مصطفى أحمد علي - أطياف الزيتون..

كانت المغنية تزأر بصوت واضح جلي النبرات، وكان كلامها أو غناؤها بسيطا بريئا قديما فيه شيء من التاريخ، أسماء الناس و الأشياء تكاد تكون مجهولة، ومع ذلك كان من في الباص يطرب لها ويهتز..نساء في أرذل العمر وأوسطه ومقتبله..وفتيات في طفولتهنَ وصباهنَ وشبابهنَ، ورجال وصبيان وشباب، ورقة وسمو في التعامل تغمر الجو وإحساس بالحب يشيع..
لطالما عشق هذا السودان الحالم في صورته هذه العاطفية! يمتلكه الإعجاب فتصمت الكلمات في لسانه ويعجب بكل شيء..المغنية التي تمتدح كل شيء وكل شخص وكل قبيلة وكل قرية وكل مدينة، والرجال الذين تستفزهم النشوة وتنقدح في أحشائهم الحماسة.
كانت تطوف به ذكريات تنقله عبر الزمان والمكان، تستدعيها إلى ذهنه الفلوات والمنازل المتناثرة والشجيرات والكثبان.تذكر الهضاب الباسكية المخضرة أبدا والأخاديد التي تتخللها يغمرها الضباب وذرات الماء. تذكر أنه أحس في ذات يوم وكأن فرجة قد ارتسمت ما بينه وبينها، أو كأن حائلا قد قام، أو كأن الزمان انقسم فانقطعت السبل التي كانت قائمة ما بينه وبينها..كان يرى، مد البصر،مئات الأفدنة بل ألوفها حبلى بالذرة تنتظر الحصاد والقطاف، وليس ثمة حاصد. كانت تلك الديار حية في وجدانه ولكنه كان حديث العهد بها، لم يشاهدها من قبل..كانت مجرد أسماء في ذاكرته فاستحالت إلى واقع: الفاو، القدمبلية، القضارف، سهل البطانة، كسلا ،جبال التاكا ،ضريح السيد الحسن.
نزلوا من الباص عند التقاء الطريق المؤدية إلى القضارف بالطريق المفضية إلى كسلا وبورسودان. رأى سوقا صغيرة فيها طعام وشاي وقهوة...نظر خلفه فرأى فضاء شاسعا لا حدود له ولا مدى..ونظر أمامه فرأى ديارا عامرة فقيل له هذه هي القضارف. حملته قدماه عبر السوق فرأى وجوها وسيمة في رقة شديدة وجمال غامر، ولكنها وجوه ناحلة وأجساد هزيلة. تعاطف معها تعاطف الحزين العاجز، قيل له جل هؤلاء من الأريتريين. جالت عيناه تبحث عن وجه يذكره فلم يظفر بشيء، ثم لجأ إلى خياله وخاطره فتدافعت الاطياف الزيتونية..اطمأن إليها ثم استغرق في نجوى طويلة يجترَ الذكرى، واستسلم إلى شجن عميق وشجي آسر.
قرأ كلمات مكتوبة على باب متجر: "اصرف ما في الجيب، وارج ما في الغيب"..لا بد أن صاحبها رأى فيها حكمة تلخص تجاريب القرون! ثم، وقبل أن يقلب معاني تلك الحكمة رأى مكتوبا قريبا منها آية قرآنية: "والله يرزقكم من حيث لا تعلمون". ثم انصرفت ذاكرته وتفتقت عن أشياء كثيرة رددها لسانه بألسنة عربية وأعجمية! و استرجع مشهد أفدنة الذرة التي خلفها وراءه تنتظر الحصاد وليس ثمة حاصد.

الخرطوم، يناير،1989

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى