عبدالله البقالي - علوان صاحب الألوان..

كان سليل مجتمع الحكايات. مع حليب أمه رضعها. و مع جدته تنفسها. و في عالمه الصغير عاش ليسمع و يتعلم كيف يلتقط من غير مجهر الأحاسيس و هي تتحول نقوشا تختزن الإشارات. و تتحول الى منار يهدي السفن إلى المرافئ الآمنة.
ربما لهذا السبب لم يشكل له ضعف بصره عائقا كي يسلك درب الحكاية. فما خزنته جمجمته من القول و الهمس و الإيحاءات المتعالية من دهاليز القصور، و صمت المقابر كان كافيا ليشكل له حافزا كي يعدو خلف الدلالات وهو يلتقط صيحات الجبابرة و اصداءها المترددة في تخوم الزمن وهم يحولون هواجسههم الى دساتير. و صراخ و توسلات المقهورين حين يندحرون ملتمسين مجرد نفس لكي يبقون احياء . ينظر حواليه إلى بقايا أصداف توزعت فيها جزئيات رسم يشكل شفرة تبطل مفعول الإبهام و يكشف الدلالات. يتوقف عند المنعطفات المثبتة في الخرائط المطلسمة و التي تحجب أسرار عالم مخادع. عالم يقع فوق سلطة الحواس. غير أنه في كل مرة ركب صهوة جواد لحكاية، كان يزداد تأكيدا أن فطامه المبكر، جعله محدود الطاقة و أعجز من أن يجاري الحكاية و يصل نهايتها.
كل حكاياته كانت بلا نهاية. و كل التفاصيل كانت بلا منطق. أو لنقل منطق المتحلقين حوله. يلج حينا ممرا بالكثير من الحماس و الإثارة. و بعد أن يتوغل داخله، يصمت فجأة في مفترق مثير. يقف كمن ينظر إلى شئ رهيب لا يراه الآخرون مثيرا بذلك فضول من حوله. و حين يسأل بعد أن يطول صمته، يجيب بكونه عالقا في شئ ما هو نفسه يجهل كنهه. و أنه أمام صفحة بيضاء مشعة تخطف الأبصار لا تسمح له بالرؤية. و حين يشرع الناس في الانفضاض من حوله. يعلو صوته فجأة بشدة تثير من حوله. ثم يستأنف الحكي. يقف ناظرا لذلك الأفق الغامض و يحكي. و يفهم الجميع أن ما يراه يفوق كل قدرة على الوصف. يتحدث بوصف مثير عن حرب أشد فتكا في التاريخ. حرب تورط فيها الإنس و الجان و الجمادات و كل القوى الخفية. حرب بين أشقاء دارت قبل ميلاد الأرض بأربعين ألف سنة.
شخص كان طوال الوقت يتابعه فاغرا فاه ، تخلص فجأة من ذهوله و صاح فيه: على ماذا كان يمشي الناس؟ أين كانوا يزرعون؟ ماذا كانوا يأكلون؟ أين كانوا يبيتون إن كانوا قد وجدوا قبل ميلاد الأرض؟
ربما هو نفسه لم يسأل نفسه. كان همه البحث عن الغرابة، و ها قد حصل ذلك وهو يحمل حكيا ضد المألوف و المعتاد. فلم ير من قبل قيمة إلا للذي لم يكشف أسراره. نظر للسائل وقال: أنت مجرد لون. و أنا تجمع لدي كل الألوان. أنا لا أنقل إليك حكايات الأقدمين، بل أحدثك عن حكاية و زمن لم يعش بعد. و بشر لا ككل البشر و دائما خلف كل دهشة ساحر.
لم يعاود الحكي ثانية. أصدقاؤه قالوا أن طائرته قد نفذ وقودها. و لذلك ما عاد بإمكانها أن تحلق في الأعالي. و ربما هو نفسه أدرك أن أجمل حكاية هي تلك التي تعاش و لا تحكى. و لهذا حين نزل الأرض، انغمس في تدمير شئ ما منه. و بين المنزلات كان يرقص. أحيانا يرتقي إلى مصاف الحكماء، و أخرى كان يشرع شرفاته على ما اعتبره الكبار هبلا. و في آخر مرة شوهد قبل اختفائه، كان يقود مظاهرة عارمة معظم افرادها أطفال. كان في حالة من الهذيان وهو يصرخ: نحن الفقراء، نشرب "مانتيكا" انتم الاغنياء، تشربون الويسكي.
حين هدأ فورانه، كان يجلس قبالة الطريق الغربية شاردا و دون أن يتحدث لأحد. و ذات يوم، اختفى في جوفها و لم يظهر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى