو نواس وأمثاله من طبقته حضارة (بغداد) بمباهجها وحياتها الضحوك. أو يمثلها المحدثون:

فصرح بما تهوى ودعني من الكنى = فلا خير في اللذات من دونها ستر

فقلت له: ما دمت تقصد في ( حديث الأربعاء) ما بينته آنفا من أن مقصودك تصوير بهرجة المدينة والاستنامة إليها، والاندفاع وراء مباهجها. فإنه لا يمثلها حقا إلا أبو نواس وأمثاله. وها أنذا ألقي السلاح وأنا متوج بالإنصاف الذي هو شيمة الأشراف. فقال: مرحى مرحى يا من شرف نفسه وتوجها ! فمادح نفسه يقرئك السلام. وكأنني حين أمد يدي لأتسلم منك سيفك هذا: (غليوم) الألماني الأول حين يمد يده ليتسلم سيف (نابوليون) الثالث في حرب السبعين. والاستسلام بشرف مثل الاستعلاء بشرف. فكثير من الناس يلزمون في استعلاء كما يلزمون في الاستسلام، ورحم الله أسماء، التي قالت لولدها: عش كريما ومت كريما. فقلت : لا مؤاخذة أيها الأستاذ فقد ظهر لي أنك استعملت ما قالته أسماء في غير موضعه. لأنها تقصد أن يموت الإنسان كريما في ساحة الوغى، دون أن يستسلم. المقصود هنا الاستسلام بشرف. وما هذا الشرف في الحقيقة إلا توهم. وإلا فأي شرف لنابوليون حين استسلم؟ فقال: إنك لعنيد ألد! وإن كان يبدو لك ذوق أديب. ولكن تنقصك لباقة الجامعي الذي حصل على الدكتوراه في الأدب. فإن المحاور بين إحدى الحسنيين: إما أن يفوز في محاورته، ويكون الحق في جانبه. وإما أن يظهر له من بين ألفاف المحاورة أنه على خطل، فيعلن بكل صراحة تسليمه وإذعانه. وأنه ما كان يعرف ما عرفه من الحق إلا الساعة. أفليس هذا شرفا وكرما. فإنه في مقابلة شرف موت المحارب في الوغى، لا في مقابلة استسلامه. أفأنت أيها الإلغي المتحلي من الأدب العالي بما ليست فيه لباقته؟ أفتسلم لي هذا المعنى أم تعاند أيضا؟ فتلحق عندي بتلميذي زكي مبارك، الذي خرجته وسددته رميته؛ حتى إذا استغنى عن المسح شاربه(31)، جزاني جزاء سنمار(32)، وجعلني من المصريين مضغة الأفواه بقلمه. يهاجمني بالعقوق، مع ما لي عليه من الحقوق:

أعلمه الرماية كل يـوم = فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي = فلما قال قافية هجـاني

فقلت: إنني أسلم للأستاذ ما قال. وأحكم بأنني عارضته قبل أن أتأمل، وأني لفائدته من الشاكرين. ولكن على ذكر الأستاذ للدكتور زكي مبارك، أحب من الأستاذ أن يدلي لي ببعض ما أفسد بينه وبين الدكتور زكي مبارك تلميذه. مع أننا رأينا الدكتور زكي من أنصاره يوم قيامة كتاب (في الشعر الجاهلي) وعهدنا بالأدباء يمتزجون امتزاج الماء والراح. فقال سعادته: لا سبب إلا أنه بعد أن ظهرت مكانته في الأدب صار يتراجع شيئا فشيئا عن صفته العصرية المثلى، حتى تكشف عن رجعي قديم في عصري جديد. فكنت أكتب ما لعله ينبهه، فإذا بالرجل انقلب علي. وأراد أن يصيرني مثلا سائرا. وسار يعرض بي في كل ما كتبه بمناسبة وبلا مناسبة. فمثل من العقوق دورا عنيفا. فقلت له: قد كنا نقرأ للرجل كتبه الأدبية، فنجد له عقلا متزنا، وفكرة وقادة، وقلما سيالا، وذوقا فذا، ونظرا صائبا، وأدبا غضا، وأريحية حية، واطلاعا كبيرا، ونشاطا غريبا. وكان يعجبنا منه وراء ذلك، أنه يقف في صفوف المنافحين عن العروبة وآدابها، وعن الدين وأفكاره، وعن القرآن وتأثيره في اللغة العربية. فكان يبهرنا أكثر مما يبهرنا سواه من المصريين الأدباء الذين ينحون مناحيه. فقد قرأنا له: (النثر الفني) بلهف شديد. وكان في النوادي المغربية موضع الأحاديث زمنا طويلا. كما قرأنا له: (ذكريات باريس)، فكان- من مظاهر تهتكية تتراءى من خلال الكتاب- يأسر مشاعرنا بحلاوة عبارته، وطلاوة فكاهته، ثم جاء كتاب (القصائد النبويات) فأعجبنا منه أن اعتنى بتلك الناحية التي غفل عنها سواه. وهكذا نقرأ له كتبا أخرى، فقلما ننكر منه إلا ما يعذر في بعضه، ويستحق قرصات لطيفة، لا تحس بها بشرته الرقيقة، لأن من كانت روحه في تلك اللطافة لا بد أن يلطف شبحه أيضا. وأخيرا لما كان يناجي (ليلى المريضة في العراق)، ودخل في ذلك البحر الطويل من الإسهاب، كعمامة جحا التي لها أول، وليس لها آخر، تركنا في نشوة قل من يتلذذ بها من الأدباء المغاربة، حتى أنا في هذا المنتأى قد خلص إلي زكي مبارك، فماشيته في رحلته في (العراق) ما شاء الله، فيصيح ويقول في كل موطن:

يقولون ليلى بالعراق مريضة = فيا ليتني كنت الطبيب المداويا

ذلك هو زكي مبارك عندنا. ويتمنى الكثيرون منا لو أتيحت له فرصة ملاقاته، ليروا أعجوبة (مصر) في القرن العشرين، قد تجسمت لطفا وخفة روح وانتقادا حيا. فقال: إيه!هل فرغت من حماقاتك عن ذلك المأفون الذي غمط حقي في تربيتي له. أتحسب أني جلمود لا تأثير بإطرائك أمامي لمن عقني. كأنك لا تقصد إلا استنقاصي بقدر رفعك لذلك الكنود العاق. فتبا ليوم جمعني معك! ويا ليت السيارة التي حملتني إلى بلدكم انقلبت بي! فقلت: أعيذ حضرة الدكتور الكبير أن يفهم من كلامي ما لم أقصده. فإني ذو سذاجة في التعبير أعترف بها. وكثيرا ما ألقتني مع الأفاضل أمثالك في مثل هذا. فهاك أيها الأستاذ الكبير يدي أعاهدك على أن لا أتكلم عن ذلك الرجل ما دمت بين يديك. وما كنت أخال صدرك الواسع يضيق إلى هذا الحد. مع ما بلغنا عنك من سعة صدر، ومخالقة لا تغيض. فأي أرض تقلني وأي سماء تظلني، إن عمدت الإساءة إلى عميد كلية الأدب العربي، ما كننا لولا هم جهلة. ولولا إثارته لبحثه في الشعر الجاهلي لما تكونت مكتبة كبيرة ممتعة، من أقلام الكتاب الذين شاركوا في الموضوع. فليشم حضرة الأستاذ غضبه؛ ولينشر بشره، فإني ما رأيت منذ كنت في المنفى جليسا مثله. فقد نكص كثير من أصحابي عن زيارتي في منفاي هذا مرغمين. فعوض الله منهم من هو أعلى وأشرف: حضرة الدكتور طه حسين عميد كلية الأدب بالجامعة المصرية.

فإن هذا لشرف عظيم ما كنت أنتظره في حياتي كلها. فأكرم به وأنعم، ثم إنني منذ توصلت بكتابه الأخير الذي ذكر فيه ذلك الفصل العظيم، يبين فيه مفاخر العربية، وأن شعراء الأمم كلها اقتبسوا من معانيها، أصبح الأستاذ عندي في مكانة لا مكانة فوقها، فذلك فخر لا يلحقه فيه زكي مبارك ولا غيره. اسمع مني هذا يا حضرة ضيفنا الجليل! واقبله مني بفضلك. وهنا رأيت الأستاذ يرتطن جملة فرنسية، لم أفهم معناها(33)، لأني لا أفقه الفرنسية. ثم مسح على خديه وقال: أوصلكم هذا الكتاب أيضا بهذه السرعة إلى هذا المنتأى؟ فصرت أذكر له بعض محتويات الكتاب. ثم قلت له: لا تبال بعد اليوم لا بزكي ولا بغيره، فأنت وحدك الشمس التي تنير العروبة.

فقال: لا تؤاخذني بما أنست مني آنفا. فإني لا أعدو أن أكون بشرا. قد يفهم ما لا يقصد. فقلت: ثق بأنه ليس في (المغرب)، بعد أن أبرزت هذا الكتاب الذي أعليت فيه شأن العربية علوا سامقا يجعلك في رأس قائمة أجلاء هذا العصر. وأقترح عليك أن تزيد هذا البحث الطري امتدادا تمتد به شهرتك.

فقال: إنك أيها المغربي لتسحرني بما تقول! فقلت: لست أسحرك. وما تعود مغربي مهذب قط أن يتعاطى السحر. وإن كنتم في (مصر) تصفون بذلك المغاربة كلهم أجمعين. وما ديدن المهذبين منهم إلا أن يشيدوا بالحق. فكما كانوا ضدك حين قلت ما فرط منك في الشعر الجاهلي، ف، هم اليوم- وقد قمت مقاما لا يقومه سواك- ليعرفون لك من الفضل ما يفردونك به. وليست شهادة المغاربة صادرة إلا عن سريرة طاهرة، وقلب غيور على العربية وآدابها. وهم يشكرونك اليوم من أعماق قلوبهم يخلصون غاية الإخلاص فيما يقولون.

فقال: إن (مدام) قرينتي كانت لي خير معوان في هذا الكتاب الذي أعجبتم به. لأنها كانت تلم بلغات مختلفة. وأحب أن تشاركني في الخطإ أيضا، وأن يكون لها نصيب من الشكر. فقلت: وهل هي والدة بنتكم فلانة؟

فقال: وهي بنتي أيضا من أدبي حتى اتصل بكم اسمها؟ فقلت: من هنا يعرف حضرة الأستاذ اعتناءنا بأدباء (مصر)، وبكل ما يحيط بـ(مصر)، من جميع الجهات. فقال: إن هذا لعجب عجاب. ربما كان من أغرب مشاهداتي في (المغرب) الذي كنت أظنه كبلاد السودان همجا وأكواخا، وأغفالا وسذجا، فإذا بي إزاء قطر متمدن فيه من كل شيء(34). فقلت: هنا موضع معابتنا عليكم أيها المصريون الكرام. فإذا كنت وأنا في هذا المنتأى أعرف اسم بنتك المباركة؛ فكيف لا نستاء إذا رأينا في الطبعة الأولى لـ(دار المعارف) لفريد وجدي، اسم سلطاننا مولاي يوسف مجهولا عنده. حتى كتبه في آخر أخبار العلويين باسم غير اسمه. ولا يمكن غالبا أن يكون ذلك عن غلط في الطبع الأول. وأنا بنفسي مررت بها كلها منذ نحو عام 1344هـ وكثيرا ما أرى فيها من الأغلاط ما أتيقن به أن الطباعة المصرية قد تفسد كثيرا مما ألفه علماء (مصر)، ولكننا نعذر مؤلفها العظيم، لتصديه وحده إلى ما تنوء به العصبة أولي القوة. فقال: هذه حقيقة، ولكن لكم كذلك أيها المغربيون حظكم من التأنيب. فهذه (الطبقات السبكية) التي ذكرتها قبل في كلامك، طبعها بعضكم فأفسد الكتاب القيم إفسادا. فإذا كان يتصدر جهالكم لطبع مثل (الطبقات) فذلك دليل على موت همم علمائكم.

فقلت: إن الحق مع الأستاذ. وأنه ينبغي الاعتناء منا ومنكم. مع أن المتكلم هو ضميرنا وحده قبل أن تشتتنا يد الأقدار، وتتوزعنا الكوارث في مختلف الأقطار، وتسمى كل واحد منا بجنسية خاصة. فقال: إن التعارف التام على الأبواب(35)، وسنرى ذلك إن طال بك العمر، ولا يتم ذلك إلا بأمثال هذه الرحلات التي قمت بها. فرجعت منها بقلب وعقل وفكر غير قلبي وعقلي وفكري.

ثم قلت: إنني أسائل الأستاذ، كيف تأتى له أن يجول هذه الجولة في (المغرب)، مع أن ذلك كثيرا ما تتحلب دونه شفاه كثير من المفكرين الشرقيين سواه، فأعوزهم إدراكه؟ فقال: ما وطأ لي ذلك إلا قرينتي السيدة الفرنسية، فإن لها قرابة مع أحد الوزراء الفرنسيين، فتم كما نريد بواسطته. فقلت: إنك لسعيد إذا بزوجتك الفرنسية، هذه أيها الأستاذ بينما نحن نعهد من كثير من المقترنين بالفرنجيات أن يشقوا بهن. فقال، وقد سمعت نطقت بكلمة الفرنجيات من غير أن أبين الراء من الجيم: اعتن بمخارج الحروف بارك الله فيك، إذا أردت أن تكون فصيحا. كما أراك تحاوله منذ جالستني، ولا تعد إلى غمز الأزواج الفرنجيات كلهن، فإن من بينهن كرائم ملكيات. ثم أحسست بشيء فمددت يدي أحك؛ فإذا عيناي تنفتحان. وإذا عبد الله ولدي يبكي بإزائي. فتشككت في الأمر حتى أردت مغالطة الواقع الحقيقي، فتمددت متمطيا في الفراش. كما فعل جحا(36)، ولكن الوسن قد تطاير عني. فقلت: آه! حينئذ لم أجتمع بالدكتور طه حسين حقيقة، وإنما رأيته في المنام. فعراني ما يعرو من وقع في مثل ما وقعت فيه، فأغمضت عيني ثانيا، لأن حرصي أشد من حرص جحا. إذ مطمعي أشرف من مطمعه. ولكن مع ذلك لم أجد الدكتور مستندا أمامي كما كان قبل لحظة. وما أخيب الأحلام!

(أقول): إنني رأيت الدكتور طه حسين حقيقة. وجالسته وحاورته، ولا أستحضر في محاورتي له إلا أنني شكرته أخيرا على كتاب كان ألفه وشيكا؛ يذكر فيه المعاني التي أخذها الشعراء الأوربيون من شعراء العرب، فأثنيت عليه بسببه كثيرا حتى استبشر، واقترحت عليه أن يزيد في ذلك البحث الطلي. ثم تكلمت أمامه بلفظة فيها جيم، فنبهني إلى وجوب الاعتناء بمخارج الحروف من فمي، إن أردت أن أتكلم كلاما فصيحا. وهذا آخر ما جرى بيني وبينه. ثم نبهني عبد الله ببكائه؛ فإذا بمحمد بن الحبيب قد أتاني بالوضوء في السحر على العادة. وقبل أن أرى الدكتور طه حسين، وغل علي من ذكرتهم بتلك الكيفية نفسها من (السراغنة).

تلك هي الرؤيا التي استغللتها فبنيت عليها ما بنيت، مما يملأ علي فراغ اليوم إلى الأصيل. وتحية عطرة إلى الدكتور الذي أنسني بروحه يوما وليلة، فأنست به خير يوم وليلة، وإن أعوزتنا الملاقاة في عالم الأشباح، فلنا تعلل وبلغة إلى حين في عالم الأرواح(37).

هوامش:

1- الأصدران: عرقان تحت الصدغين. والمذروان: ناحيتا الرأس. وضرب الأصدرين، ومسح المذروين: كناية عن الخيبة والتأسف.

2- يقال: رجع بخفي حنين: أي رجع خائبا محروما مما ذهب لجله.

3- (أقبل من الدهر ما أتاك به).

4- ثاني بيتين أولهما:

رق الزجاج ورقت الخمر وتشابها فتشاكل الأمر

5- ذلك ما في (حديث الأربعاء) الذي طالعته منذ نحو عشر سنوات؛ ثم لم أراجعه بعد.

6- ذلك ما وصف لنا به الدكتور.

7- ذلك غاية الإكرام في باديتنا، لعدم المخاد والفراش المبطنة من الحشيات.

8- يعتذر لتوفيق المدني الذي ندد بمن يطلق لفظة البربر على هذا الجيل الكريم من الناس في أحد أعداد مجلة(المصور).

9- كثيرا ما أشعر في منامي بأنني فصيح؛ وليتني كنت كذلك في اليقظة والواقع.

10- أنموذج من عبارة الدكتور.

11- الجملة الزائدة في الحكاية؛ وسترى فائدة التنبيه على ذلك.

12- انتحل الشيء ادعاه لنفسه؛ وكان الدكتور قد استعمل الكلمة في (الشعر الجاهلي) بمعنى الاختلاق، فأنكرها عليه الرافعي؛ هذا ما في بالي.

13- هو روني ديكارت الفيلسوف الفرنسي؛ وقد يبقه إلى مثل هذا التفكير الغزالي، في كتابه (المنقذ من الضلال).

14- ذلك نموذج من استدلالات الدكتور في كتبه.

15- مما اشتهر به الدكتور طه ذكره الله بخير؛ أنه يردد أحيانا في جمل متوالية لفظة واحدة؛ حتى صار معروفا بأسلوبه بين الكتاب بذلك.

16- كان الفقيه سيدي حمو الضرير المراكشي من سكان حارة (الزاوية العباسية) نفاعة للطلبة وللعامة في حارته؛ وكان مذقعا؛ فاتصل بالسلطان مولاي يوسف ومدحه بقصيدته؛ فكان ذلك سببا أن عينه مدرسا في إحدى مدارس الحكومة وهي تفتح إذ ذاك. فاجتمع إليه جماعة من أعيان حارته يلومونه على ما ترك من نفعهم. فقال والله ما دفعني إلى ذلك إلا الفاقة؛ والآن عينوا لي ثلاثة قروش حسنية فقط كل يوم؛ وأروني واحا منكم يقول لي بها؛ فإذ ذاك أتأخر عن هذه الوظيفة؛ فكان نفس الموقف الذي كان مع القاضي عبد الوهاب بالضبط (وما أشبه الليلة بالبارحة).

17- في ترجمة القاضي عبد الوهاب في (المدارك) ما يحقق أن الأمر كذلك، وأن القضية وقعت للنضر بن شميل مع البصريين؛ وأن سبب رحلته عن (بغداد) واقعة خاف بها على نفسه من المتعصبين.

18- قوس مرنة ومرنان: كثيرة الرنين.

19- في نحو عام 53- 1354هـ كان انعقد مؤتمر الأطباء العرب بـ(بغداد)، وصادف الحال أن أوفدت الحكومة المصرية الدكتور زكي مبارك ليشرف على تأسيس جامعة بغداد. فحضر مرة حفلة للمؤتمرين، فقال له بعضهم: ماذا تريد أنت بيننا؟ فنحن دكاترة الطب؛ وأنت دكتور الأدب. فقال: إنما جئت لأداوي ليللى التي قال فيها الشاعر:

يقولون ليلى بالعراق مريضة فيا ليتني كنت الطبيب المداويا

ثم صار ينشر مقالات أدبية في الجرائد ضمنها أخيرا كتابا أسماه (ليلى المريضة بالعراق).

-17-

20- قدار بن سالف الثمودي عاقر ناقة صالح. فكان ذلك سببا لهلاك قومه.

21- هذا الطيلسان من الأشياء الخالدة في الأدب العربي. ويوجد كثير من المقطعات الواردة فيه في (زهر الأدب) المطبوع طبعة جديدة بتنقيح الدكتور زكي مبارك. ويقال إن عدد المقطعات التي قيلت في هذا الطيلسان تبلغ حوالي 500 مقطعة.

22- الرجعيون في نظر بعض الناس من ذوي التفكير السطحي: هم كل من لا يزالون متمسكين بالإسلام وعاداته وأخلاقه، وإن كانوا من المفكرين العصريين؛ وذلك من قلب الحقائق.

23- لأنه أعمى.

24- صادف أن وقع تكتل من دول عربية حول مصر، الوقت الذي يطبع فيه هذا.

25- قال حسان في قصيدته:

كأنك أيها المعطى بيانا وطولا من بني عبد المدان

26- البم- بفتح الباء وتشديد الميم- والزير بكسر الزاي المدودة: من أسماء أوتار العود.

27- الكباء بالكسر من أسماء العود المتبخر به.

28- الذكاء.

29- أتتها العادة الشهرية.

30- ما رأيت قط السينما إلا مرتين في عمري.

31- اقتباس من قول الشاعر:

وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه

تغمد حقي ظالما ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه

32- سنمار بكسر السين والنون وتشديد الميم؛ بنى قصرا لبعضهم. فرماه من فوقه. فضرب به المثل.

33- العجيب أنه يوم زارني كانت تفرط منه ألفاظ فرنسية لا أفقهها. وسترى كيف زارني.

34- حكى لنا بعض الطلبة الذين هاجروا إلى (مصر) أنه اجتمع مرة في محفل بطلبة مصريي. فصاروا يتعجبون مما يخبرهم به عن حضارة المغرب ومدنه العامرة، وبعادات الحضريين من أهله. فقال قائل منهم: ما كنت أظن المغرب إلا قطرا غلبت عليه السذاجة والبداوة، حتى لا يمت إلى أية حضارة. (أقول): ثم بعد الاستقلال وتوارد الشرقيين على المغرب، وقعوا منه على ما يسرهم من اختلاف المناظر في أقاليمه المتنوعة.

35- أحب من القارئ أن يعرف أن هذا كتب عام 1356هـ ثم لم يقدر له النشر إلا اليوم، في عام 1382هـ الذي تجنمع فيه دول العرب في مصر.

36- يحكى أنه كان لجحا جار يهودي غني كثير الأموال. وكان يتمنى لو كانت له مائة دينار. وبينما هو ذات ليلة نائم رأى كأن جاره اليهودي ناوله صرة دنانير، وقال له: إن فيها تسعة وتسعين دينارا. فامتنع جحا من قبولها إلا إذا تمت مائة دينار. فألح عليه اليهودي في قبولها كما هي. فكثر النزاع بينهما. حتى أفاق جحا من النوم. ولكنه ما كاد يشعر بالحقيقة حتى أسرع إلى إغماض عينيه ومد يده وجعل يقول: هاتها؛ هاتها على نقصها.

37- إن من عجب الاتفاق: أن هذا المقال بقي في مسودته من يوم كتب؛ ولم يره أحد قط، ولا سمع به أحد إلا مرة في جلسة بـ(مراكش) والآن في ذي الحجة 1377هـ الموافق يونيه 1958م وقد صرنا نخرجه ضمن (الإلغيات)ن فإذا بالدكتور طه حسين يزور المغرب، باستدعاء من وزارة الخارجية المغربية. ثم يتفضل جنابه فيشرفني بزيارته إلى داري بـ(الرباط)، دون أن أعول على ذلك. فكان ذلك هو تأويل الرؤيا بعد عشرين عاما. وأعجب من ذلك أن يكون موضوع المحاضرة التي ألقاها مساء الخميس26/6/58 بقاعة معهد الدراسات العليا(الرباط) مقاربا لموضوع الرؤيا كثيرا؛ إذ تناول سيادة اللغة العربية على اللغات التي عاصرت صدر الإسلام خصوصا اللاتينية والفارسية، وأن أدبها ابتلع آدابهما، فصارتا عالة عليه، وأنها بذلك أول لغة عالمية بالمعنى المتعارف اليوم.



.[1] – الإلغيات، الجزء الأول، مطبعة النجاح، الدار البيضاء، 1963، ص- ص.217-240.
أعلى