ناصر الثعالبي - حكاية لاجئ سياسي -6-

6- الهروب
سبعة ايام مضت على خروجي من مديرية امن البصرة عام 1978 حين سمعت طرقا خفيفا على الباب ، كان الطارق رجل امن ادمن على مراقبتي لسنين. بت اعرفه كزميل عمل يودني ، يسعده ان يتبع خطاي! قالها بشكل ودود: رجاء نريد حضورك غدا في التاسعه صباحا . لم استغرب ذلك.

ليل مر بطيئا متثاقلا.. رتبت اوراقي ورسائل حب قديمه ومنشورا وزعه الحزب باسماء الرفاق المضربين عن الطعام في مديرية امن البصرة. لا ادري لماذا تشابكت رسائل الحب مع مناشير الحزب؟ ربما لأن كليهما ممنوع .في الصباح ثمة طرقات على الباب ،طرقات اعرفها انها طرقات سائق السيارة المعين معي لمتابعة مكائن الحفر والسدود قلت له : اتجه الى بغداد عن طريق الناصريه. فرد قائلا كيف؟ قلت لدينا ايفاد وانا جهزت الامر الاداري وسلفة الايفاد ، قال سنسير لاخبار الاهل
حملت حقيبة ليس لها لون، اثقلتها السنون فنزعت جلدها دون رحمه! مثلما نزع البعض جلده وتخلى عن
اجمل سنين صباه
استقبلنا فندق ذي قار في شارع المتنبي القريب من القشله وسوق السراي
اشرت الى السيد السائق بالجلوس ريثما اسجل اسماء نا.غمزت لحسن كاتب الفندق ففهم الامر
قال حسن ماذا سنسجل اسمك هذه المرة؟ اسطه( اليمته اتظلون هيج ، يبين ما راح اتخلصون)
تذكرت عماً كريماً شجاعاً يسمونه اهلي شولي. قال لي ذات مرة حين اختفيت في بيته في1970
. (انتو خوش ناس لكن مع الاسف ايديكم مغلوله!) ألمني كثيرا ذلك الهمز بعدم الرد على الرجعية بالعنف هؤلاء الذين قتلوا صديقه الشيوعي في مقهى قرب الجندي المجهول.
اردف حسن قائلا: ها نسيت ، اكو مفوض امن في الغرفة رقم (10) نزعت نظارتي الطبيه ، اتجهت الى الحمام لاحلق شاربيّ الدغليين. اصبح منظري اشبه بكلب بحر في صحراء.
فجأة ظهر في الممر رجل في الثلاثين من العمر نظرني شزرا مجتازا ممر الفندق ببطئ وكبرياء
. لم يكن اضطرابي وسيلة للهروب سيما وانا اعرفه في امن البصره ، حقيبتي ذات اللون اللالون التصقت بيدي كأنها تقبلها ان لا ابقى! لا ادري اين ذهبت هوية الاحوال المدنيه؟

ليس لدي وقت اضيعه ، تفقدت اوراقي ثانية وكان بينها يرقد دفتر جنسيتي لعله يريدني احتفظ بها حتى في القادم من المجهول!اتجهت الى مديرية السجل المدني في الرصافه. كان الموظف المسؤل عن اصدار هوية الاحوال المدنيه منشغلا باوراق كثيرة اخذ طلب البدل ضائع لهوية الاحوال المدنيه. وبسرعة اكمل الاوراق قائلا دقيقه بس ايوقعها المدير. بعد ربع ساعة كانت الهوية جاهزة ولكنها باسم اخر. استفزني ذلك ، قلت انها ليست هويتي! قال او ليست هذه صورتك يا فلان ؟ نداني بابي نسرين وهو لقب لا يعرفه الا الرفاق القريبين مني!حدقت بوجهه متأملا. قال انتظرني اليوم مساء في بار القيثارة الذهبية في ابي نؤاس. اثارت المفاجأة اندهاشي هذا الرفيق تركته منذ اثنتي عشر سنه في سجن العمارة المركزي . حين دارت الحميا دس في
جيبي عشرة دنانير سوية مع بعض عظام السمك المسقوف
. صباحا كنت في مديرية السفر والجنسيه هكذا اتذكر اسمها، حاملا امرا اداريا مزورا اعطاه لي رفيقي (ابو احسان) ( الشاعر طارق الحلفي) استحصلت به موافقة زيارة سوريا ببطاقة الاحوال في العطلة الصيفيه حسب الامر الاداري المدنيه. لكوني معلما
. في كفي برزت اخاديد كأنها ارض جفت فانفطرت الى قطع غير متلائمه. وقتها كنت اعمل مع بعض الهاربين العاملين في الخرسانه (ما نسميه حداد شيش شعبيا)؟

انطلق الباص السياحي من بغداد متجها الى سوريا عبر مدينة الرطبه . كان جمع من نقابة المعملين ذاهبا الى سوريا بنفس الباص، تم التعارف بيننا باعتباري معلما. ضابط جوازات الرطبه اصر على وجود الامر الاداري . نبضات قلبي تسارعت، البريد الحزبي الذي حملني اياه الرفاق الى قيادة الحزب في دمشق بدا وكأنه يهتز بين كفة بنطلوني وقدمي. ثقيلة تلك اوراق الرايز الملفوفه بعناية كي يسهل بلعها. اخبرت الضابط انني اعطيت الامر الاداري الى البنك حين استبدلت العمله. ابرزت له وصل البنك دون فائدة، طابور طويل من المسافرين المنتظرين . بدا الضجر يرتسم على وجوه البعض، تعالت الهمسات،(دفضها عاد رجعه او خلصنا) الكلمات نزلت كأنها برد في يوم قائض. رجعني اوخلصها..!

بدا البريد الحزبي يثقل تدريجيا حتى احسست ان بنطلوني نزل حتى الوركين. بادر احد المعلمين: استاذ شنو القضيه؟ ماكو شي السيد الضابط يريد الامر الاداري. انتبه المعلم الذي يقود وفد المعلمين صائحا سيادة الضابط الرفيق ويانا، وقدم قائمة اسماء المعلمين وجوازاتهم ، اشّرها ضابط الجوازات معتذرا عن التأخير. ما ان لفني كرسي الباص حتى تنفست الصعداء. في الامتار القليله التي اجتازها الباص تصورت انني سلمت، وتصورت ما سيأتي هناك عندما اسلم البريد .

ايقظ تيهي صوت المعلم ، رفاقنا الشرطه معذورين ، ما ندري منو خاش او منو طالع ، مو هسه موسم هروب الشيوعيين . استمر الباص متجها غربا .غرقت في نوم مرهق الجسد. شعرت بتوقف الباص والسائق يجمع جوازات السفر والهويات . التوجس سورني برعشة باردة نزعت البريد ودسسته بنايلون الكرسي الذي امامي بعد ان شققته بشكل فني بشفرة حلاقه كانت معي سلمت هويتي للسائق الذي نظر الي بريبه قائلا ان شاء الله خير نزل من الباص حاملا املي معه ،غرقت بافكار مواجهة الاعتقال صعد صبي الى الباص وهو ينادي (جوس بارد صبار بارد) غرتني ثمرة صبار حملت شوكها معها . قرأ الطفل نظراتي وقدمها لي بعد ان نزع شوكها بخفه. عرفت انني بسوريا حين قدم رجل الشرطه ليلقي نظرة على المسافرين قائلا يعطيكم العافيه.

لم أعلم عن احوال السائق مرافقي شيئا منذ اخبرته عن نية بسفري.

بغداد ايلول 1978

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى