أحمد بوزفور - حلم أمجـــــد..

رأيتُ كأنني ضمن وفد مغربي إلى مؤتمر أدبي في دمشق. وكأننا في مأدبة عشاء. ورأيتُ في أقصى القاعة مائدة صغيرة يجلس إليها أستاذي أمجد الطرابلسي وحده، فترددتُ قليلا، ثم شجعتُ نفسي وتقدمتُ إليه. سلمتُ فابتسم ورحب. قلتُ له إنني مغربي، وقد كنتُ أحد طلبته بظهر المهراز بفاس. اسمي فلان. ألا تذكرني؟ فقال: أذكر وجهك إذا رأيتُه بين الوجوه، وأذكر اسمك إذا رأيتُه بين الأسماء، ولكنني لا أعرف أن هذا الاسم لهذا الوجه. قلـت: لله أنت يا أستاذي. كل كلمة منك كنز معرفة لا ينضب. وذكرت له عددا من زملائي الأساتذة الذين كانوا طلبته. وكلهم طلبوا مني أن أبلغه تحياتهم وتمنياتهم الطيبة... فرحب وسلم. ولم يتذكر من أسمائهم إلا واحدا. تهلل وجهه حين سمع اسمه وقال:
ـــ تذكرتُه. كنتُ أسميه ( فالق الشعرة )، لأنه كان يسألني، فإذا أجبتُه أخذ يفرّع سؤاله الأول إلى عنقود أسئلة صغرى، فلا نكاد ننتهي حتى تنتهي الحصة. سلم لي عليه. وسآتيك غدا بنسخة من آخر كتبي هديةً مني إليه.
ـــ ونسخةً أخرى لي أستاذي.. زكاةً للعاملين عليها على الأقل.
ـــ ونسخةً أخرى لك يا سيدي. هل تذكر قصيدةَ الشاعر المخضرم ابن أحمر في ( العاملين عليها )؟
ـــ لا أذكر من شعراء هذه المرحلة إلا تميم بن مقبل. وعلى الخصوص بيته الشهير:
ما أطيب العيشَ لو أن الفتى حجرٌ = تنبو الحوادثُ عنه وهو ملمومُ
ـــ آه.. البيت المارد. صدق حين قال:
إذا متُّ عن ذكر القوافي فلن ترى = لها تاليا بعدي أَطَبَّ وأشعرا
وأكثرَ بيتاً مارداً ضُربتْ له = حُزُونُ جبال الشعر حتى تيسَّرا
أغرَّ غريباً يمسحُ الناسُ وجهَهُ = كما تمسحُ الأيدي الجوادَ المُشَهَّرا
هل تعرف أن ابن مقبل كان أعور؟ وله مع عوره والمرأة التي تزوجها قصة
ـــ كلا يا أستاذي. لا أعرف. ما هي القصة؟
مر ابنُ مقبل في أحد أسفاره بمنزل ( عَصَر ) العقيلي، وقد جهده العطش، فاستسقى، فخرج إليه ابنتان لعصر بعُسٍّ فيه لبن، فرأتاه أعور كبيرا، فأبدتا له بعض الجفوة وذكرتا هرمَه وعورَه، فغضب وتابع طريقه، ولم يشرب. وبلغ أباهما الخبرُ فتبعه ليرده، فأبى، فقال له: ارجع ولك أعجب البنتين إليك، فرجع. وقال قصيدتَه الرائية المشهورة:
قالت سُليمى ببطن القاع من سُرُحٍ = لا خيرَ في العيش بعد الشيب والكبَرِ
لولا الحياءُ ولولا الدينُ عبتُكما = ببعض ما فيكما إذْ عبتما بَصَري
قد قلتما ليَ قولا لا أبا لكما = فيه حديثٌ على ما كان من قِصَرِ
ما أنتما والذي خالت حُلُومُكما = إلا كحيرانَ إذْ يسري بلا قمرِ
هل تعرف أصلَ قوله: ( فيه حديثٌ على ما كان من قِصَرِ ) أي أنني يمكن أن أردَّ بحديث طويل على قولكما القصير؟
ـــ لابد أنه أصل جاهلي
ـــ نعم. هو قولُ الملك الضِّلِّيل:
( وخليل قد أفـــــارقــه = ثم لا أبكي على أَثَــرِهْ
وابن عم قد تركتُ لــه = صَفْوَ ماءِ الحوضِ من كَدَرِهْ
وحديث الركب يوم هنا = وحـــديث ما على قِصَرِهْ )
ولكن لا تحصر قراءاتك عن هذه المرحلة في ابن مقبل. قارئ الشعر كالنحلة، كلما تنوعت مراعيه كلما أنتج عسلا أجود.
ـــ ولكني لا أريد أن أنتج شعرا. أريد أن أقرأ فقط.
ـــ قراءة الشعر تساعدنا على إنتاج أشياء أخرى جميلة أيضا.. الإحساس بالجمال.. إرهاف الذوق.. سلامة التفكير.. سلاسة التعبير.. رقي السلوك. وقد تساعدنا قراءةُ الشعر على إنتاج عواطف أرق وأرقى.. على أن نُحِب.. وعلى أن نُحَبَّ. لكن اهضم جيدا ما تقرأه من شعر، واطرب له، واستمتع به،. ألم ترقص قط لقراءة بيت شعر؟
ـــ أرقص؟ إنني أكون مستنفرا مستوفزا كسائق يجتاز امتحانَ رخصة السياقة.
ـــ لا. لا. لن تستفيد شيئا من هذه القراءة الجادة. اقرأ الشعر كما تلعب أو تضحك أو تحلم. اقرأه برقة وحنان وحب. إنه حلوى وليس طاجينا.
ـــ وماذا عن ابن أحمر يا أستاذي؟
ـــ ابن أحمر هو الآخر كان أعور. ألم تسمع عن ( عُوران قيس )؟ هم خمسة. كانوا جميعا شعراء. وكانوا عورا كلهم. وكانوا في مرحلة تاريخية واحدة. وهم: ابن مقبل وابن أحمر والراعي والشماخ وحُميد بن ثور
ـــ حميد بن ثور الهلالي كان أعور أيضا؟ الآن فقط فهمتُ بيته الشهير الذي يقولون إنه كان يصف فيه ذئبا:
ينامُ بإحدى مقلتيه ويتقي = بأخرى المنايا، فهو يقظانُ هاجعُ
يبدو لي أن لم يكن يصف إلا نفسه
فضحك أستاذي حتى استغرب في الضحك ( لأول مرة أسمعه يضحك، فقد كان دائما يبتسم فقط ) وقال: ذكرتَني ب ( فالق الشعرة ). إنَّ لكم أنتم المغاربةَ غرائبَ في التأويل تُطرفُ وتُطرب. وهذا هو الفرق بين فهمنا نحن المشارقة للعربية وبين فهمكم لها: نحن نعتبر المجازَ طريقا إلى الحقيقة، وأنتم تعتبرون الحقيقةَ هي الطريق. نحن نصل، وأنتم لا تصلون أبدا.
ـــ أليس هذا هو الشعر يا أستاذي؟ أن لا نصل أبدا؟
ـــ ربما .. ربما. وعلى أي حال، فشعرُ ( عوران قيس ) يا بنيّ هو المَهْمَهُ الذي قال فيه الراجز:
ومهمهٍ أعورِ إحدى العينيْنْ = بصيرِ الاخرى، وأصَمِّ الأذْنيْنْ
ـــــــــــــــــــــ قطعتُهُ بالنعتِ لا بالنعتَيْنْ ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ويبدو أنك تريد أن تقطع هذا المهمهَ كما كان صاحبُك ( تأبط ) يقطع مهامهَه:
( تَعَسَّفْتُهُ بالليل، لم يهدني له = دليلٌ، ولم يُحسنْ ليَ النعتَ خابرُ )
ـــ وابن أحمر يا أستاذي؟
ــــ ارجع إلى قصيدته عن ( السُّعاة ) في ديوانه. أحب أن أعلمك الصيد، بدلَ أن أُعطيك السمك المعلَّب.
وأفقتُ فجأة من حلمي
( فلما انتبهتُ بالخيال وراعني = إذا هو ( بيتي )، والبلادُ تَوَضَّحُ
ولــــكنه زَوْرُ يـــُيَقِّــظُ نــــائما = ويُــحدثُ أشجاناً بقلــبك تــجرحُ )
وسارعتُ إلى البحث في شعر ابن أحمر فوجدتُ فيه قصيدته في مدح يحيى بن الحكم بن أبي العاص، والتظلم إليه من عسف ( السعاة ): عمال جمع الزكاة
بان الشبابُ وأفنى ضعفَه العمُرُ = لله درك أيَّ العيش تنتظرُ؟
ويقول فيها:
لسنا بأجساد عادٍ، في طبائعنا = لا نألم الشرَّ حتى يألمَ الحَجَرُ
إن نحنُ إلا أُناسٌ أهلُ سائمةٍ = ما إنْ لنا دونها حرثٌ ولا غُرَرُ
ملُّوا البلادَ وملَّتْهم، وأحرقهم = ظلم السُّعاةِ، وباد الماءُ والشجرُ
إنْ لا تُداركْهُمُ تصبحْ منازلُهُمْ = قَفرا تبيضُ على أرجائها الحُمَرُ
.....
( والحُمر هنا جمع حُمَرة أو حُمَّرة. والحمَّرة هي القُبَّرة، وهي أخوف الطيور من الناس. ولا تسكن إلا في الخلاء. وفيها يقول طرفة:
خلا لكِ الجوُّ فبيضي واصفري = ونَقِّري ما شئتِ أنْ تُنقِّرِي )
رحمك اللهُ أستاذي أمجد الطرابلسي
وكانت في حياتك لي عظاتٌ = وأنت اليومَ أوعظُ منك حيَّا


L’image contient peut-être : 1 personne, lunettes, chapeau et gros plan
أعلى