عبدالرزاق دحنون - تجدُّد ماركس

الماركسية ما تزال حية وصالحة للتعامل مع ظاهرات الواقع، ومستجداته، يستفيد منها المناضلون من أجل العدالة، كما يستفيد منها الباحثون في مختلف فروع العلوم الإنسانية، وكذلك الباحثون في تطور النظام الرأسمالي نفسه، إضافة إلى دعاة الاشتراكية وهم يبحثون عن طريق أو طرائق جديدة إليها. كتاب جديد يحكي عن (تجدّد ماركس) تأليف الباحث السوري عطية مسوح، جاء في 151 صفحة من القطع المتوسط، صمَّم غلافه عبد العزيز محمد. وصدر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب 2019.

في ظني، محاولة جعل ماركس يتحدث لغة حديثة شعبية وبسيطة ومفهومة للجميع ليست مهمة مستحيلة، وأجرؤ على القول بأن المتسول الذي يقف على أرصفة المدن المكتظة بالناس المتخمين ويطالب بحقه: من مال الله. يفهم، على بساطته وأميته، ما أراده ماركس من ماركسيته أفضل منا نحن الذين ندّعي فهم ماركس ونظريته. فأنت تستطيع الآن أن تعكف على قراءته، وستكون سعيداً إذا فهمته. ولو عدت إلى الإرهاصات الأولى لتكوُّن المنهج الماركسي في التفكير فستجد أمامك كُتيِّب مبادئ الشيوعية الذي ألّفه فريدريك أنجلز في تشرين الثاني (نوفمبر) عام1847 كصيغة أولى لتعريف ما هي الشيوعية. وهي صيغة جميلة على كل حال في أسئلة وأجوبة. يطرح أنجلز السؤال ثمَّ يُجيب عنه. عرض هذه الصيغة على رفيق دربه كارل ماركس، وكانت أول وثيقة واضحة المعالم عن المفهوم الجديد للعالم الذي تبلور في عقل الشابّين. تمَّتْ صياغة شكل البيان أخيراً ونُشر تحت عنوان بيان الحزب الشيوعي بصيغته المعروفة لأول مرة في طبعة خاصة باللغة الألمانية في لندن في شهر شباط /فبراير عام 1848.كان ماركس في الثلاثين، وأنجلز في الثامنة والعشرين من العمر.

أشير بداية أن منهج ماركس يحمل في طياته حكمة لا تبلى أبداً، وإن لفّها النسيان في لحظة تاريخية ما، فإنها سرعان ما تعود للحياة عبر استحضار مفاهيمها أو بعض أفكارها للتأسيس عليها وإغنائها لفهم العالم المعيش. إن ماركس حكيم، حاله حال حكماء أهل الصين وحكماء العرب، حاضر بوصفه منتج أفكار، منتج مفاهيم تندرج حكميتها في صلاحها كأساس لقيام مجتمع العدالة الإنسانية. ماركس حكيم الحرية والعدالة الاجتماعية، سعى لتحرير الإنسان من سلطة المال، ويرى في رأس المال معضلة حقيقية تقود في النهاية إلى تجريد الإنسان من إنسانيته، وإلى اغترابه عن ماهيته.

يؤكد أحد الباحثين المعاصرين: في حقل المال لم يعد بالإمكان تحديد صفات الإنسان كما هو في الواقع، بل في علاقته بالمال الذي يقلب الأمور رأساً على عقب، ومن ثَمّ فالمال هو التشوه الكلي للإنسان الواقعي، في المال يغترب الإنسان عن ماهيته. وفي استمرار دفاع ماركس عن ماهية الإنسان، يرى أن ماهية الإنسان هي الحرية. الحرية من كل ما يستعبد الإنسان، اللاهوت، الدولة، المال، وعلى ذلك فإن الفلسفة المدافعة عن فلسفة الإنسان هي فلسفة الحرية، وما الحرية سوى أن يتحول الإنسان إلى سيد هذا العالم، إلى تطابق الإنسان مع ماهيته، وهذا التطابق مع الماهية يعني تحرر الإنسان من الأصنام، كل الأصنام التي تستبد به. لا شك أن ماركس من حيث هو فيلسوف الحرية هو الذي يجعل من ماركس دائم الحضور.

تعدد المناهج التي تدرس الفلسفة الماركسية، في اعتقادي، لا يُضعفها، بل هي إحدى نقاط قوتها. نعم، عاد ماركس الإنسان الفيلسوف إلى الحياة. ماركس فيلسوف ديالكتيكي كان مهموماً بمصير سعيد للعالم، وهو جزءٌ لا يتجزأ من مفكري تاريخ الحداثة الأوربية. السؤال عن تجدُّد ماركس سؤال ينتمي إلى تاريخ الفلسفة وتاريخ الفكر. أي إن ماركس الذي عاد حياً بعد تجدُّده هو ماركس المتنوع والمتعدد، ماركس فيلسوف الحرية، أجل ماركس فيلسوف الحرية. كما أكد أيضاً أحد الباحثين المعاصرين بقوله: ماركس الفيلسوف يدافع عن مركزية الإنسان، بل هو المدافع القوي عن الإنسان المتمرد. ماركس فيلسوف التمرد والثورة، يستعير أسطورة بروميثيوس الذي حمى الإنسان عندما أراد زيوس إفناءه بالطوفان، هو الذي سرق قبساً من نور الشمس وخبأه في قصبة وأعطاه للإنسان، بروميثيوس هو الذي خدع زيوس، ولهذا غضب زيوس على بروميثيوس. والفيلسوف كارل ماركس هو الذي أخذ قبساً من نور الشمس من أجل الإنسان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى