صابر رشدي - جاهل فى الأوبرا.. قصة قصيرة

صابر رشدي
2 h ·

كنت صبيا صغيرا، أتابع العالم بعينين مفتوحتين عن آخرهما، أريد التعرف على الأشياء، كل الأشياء. القراءة تفتح لى أبوابا كثيرة مغلقة، كتاب هذا الزمن يتحدثون عن عشقهم للموسيقى الكلاسيكية، يرددون أسماء لها وقع خاص، و بريق لاينطفئ : بيتهوفن. باخ . موزار. فرانز ليست. خاتشادوريان. كورساكوف. بيلا بارتوك .....
حينها، كنت ألصق أذنى بالبرنامج الثانى، والبرنامج الموسيقى، أستمع إلى الأعمال الكبرى، مستمتعا تارة، وغير مستمتع تارة أخرى. ربما نتيجة التأملات التى كانت تساورنى أثناء الإنصات. حتى قادتنى رغبة ملحة للذهاب إلى أوركسترا القاهرة السيمفونى.
كانت أجواء القاعة تفوح بالبارفانات والعطور الثمينة. دبلوماسيون أجانب، فتيات وشبان، مصريون بملامح أرستقراطية منبسطة، يتحدثون لغات عديدة بطلاقة ملحوظة.
كنت قادما من بيئة شعبية، لم تصل بعد إلى عتبات الحداثة، مزاج خاص يثمن الغناء الشعبى، ويضع مطربون مثل أحمد عدوية، وعبده الإسكنرانى، وكتكوت الأمير فى صدارة اهتماماتهم الفنية، متيمين بموسيقى الأفراح التى يلعبها عازفوا الأوكوردويونات والطبل، وراء راقصات بدينات، تعيسات الحظ غالبا، كن يتحركن بصعوبة أمام أشقياء الحى الذين يستعرضون نفوذهم لجذب الأنظار، على نحو قاس وشديد الشراسة .
رحت أنظر إلى الملامح الرائقة، التى تخلو من تعقيدات الحياة، وعلامات العوز، أحاول أن أبدو جذابا، أنيقا، حتى لا أكون شيئا ناتئا فى هذا المحفل وأنا أبحث عن معنى جديد للوجود فى هذه الحياة .
فى المرة الأولى – تلك - لذهابى إلى هناك، بدأت إحدى السيمفونيات بمقدمة سريعة ومرتفعة، بتدرج مثالى متقن، ثم توقفت دفعة واحدة ، دوم ، دوم ، دوم ...... ثم سكون مطبق ، مرت بعده برهة من الصمت العميق المفاجئ، فبادرت إلى التصفيق المتحمس حتى أنقذ أفراد الفرقة من تكاسل الحاضرين عن إبداء التحية، وعدم الإحتفاء المتعجرف، خاصة مع هذه القفلة المحكمة التى أذهلتنى . لكنى وجدتهم ينظرون إلى بامتعاض وغضب، أقلهم حدة كان يرمقنى مستخفا، متأففا. أنقذنى من هذا الموقف العصيب جار ملاصق بالمقعد المجاور.
همس فى أذنى .
-قم بالتصفيق عندما تنتهى المقطوعة .
بالفعل، أستعيدت الموسيقى، إستكمالا هادئا هذه المرة، على نحو رومانسى حالم، يخلو من التصعيد المفاجئ، حتى انتهى العزف تماما وأنا متحير: هل أقوم بالتصفيق، أم أنتظر هؤلاء المقدسون، وأقوم بمجاراتهم، محاكيا إياهم . كى لا أبدو كصبى أخرق، متوحد ومقطوع الصلة بهذا العالم الساحر الذى يدور حوله .


صابر رشدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى