د. مصطفى أحمد علي - غلالات الشعاع..

كان قلبه معرضا وخاطره خامدا نافرا. تهيأ له أن كل قطرة تنهمر من السماء تستحيل إلى جدول أو سيل يختلط بمياه المحيط، تحتوي على سر من أسرار أشجانه في هذه المدينة الشمالية الباردة... ان كل ورقة تسقط من شجرة تعرف طرفاً من ارتعاشات قلبه ونبضاته... وأن كل ذرة تصدرها الشمس فتستحيل في غلالات الشعاع، تمتزج بشحنة اختصها بها وحدها دون سائر الناس .. وأن كل أنة أو زفرة تبثها الريح أو يرتلها النسيم، إنما هي عزاء ومحاكاة لترنيمة من ترانيم قلبه الهصير..
شيء من كبر يجد طريقه إلى نفسه... يحس أن بيرغن مدينة له بهذا الألق الإشراق والسعادةّ .. لا جرم ،فهو شعور قلما يبيحه لنفسه! هلا استفتى قلبه! كانت المدينة منزوية في هذه الحافة القصية من الأرض حتى جاء شاعر من الجنوب ، قلبه مثقل بعاطفة حركت سهول الجليد وجبال الثلوج ، فاستحالت بستانا أخضر تجري عيونه وتصدح أطياره ويطيب هواؤه.... أما هو فقد انكفأ وانزوى إلى ذلك النفق الذي يحتوي نفسه ويحول بينها وبين المتع و الرغائب. بيرغن من تحته صخرة خضراء..ملونة الاخضرار، والماء مطبق عليها من فوق ومن تحت..الماء في شتى صوره، ملح وعذب..سحاب وثلج...
---------
قال له : " تمتع من هذه الخضرة.. عما قليل سوف تفارقها.. سيطول بك المدى قبل أن تلم بها مرة أخرى!"
كان من جنوب النرويج، شعره في لون الثلج، وعيناه في لون البحر... تشتعل الأفكار في ذهنه اشتعالا، وتهمس بها حروفه همسا. حدثه عن رحالة انجليزي، كتب كتابا عن ( درب الأربعين).. غمره شعور عميق بالمفاجأة! ما الذي جعله ينتقل من صقيع الشمال إلى رياح السموم في صحارى بيوضة والعتمور؟... مضى عليه عام وهو يدور حول درب الأربعين، مشاهد وأحداث، قوافل ورجال، رعاة ومحاربون، سلطنات وممالك، هضاب وسهول، موت وحياة! غمرته مشاهد من وادي القعب وواحاته المنقطعة المتصلة، منابت النخل والعشر، ومأوى الظباء والقطا. وشرد خاطره إلى مفازة الباجة، وأسرارها التي لم تبح بها، منذ أن كانت دلتا عامرة بالخصب تغمرها مياه وادي هور. ليس يرى أرضا تحته، وإنما صخرة هائلة، تتخللها أخاديد وأودية يغمرها الثلج... ثلج شبيه بأودية الرمال التي تتخلل الهضاب النوبية، ولكنه يفوق الرمل بياضا ونعومة..ما أبعد التشبيه..بل هو يفوق القطن بياضا ونعومة!
صاروا إلى صخرة أخرى مخضرة، لكنه اخضرار يميل إلى الغبرة.. الماء ثمة ليس خلجانا ولا أنهارا، بل أودية وجداول. غمره شعور بالأمن... ما فتئ المرء يرتاع لرؤية الماء ويطمئن إذ تمسّ
قدماه الأرض!
وصلوا إلى مطار أوسلو... المسافرون من حوله تبدو على وجوههم ولباسهم الدعة.. تذكر وجوهابيضاء استبشعها لوهلة في مطار الخرطوم، مطلع الربيع.. وتذكر ما صار إليه منذ حين : أن الحسن إنما هو اتساق مع الزمان و المكان.


مصطفى أحمد علي
بيرغن --أوسلو، يونيو 1989
  • Like
التفاعلات: محمود حجازي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى