عبدالرحيم التدلاوي - مشاعر النبل، ومقامات الوفاء، قراءة في كتاب "رسالة من امرأة في ذمة الله" لمحمد داني.

وما زال القلب يضيء رغم سواد الماديات، وما زال القلب ينبض بالحب رغم قساوة الحياة.
يختبر الإنسان مشاعر الحب، منذ صغره وحتى اللحظة التي يرحل فيها دون وداع من يحبهم.
وتمتد مشاعر الحب من العلاقة بين الرجل والمرأة إلى المواقع التي يحتلها الرجل وتحتلها المرأة في حياة كل واحد منهما. ويبارك الله الحب الصادق بقوله: "وجعلنا بينكم مودة ورحمة"، صدق الله العظيم.
فمنذ الولادة وطيلة الحياة يستشعر الإنسان هذا الحب، من الأبوين إلى لحظة البلوغ حيث اختيار الشريك.
في سنوات المراهقة، تمتد الأعين الى المختلف؛ أي إلى الأنثى/المرأة، فيتحرك الخيال بفعل عبورخلف شباك موصد، أو نسمة عطر، أو بفعل نغمة صوت يتردد في الأفق، فتشتعل الحماسة في المراهق وتتلهب حماسته، مما يمنحه شعورا باللذة، فيعيش في الخيال، ويسبح في ساحة الحلم؛ حلم لا يريد أن يصحو منه أبدا، يتناسل إلى تصورات، وينبت قصصا قد تكون حزينة تدفع به إلى البكاء، وقد تكون مجرد وهم، يستهلك سنوات عمره.
وقد حفل التراث العربي بقصص الحب العذري الصادق في نبله والإباحي المادي في عمقه، وما تفريعات كلمة الحب في اللغة العربية، إلا دليل على مراتبه ودرجاته وغناه، فنجد:
العشق الهوى، العلاقة، الكلف، الشغف، الجوى، التتيم، التبتل، التدلّه، الهيام، الصـبابة، الوجد، الدنف، الشجو، الشوق، التباريح، الغمرة، الشجن، الوصـب، الكمد، الأرق، الحنين، الجنون، الود، الغرام، الوله، الرسيس، الجزع، السُّـهْدُ، اللهف، اللوعة، الداء المخامر، السدم.
وأعلى تلك المراتب هي الشغف، كما أشار القران الكريم الى ذلك في سورة يوسف "قد شغفها حبا".
الرثاء:
يُعرّف الرثاء لغة بأنّه صوت البكاء مع الكلام على الميت، أو صوت الكلام أثناء البكاء على الميت[١]، ويُعرّف اصطلاحاً بأنه ذكر الميت وذكر محاسنه ومناقبه وخصاله الحميدة مثل: الكرم، والعفّة، والشجاعة، ووصف الحال بعد فقدانه، وما يحمله من مشاعر وحزن كبير، ويُصنّف الرّثاء على أنه أحدُ ضُروبِ الشعر العربي، وهو أكثرها عاطفةً؛ لأنّ منبعه هو القلب، فكلما زادت الصلة بين الكاتب /الشاعر والشخص الميت زادت قوة النصوص الرثائيّة، وقوّة وعمق المعاني، والعاطفة المتدفقة في الكلمات والصور بشكل كبير، واشتُهر الرثاء عند العرب بشكل كبير؛ لما يحمله من تخليد للميت، وإبقاء ذكره على ألسن الناس كلما ذكروا ما كُتب فيه من كلمات ومعان ورثاء.
فمن نعم الله على الإنسان أن يعيش في بيت ترفرف فيه روح المحبة والود والرحمة والتعاون والسلام. و أن تقوم عليه زوجة صالحة تمده بالحب، وتغذيه بالعطاء غير المحدود؛ فهي سر عمارته، ونوره الذي لا يخمد له بريق، وقد حفل الأدب العربي بالتغزل فى الزوجات وتمجيدهن والثناء عليهن في حياتهن. حتى إذا ما حل الفراق الأبدي فاضت عيون المحبين بدموع الأسى والحزن العميق على زوجاتهن المفارقات .
وكذلك الشأن بالنسبة للكاتب محمد داني، فما أهرقه من مشاعر في كتابه "رسالة من امرأة في ذمة الله" لهو ترجمة لانفعالاته، و تعبير عن فجيعته بموت زوجته، وكان قد تجاوز سن الستين بقليل؛ موتها فجر فيه مشاعره الفياضة ليفرد لها كتابا من ثلاثة أجزاء،؛ هو كتاب لا يعبر عن مراثي زوجٍ لزوجته فحسب وإنما هو رسم للحياة التي عاشها اثنان لفترة طويلة مليئة بالنبل والعطاء المتبادل في أكمل سعادة، تمكنا خلالها من تجاوز الكثير من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، كما يعبر عن استغراقهما معاً في قراءة الكتب التربوية والأدبية والفكرية...
والرائع في علاقة الزوجين أن المشاكل والمشاغل المادية والاقتصادية والاجتماعية لم تنل من حبهما بل زادته بريقا وتوهجا، مما يدل على قوة الرابطة الجامعة بينهما، ومتانة العروة الوثقى التي صاغت حياتهما.
والكتاب في جزئه الأول ينقسم إلى محطات، سمتها الساردة في المتن بالحكايات؛ وهي حكايات جمعت بين الطرافة والحزن، وتعبر عن إرادة الزوجين في تخطي الصعاب بكل ثقة وعزم؛ كل محطة تحمل عنوانا يرتبط بالحدث الكبير الذي وسمها. وتنبسط تلك الأحداث على مساحة نصية تبلغ إحدى وتسعين صفحة. وجاءت كل تلك المحطات بصوت الفقيدة كنوع من السرد الفانتاستيكي.
الغلاف الأمامي حمل صورة المرحومة مما يعني أنها البؤرة، والغلاف الخلفي حمل صورة الزوجين مما يعني أنهما مدار الحديث وموضوعه الأثير.
يهدي الكاتب عمله لزوجته بخاصة محددا زمان رحيلها بدقة، مودعا إياها ضاربا موعد لقائها.
بعد كلمة الإهداء تأتي الصفحة الموالية مطبوعة بالبسملة وراسمة رقم القبر، واسم مرسل الرسالة والمخصوص بها، تبين المرسلة أبعاد الرسالة، إنها لا تطلب بكاء بل تذكرا لحضورها الذي طبعت به حياة الأسرة في حياتها، وملأت به أركان المنزل قبل أن تغادره ولن يخبو أثره أبدا، كما تعبر في رسالتها عن الحب الذي كنته لزوجها وأبنائها دون أن تنسى ذكر حدث أليم ألم بالأسرة قبل وفاتها، ويتجلى في وفاة ابنها يحيى الذي لم يتجاوز عمره 18 يوما لا غير، تراه بصحبتها في دار الخلد يؤنس وحدتها، ويبعد عنها وحشتها.
لتأتي المحطة الأولى تحمل عنوانا مؤثرا: "الرحيل". وتتحدث فيه بلسانها عن مرضها وعن الحب الذي كان يكنه لها زوجها، وعن أثر مرضها عليه حيث تدفق شعوره وانساب لطفه رقراقا فقام يحتضنها بكل قوة وحب، تقول واصفة حبه الذي لم تخمد جذوته رغم انصرام السنين:
...وفتحت له أحضاني.. فضمني ضمة أحسست فيها الألم والحسرة.. أحسس فيها أن قلبه يتشتت ويتفتت كالعهن المنفوش.. لم أكن أظن انه يحمل كل هذه الجمرة الملتهبة داخله، وأنه يكن لي نفس الحب الذي رأيته فيه يوم جاءني معلنا حبه... وعشقه لي...ص 20.
لقد بقي الرجل محبا لزوجته طيلة حياتها وبعد موتها مما يدل على طيبته ونزاهته ونبله. تصف خجله كلما أراد الحديث معها قائلة: ما زلت أذكر كيف كان يحمر وجهه عندما يقف أمامي لمكالمتي. كيف كان ينزل عينيه احتراما وهو يكلمني.. لقد أحبني بصدق، وتفان.. كان يناديني بالأستاذة ثريا. وبقي يناديني بهذا اللقب إلى مماتي. ص 20
كما تحدثت عن إيمانها وقدرتها على تجاوز محنة صحتها به، وشعورها بألم عدم القيام بفريضة الحج وكانت تستعد لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لكن المرض أعاقها. كما تحدثت عن قبرها وبرودته، وعن حبها الصادق لزوجها بلغة رومانسية شفيفة وشاعرية باذخة، تقول فيه: يا حبيبي سي محمد.. لك وحدك أفرغ الوقت.. أخرج منه أغنيات.. أطرز منه ولائم وأعيادا.. أرسم به بحارا وقارات.. نسافر إليها سوية في حلمنا.. نركب الزمن كبساط الريح.. ونشعل في ليلنا شموع صبرنا.. شموع الأماني.. نغني.. لكل الحاضرين شوق روحنا.. ونرسم للغائبين صبحنا.. قد كانت أزهارنا يا حبيبي سي محمد تغسل وجهنا.. تلبس بالفرحة وجهنا.. ص24.
وفي محطة اللقاء تشير إلى كيفية تعارفهما، وتعبر عن سعادتها لأنها عاشت مع زوجها أربعة عقود من السعادة والحب، كما تعبر عن سعادتها بالارتباط به، وبتعلقه بها في حياتها وبعد موتها، وتعلقه بالأبناء ورعايتهم، طالبة منه ألا يحزن لفراقها فستظل حاضرة في حياته.
أنا باقي محطات الكتاب فخصصت لحكايات الكاتب الطريفة والحزينة. ومن بين الحكايات الطريفة المحطة المعنونة

ب: الترمضينة 38.
حكايات سي محمد:

الترمضينة:
يتطلب الأمر جهدا مضاعفا لتوليد الفرح من أعماق الحزن، هكذا، ومن أعطافه أخرج لنا الكاتب ينابيع من فرح وشمت علاقته بزوجته، تؤرخ لمجموعة من الأحداث تميزت ببعدها الساخر، ترسم بعض المحطات وقوع الكاتب في مطبات عجيبة وتظهر براءته في مواجهة العالم حيث وقع ضحية لفخاخ لصوص محترفين عرفوا من أين يحصلون على ماله دون عنف. كانت الحيلة محبوكة بذكاء، لكونها عزفت على وتر الربح. لا شك أن الكاتب يسخر من نفسه وهو يستعرض أطوار الحكاية، ولا يتورع عن نقد رغبته في الحصول على مال سهل.

زوجي والحاسوب ص49:
هي حكاية الزوج وقد عاد متعبا من جولته التفتيشية الطويلة ليتابع جديد الأخبار بعد حمام وغفوة، لينتقل بعدها إلى حاسوبه يطلع على الجديد محاورا أصدقاءه، ومجيبا عن رسائلهم، الأمر الذي يحرك غيرة الزوجة، لكنه، بديبلوماسيته المعهودة يعرف كيف يتصرف مع الموقف دون أن يخلف في نفس زوجته أثرا سلبيا، تقول:
أدخل أحيانا.. أمد عنقي نحو شاشة الحاسوب.. أحاول سرقة نظرة إلى ما هو مكتوب.. يتلون أحيانا وجهه. ويلبسه احمرار.. يزيد من بهائه.. ويدير إليّ الشاشة قائلا والابتسامة تلبس وجهه:
_ شوفي مع راسك يا حبيبينو.. راه ما كاين غير رحمة الله.. ياك ما غرتي من الحاسوب.. يا فرحي حبيبينو ديالي كتغير علي..؟ ص50.
إلى غير ذلك من الحكايات ذات الارتباط بالجانب الاجتماعي حيث يحضر جفاء الأهل في اللحظات المحرجة، فبدل مد يد العون تمتد يد السخط، والتنديد مما يولد حالة من الغضب لدى الزوجة أولا، والزوج ثانيا...مع سرد حكايات تعبر عن التأمل في شؤون الحياة بغير قليل من التفلسف، وذكر أحداث ترتبط بأماكن العمل.
فلماذا تنويع الحكايات؟
يدرك الكاتب أن قارئه قد ينتابه حزن شديد وهو يطالع كتابه في رثاء زوجته، وحتى لا يعسر عليه؛ إدراكا منه أن النفس تمل من موضوع واحد كما أدرك ذلك الجاحظ قبلا وكما جاء في القرآن الكريم أن النفس لا تقبل على طعام واحد، يسارع إلى إضفاء توابل القص وتقنياته لخلق التنويع ولإبقاء القارئ إلى جانبه متابعا أطوار حياته صحبة زوجته التي تركت برحيلها فراغا مهولا في نفسه وحياته. كل ذلك بكلمات صادقة نابعة من قلب عشق حد الفناء، وأحب بصفاء صوفي زوجته التي لن يجد مثيلا لها في حياته لأنها كانت كل حياته. كتب مؤلفه هذا بحبر قلبه وبدموع عينيه الصادقة. فكان التعبير الصادق والعفوي المعبر عن الوفاء والإخلاص، والذاكر محاسن الفقيدة دون مبالغات.
يعبر الكتاب بكثافة عالية عن قيمة زوجته المثقفة في حياته، ويكشف عن دورها الحيوي في إذكاء روح المعرفة والحث على الاجتهاد والعمل وروح البحث، وتلك هي شراكة الحياة ومعنى المحبة بين الزوجين، محبة قائمة على الاحترام والتآزر والتوازن والتعاون على التطوير والتجديد، يداً بيد على طريق العمر.
لقد عاشت زوجة الكاتب مع زوجها حياة مفعمة بالمحبة الصادقة والاحترام المتبادل فكانت حياة مضاعفة وغنية بما اكتسباه معاً من معرفة وعلم وخبرة.
رثاء الزوجة مدح مليء بالحزن لغيابها الذي ترك فجوة كبيرة في حياة الزوج يصعب عليه تجاوزها، رثاء يحمل مشاعر الغزل العفيف حيث تحضر فيه جماليات الزوجة الغائبة التي غيبها الموت وما غيبها قلبه المحب، تميزت بكثافة حضورها المعنوي بعد غياب بعدها الجسدي، وبهذا المعنى يكون الكلام قولا صادقا تحرَّرَ من غرضيته وغائيته النفعية، مراده إظهار رابطة المحبة التي جمعت الزوجين، حيث انتفاء الغاية العابرة، وقج استودع في كلامه مشاعره ذات الكثافة الصوفية المنبتثقة من بواطن العزلة وطبقات الوحشة المتعدِّدَة.. كما تنطوي تلك الكلمات في حق الزوجة على تصوير اللحظات الأخيرة بين شخصين عاشا معنا زمناً، ومن هنا فإنها تنطوي كذلك على رثاء للنفس، للروح التي بقيت مفردة بعد شريك يومياتها، ومن هنا كذلك، تكثر نبرة الزهد في مغريات العالم، والرغبة في أن يكون الكاتب شريكاً للراحلة في رحلتها.
**
محمد داني: رسالة من امرأة في ذمة الله، نص سردي، مطبعة ومكتبة سجلماسة، الطبعة الأولى، سنة 2018.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى