ناصر الثعالبي - حكاية لاجئ سياسي -3-

3 - ألمستشار

لم يكن (ص) ينام الليل، أفزعتني حالته النفسية المتأزمه . ولم يكن يخرج إلا ّ لتناول الطعام في مطعم اللجوء (لايدن) رأيته هادئا شارد الفكر، أثقلته هموم لا يفصح عنها . ولم تكن لديّ الرغبة لمتابعة ما يعانيه ، إنه نزيل بهذا المكان المكتظ بعجائب الدنيا من السمو والانحطاط في آن. شاركني غرفة نومي دون إرادتي فمالي وإياه، وأنا غارق في ما سأكون عليه، كان يلف سجائره بطريقة محترف ، وعلى طريقة فلاحي كردستان العزيزة يرمي اليك سجارة وإن لم تدخن! ثلاثة أشهر مرت وكلانا لا يتعدى بحديثه نتائج التحقيق والأمور العامة هنا. بعد طول وقت، فكرت كثيرا وسرحت بأفكار وتصورات لا حدود لها، ربما يخفي الرجل في رأسه قضايا لا يريد مشاركة أحد فيها . ساورني شك – كعادتنا نحن العراقيين نغلف أنفسنا بالف شرنقة حين يساورنا الشك، ثم تخرج قضايانا معلنة أن الشرنقة ليست كافيه !! الحياة تسير ببطئ في معسكر أللجوء، المكتبة العربيه هنا قرأتها ثلاث مرات . لم يكن متحرك نشط في المعسكر غير الأوز البري، وطائر ألنورس ألذي ترك البحر متجها لمعسكر اللجوء ، هو الآخر أصابه الملل من رتابة الحياة. الناس بأشكالهم وجنسياتهم ليسوا سوى هموم تسير ببطئ لهدف لم يكن بعد ! موظفو المعسكر أكتسبوا صفة الكسل من ألنزلاء، فبدوا أشبه بحيوانات كسولة تتبع ظلها لتنام على ألطاولات التي امامها.

ممرات المعسكر الخلفيه أصبحت مكبات لخبز مسروق من مطعم المعسكر بعد جفافه، شعوب العالم الثالث يسعدها أكتناز الاشياء، حتى أتفهها . إنها عادة أصبحت بمرور الزمن عبئا ثقيلا على دولهم في ألازمات. تتجمع الطيور ناظرة الناس التي سرقت اكثر من كفايتها فتكرمت به عليها!! وهي أيضا غير آبهة بهذه الكائنات البشريه الملونه.
كسرّا لهذا ألروتين قررت أن أسكر. شرب ألخمور ممنوع في ألمعسكر. في غابة مقابلة لأسوار ألمعسكر ألخلفيه حططت رحالي، وعلى مقعد من ألخشب ألناعم و طاولة سميكة وقفت زجاجة ألخمر بصمت، كأنها تقاسمني ألهروب، ولم تكن مزتي غير سمك جاف مملح ذكرني (بالمسموط) (1) في مدينتي. أمامي مرعى به أغنام ذات رؤس كبيرة تدل على حالة ميسورة . واصلت ألشرب ، أبعدت كل ما يقلقني، منتقلا بين جبال كردستان وبداية ألانصار ألشيوعيين، متذكراّ مآثر ألمقاتلين، ناسيا شريكي في غرفة أللجوء، راجعا ألى شوارع البصرة ومطباتها . كان حلم يقظة جميل أيقظني منه : ألسلام عليكم : رددت ببلاهة عليكم ألسلام .أهلاّ تفضل
جلس شريكي ألذي نسيته للتو . مددت له ألكاس، شكرني بلكنة تعودتها بكردستان الحبيبه حين يتحدث بعض أهلها باللغة ألعربيه. .. شكرا.. أنا هم جايب شرب.
جلسنا سوية، شربنا بسرعة غير معهودة . بانت على صاحبي نشوة ألحميا ، أنا لم أرَ ملامحي ربما أنا آلاخر أيضا؟
أبو...... أنت مو فلان آمر سرية زاخو للشيوعيين ؟؟ تبخر ما بجوفي من ألخمر أتسعت عيناي كأنني أمام وحش خرافي ، داريت أرتباكي بكلمة (صحه) متجاهلاّ السؤال. تمزق حرير ألف الشرنقة ألتي غّلفتني!! قلت من أنت ؟؟ قال (ص) أنا مستشار ألفرسان في منطقة (به هده نان) بهدنان كما نطلقها نحن ألعرب، حملقت بوجهه طويلا وعرفت إنه آمر (الجاش) (2) وتذكرت ألعجوز امنا ألكرديه حين دخل قريتها مع فوجه ليفتش عن ألشيوعيين ! قالت له أنظر هناك هذا حرسهم في ألجبل ، وهي عشرة دقائق مشيا فأن فعلتم سأسجر ألتنور لعودتكم خبزاّ! لكنهم لم يفعلوا !!! وطالبوا أمنا بالغداء فقدمت لهم طبقا من حبوب ألشعير وقالت لهم كلوا. إستشاط ألمستشار غضبا ، ضحكت ألعجوز قائلة أنتم (جاِش) وهذا أكلكم َفلِمَ ألاستغراب؟
وعند زيارتي ألى كردستان رأيت ألكثير منهم لكنهم هذه ألمرة بأزياء اخرى !!


خلين 1997

(1) المسموط او المسموطه : هي اسماك مالحه وجافه تستعمل في الجنوب كحساء. ويقال تعالج انخفاض ضغط الدم لملوحتها.وكان اكتشافها لوفرة الاسماك ، فيعمد السكان لتجفيفها لعدم وجود المجمدات سابقا
(2) الجاش : كلمة كرديه تقابلها في العربيه الجحوش وهي تطلق على المرتزقة الاكراد في النظام السابق ويسميهم الفرسان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى