د. محمد دخيسي أبو أسامة - حميد لحمداني.. نحو مشروع تنظيرٍ منفتح للقصة القصيرة جدا

تقديم
يندرج مشروع حميد لحمداني لتنظير القصة القصيرة جدا ضمن نسقين اثنين:
أولها: المشروع الشخصي للباحث لتحليل بنية النص السردي بصفة عامة، وتقديم صورة جديدة للقصة القصيرة جدا منذ 2005، من خلال الاشتغال في وحدات التكوين والبحث في كلية الآداب ظهر المهراز بفاس، ونشر مقالات حول الموضوع؛
ثانيهما: الحَراك الثقافي المتميِّز الذي يحظى به جنسُ القصة القصيرة جدا سواء داخل المغرب أم خارجَه.


وقد أثمر هذا الجهدُ أعمالا نقدية مختلِفة منها ما يتعلق بالرواية من حيث التنظيرُ والدراساتُ التحليلية، ومنها النقدُ الشعري ومفاهيمُ القراءة والتلقي، لينتهيَ به المسارُ حاليا عند مؤلَّفِه (نحو نظرية منفَتِحة للقصة القصيرة جدا، قضايا ونماذج تحليلية) وهو الكتاب الذي سنستخلص منه أهمَّ القضايا النقديةِ والانطباعَ الذي ساقَهُ الكاتب حول ما سبقَه من تأليفات في تنظير القصة القصيرة جدا ونقدِها.
وقد أشار حميد لحمداني إلى سياق تأليفِه الكتاب ومسارِ اهتمامه بهذا الجنس الأدبي بقوله: “شرعنا في الاهتمام بالقصة القصيرة جدا في المغرب والعالم العربي، سواءٌ في إطار الحقل الجامعي أم من خلال مشاركتِنا في الندوات واللقاءات الخاصة بالقصة القصيرة منذ سنة 2004، وهكذا ألقينا البحث الأكاديمي النظري التطبيقي المتخصص التالي:
‘ظاهرة الق الق جدا’ يوم 6 أبريل 2005 وهو بحث أكاديمي في شكل محاضرة مرئية ومسموعة استفاد منها طلبةُ السلك الثالث تخصص النقد الأدبي الحديث والمعاصر: أُنجز في إطار مشروع بارس: 2
PARS 2 لدعم البحث العلمي.” وهذا ما أشار إليه أيضا في بعض المنابر الإعلامية مما سجَّله مثلا في حوار لجريدة الاتحاد الإماراتية بتاريخ الخميس 25 أبريل 2013، حيث أضاف إلى المعطيات السابقة قراءاتِه لنصوص من الق الق جدا لمبدعين من المغرب وخارجه.

1- قراءة في التنظيرات السابقة للقصة القصيرة جدا:
قام الأستاذ حميد لحمداني بقراءة فاحصة لما سبقه من تنظيراتِ القصة القصيرة جدا خاصة مع بعض الباحثين من المغرب، وقد كان موقفُه منحصِرا بين التأييد حينا، والمعارضةِ حينا آخر، والوقوفِ بين بينَ أحيانا أخرى.
قبل بسْط هذه التنظيرات ركز الكاتب في مؤلَّفه (نحو نظرية منفتحة للقصة القصيرة جدا) على أمرين اثنين:
الأمر الأول: تحديدُ الهدف من الكتاب، حيث لخصه في:
• محاولةِ رصد وتشييد معالم “نظرية منفتحة” خاصة بفن الق الق جدا..
• صياغةِ نظرية للق الق جدا لن تكون أبدا توصيفا نهائيا ونهائيا لهذا الفن..
• بلورةِ التصورِ النظري في المقام الأول دون تحويل الكتاب إلى دراسة نقدية..
• إعادةِ النظر في التعريف الذي سبق وضعه سنة 2005، في ظل تطور الوعي التنظيري والنقدي للق الق جدا..
• صياغة تصور للق الق جدا لا ينفصل عن سياق العصر الحالي بما يتميز به من توتر وقسوة وتَزَعْزُعِ القيم..
• تسهيل إدراكِ الوقائع المتتالية للتجليات التعبيرية والتدليلية لهذا الفن الصاعد..
من خلال هذه المحاور، نستطيع التأكيدَ مسْبقا أن الأستاذ حميد لحمداني وضَع خطةَ عملٍ أولى لصياغة تعريف للقصة القصيرة جدا منذ 2005، وحاول أن يتَمِّمَه بالاطلاع على ما كُتب في الحقل الإبداعي القصصي على الصعيد العربي عامة، والاستفادةِ كذلك مما بُسط من تعريفات وتنظيرات لهذا الجنس الأدبي، دون أن يَغفَل طبعا المقاييسَ والمعايير الحضارية والثقافية التي أصبحتْ تطبع المجتمعَ العربي خاصة منه القارئَ والمتتبعَ لسيرورة النهج القصصي القصير جدا. مع توالي التوترات النفسية والتشنجات الشخصية والمجتمعية، وتطوُّرِ السير العادي للتقنيات التكنلوجية والمعلوماتية مما سهَّل التواصل والاتصال، وأسهم في تحوُّل القراءة إلى وصلات تلغرافية سريعة لا تنتظرُ أكثر مما يوَفِّرُهُ الوقت الممنوع للفرد خلال تواجده على سطح شاشة الحاسوب، ومما تفرضه السرعةُ للانتقال الفوري من مجال إلى آخر..
الأمر الثاني الذي ركز عليه الكاتب في مقدمة هذا الكتاب هو توضيح عتبةِ العنوان: ونشير في هذا الصدد أن تأليف الكتاب كان سنة 2012 أي بعدَ سبعٍ سنوات من وضْع حميد لحمداني التصورِ الأولي للقصة القصيرة جدا. ومن ثمة يكون الكتابُ مبدئيا تصحيحا للمسير وتتويجا للتصورات السابقة. ومع ذلك فقد حافظ الكاتب على رؤية منفتِحة تتيح الفرصَ اللاحقة للتتميم والاستدراك. لذلك أدرك في نهاية الأمر أن هذه النظرية لا تتدعي القولَ إن ما توصل إليه قد بلغ المدى والنهاية، وإنما التشديدُ والتركيز على أهمية انفتاح النظرية لأي تجديد أو تتميم. لذا: فـ”قدَرُ هذه النظريةِ إذن، سيكون دائما هو تعديل معطياتها في ضوء المستجدات الإبداعية التي عملتِ النظريةُ نفسُها على المساهمة في تحريكها ضد أنماطٍ سردية تقليدية استنفدت طاقتَها التأثيرية على القراء.”
فمن مزايا هذا الكتاب أنه يقبل بالقديم، أي بالتنظيرات السابقة للقصة القصيرة جدا سواءٌ ما قدمه المغاربة أم المشارقة، إلى جانب ترْك الباب مفتوحا لكل قراءة جديدة أو تنظير يساهم بموضوعية وبدقة منهجية في تمتين الروابطِ المعرفية والعملية لجنس القصة القصيرة جدا، الذي يبقى دائما “فنا صاعدا” كما وصفه حميد لحمداني في مستهل تعريفه له.
وقد اعتمد حميد لحمداني تقسيم الفصل الأول من كتابه الذي وسمه ب (علامات التنظير العربي للق الق جدا) وَفق عناوينَ دالةٍ على جهد صاحبها من حيث الموضوع المهيمنُ حتى لا يقع في مشكلِ التقديم والتأخير. وقد كان من الممكن مثلا الاشتغالُ على المنهج التاريخي بترتيب المقالات والكتب ترتيبا زمنيا؛ لكنه قد يورِّطُه في التكرار والاستطراد حينما يتعامل باحثان مع الموقف الواحد، ويكونُ تاريخ النشر متباعِدا.
أما من جهتنا فسنلجأ إلى تصنيف ثان، بحيث نقسِّم رؤيةَ حميد لحمداني إلى ثلاثة محاورَ أساسية؛ يخص الأول الموقف المؤيد، والثاني المحايد، أما الثالث فسيكون للمُعارِض؛ مع عرض نموذج لكل موقف، مع تركيزنا على الجانب المغربي، باعتباره لم يُصدِرْ أحكاما قَيْمِية في شأن ما قدمه الباحثون العرب كأحمد جاسم الحسين من سوريا ومن نهج نهجَهُ، ود. يوسف حطيني من فلسطين مُقيمٍ في الإمارات، و عبد الدائم السلامي من تونس…

1-1- التأييد وتثمين الجهد السابق؛
نقصد من خلال هذا المحورِ التركيز على ما تبناه حميد لحمداني من رؤيةٍ مؤيِّدَة لتنظيرٍ نقدي سابقٍ حول القصة القصيرة الجديدة. ونركِّز بالأساس على محمد شويكة في كتاب بعنوان (المفارقة القصصية)، حيث تميزَ بالتنظير العميق، والقوة والعمق؛ فنجد لحمداني يقول:
• أصدر المبدع والناقد محمد شويكة كتابا متميزا؛
• إنها لا تخلو من التوثيق والإحالات، غير أن لها مع ذلك قيمة تنظيرية عالية؛
• قوة هذا الكتاب كامنة في الخلفيات الإبداعية والمعرفية؛
• هكذا نرى أن هذا الكتاب قد عالج بعمق المبدع المتأمل طبيعة الق الق جدا؛
وقد ربط محمد شويكة بين ظهورِ القصة القصيرة جدا وعصرِ السرعة وواقعِ العالم الجديد وانهيار القيم وغيرها..

1- 2- المعارضة المنهجية:
استنكر حميد لحمدانيى ما قدَّمَتْه الباحثةُ سعادُ مسكين في كتابها (القصة القصيرة جدا في المغرب تصورات ومقاربات) فوصفه بمقولات نقدية صارمة، وصنفه ضمن المؤلفات التي لا تحترم المنهجية والقراءة المنسجمة والمتأنيةَ، إذ أن: “قراءته حقا شديدةُ الإرهاق، لا بعمق أفكاره بل بفوضاها وتناقضاتِها وبعدم ضبط العبارات والفروق بين النقد ونقد النقد ونظريةِ الأدب والأدب وبين الأجناس الأدبية وأنواعِها وبِخُلُوِّه من التصور المنهجي… كل ذلك إلى جانب خلو الكتاب من الأطروحة المعرفية..”
إذا عدنا إلى ما اقترحَتْه الكاتبة حول القصة القصيرة جدا؛ فإننا نلمَس اعتمادَها الجانبَ التطبيقي أكثرَ والتركيزَ على خصائصِ هذا الجنس الأدبي، ثم سعيَها إلى تثبيت المقومات المركزية التي تقارِب مفهوم القصة.
فمن خلال النموذجين السابقين وبعضِ النماذج الخاصة بتحليل القصة القصيرة جدا سواء منها المغربي أم المشرقي، نرى تلمُّسَهَ التنظيرات التي تهم أمرين اثنين:
أولا: الانسجامُ المنهجي أثناء التحليل؛
ثانيا: التركيز على انفتاح الرؤية النقدية وعدمُ انغلاقها أو ثباتها.
نعود إلى رأيه حول يوسف حطيني مستنِدا إلى بعض مواقفِ الباحث في كتابه (القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق) حيث يقول: “فمهما كان التنظير شاملا ومستوفيا لواقع الجنس الأدبي، فإن المبدعين غيرُ ملزمين بالتقيد به، والق الق جدا نفسُها هي فنٌّ لا يقبل الثبات على هوية واحدة”.
فالتأييد الذي التزم به حميد لحمداني كامن بالأساس وراء الاعتقاد الكلي بانفتاح النظرية كما انفتاحُ النص على القراءات المتعددة.

1-3- الموقف الوسطي:
استند الأستاذ حميد لحمداني على ما خطه الباحث جميل حمداوي حول القصة القصيرة جدا، باعتباره رائدا في هذا المجال في المغرب، إلى جانب كونه مُنظِّرا له ودارساً لكَثيرٍ من نصوصه. فانطلق من كتابه (القصة القصيرة جدا بالمغرب المسار والتطور) الذي يُعَدُّ خلاصةً وجمْعا لمعظم ما كُتب من مقالات وكُتُبٍ سابقة في هذا المجال ثم كتابِه الثاني (القصة القصيرة جدا قراءة في المتون) حيث وسَّع تعريف هذا الفن، ووصفَه بأنه غيرُ خالٍ من “بعض سلبيات التأثُّر بثقافة الأنترنت وما يشوبُها من مشاكلِ التوثيق.”
أما في ما يتعلق بمحور الثبات والتحول، فقد خَلُص حميد لحمداني أن الباحث جميل حمداوي ينطلق من مبدإ ثوابتِ القصة القصيرة جدا، وهو ما يؤشِّر على عدم الانفتاح الذي يدعو إليه سلفا. يقول لحمداني في هذا الصدد: “أنه قدم إلى جانب ذلك معلوماتٍ توثيقيةً تُفيدُ الباحثين في الموضوع شريطةَ التحققِ من دقتِّها، كما أنه اهتم بالنشأة والتأصيل وعثر على أصول الق الق جدا في التراث القصصي العربي.” فمن خلال رأيه هذا، يمكن القول إنه وضَعَه بين الموقفين اليميني واليساري، بين المؤيد والمعارض لموقفه الشخصي. وقد أثبت من خلال تحليلِه للآراء الواردة في كل الكتب والمقالات التي سعى إلى جمعها ودراستها؛ أن البحث في مشروع القصة القصيرة جدا موضوعٌ يحتاج إلى الدقة والموضوعية والوضوح المنهجي. كما انتبه إلى كون الرؤى التي انتهى إليها جلُّ النقاد والباحثين لا يمكن أن تكون نهائية وتامة. لذلك جاء مشروعُه الشخصي دافعا بقوة إلى تقريب جنسِ القصة القصيرة جدا، واهتمامِه بالتركيب والتلخيص واستعراض أهم النتائج التي توصل إليها.
فسعى إذاً من خلال تحليله الكتب والمقالات التي اهتمت بالقصة القصيرة جدا إلى توزيع الجهد بين الاستعراض البيبليوغرافي والنقدي، وعرْضِ ما جاء في كل مقال أو كتاب لتقريب القارئ إلى أهم المقاربات النقدية ومَواطِنِ قوتها وثَغْراتِها؛ لتكون النتيجة التي توصله للحقيقة مضبوطةً وأكثرَ منطقيةٍ من سابقتها.

2- نحو تشييد نظرية منفتحة للقصة القصيرة جدا:
نعتمد هذا العنوان، وهو أصلا عنوانُ القسم الثالث من كتاب حميد لحمداني (نحو نظرية منفتحة للقصة القصيرة جدا). فبغض النظر عن التعريفات التي خصَّها الكاتب لكل من مفهوم “النظرية” و”الانفتاح”؛ سنقف في هذا المحور عند الخلاصات التي انتهى إليها، وإلى التعريف الذي وضعه للقصة القصيرة جدا مع التركيز على بعض الملاحظات التي نراها ضروريةً ولازمة في تقديم الموضوع وتحليلِه.

2-1- استثمار الخلاصات:
بناء على نقدِ نقدِ الكاتب حميد لحمداني لبعض مقولات القصة القصيرة جدا، أو التنظيراتِ السابقة زمنا على كتابه؛ استثمر جلَّ الخلاصات التي تتماشى وهدفَه الأساس من تأليف الكتاب. كما أنه استطاع أن يُمَوْقِعَ موقفَه وسَطا بين المتشدِّد والمتساهِل حول القضايا التي ترتبط بهذا الجنس، وحاول أيضا أن يركِّز على المكونات الأساسية التي تضبِط صورةَ القصة القصيرة جدا حتى تُحَقِّقَ الوجود أولا والاستمراريةَ ثانيا والتلقي الإيجابيَّ بصورة أخص.
من بين الخلاصات التي انتهى إليها حميد لحمداني أن هناك معاييرَ تحْكُم التنظير للقصة القصيرة جدا أهمها:
– ملاحظةٌ تأصيلية للقصة القصيرة جدا، ذلك أنه أكد على أهمية التنظيرات العربية دون العودة للتعريف الغربي أو النظرية الغربية، يقول: “نلاحظ أن النقاد والمنظرين والمبدعين العرب قد ساهموا جميعا في صياغة أَوَّلِ نظرية خاصة بجنس أدبي اعتمادا على جُهد معرفي ذاتي في المقام الأول دون الحاجةِ الكبيرة لنظرية غربية.”
– التمييزُ بين القصة القصيرة جدا وباقي الأجناس السردية الأخرى؛
– المقارنةُ بين ما توصل إليه الباحثون، والنصوصِ القصصية المنشورة. وهنا لا بد من الإشارة إلى البون الشاسع بينهما، إذ لا يمكن الفصل في انتمائها للقصة القصيرة جدا إلا من حيثُ الحجم فقط، أما الموضوعُ والحِبكةُ وغيرُ ذلك من العناصر تبقى مُفتَقَدَة، غير أن الكمَّ أتاح الفرصة لبعض الُمجازفين اللعبَ بالكلمات -كما ذهب إلى ذلك أحمد جاسم الحسين- “معتقدين أن ذلك يعني إتاحةَ الفرصة لهم بِبَذْلِ قليلٍ من الجهد للحصول على صفة المبدع القصاص، في حين أن المسألة لا تعدو أن تكون مجرد عُثورٍ للفاشلين في مجال الإبداع على مَلاذٍ يعتقدون أنه يُحَقِّقُ لهمُ التفوق.”
ومن بين الخلاصات أيضا التي استقاها الكاتب من قراءاته للمتن القصصي القصير جدا وللتنظيرات المغربية والمشرقية هو فوضى التجنيس، إذ لاحظ أن كثيرا من النقاد والباحثين والمبدعين يُكثرون من تسمية هذا الجنس الأدبي دون أن يكون لهم وعيٌ تنظيري بذلك، كما أن التجنيس الذي يُقَدِّمُه البعض لأعمالهم لا يكون إلا من قبيل التنويع في التسمية. وقد استنتج لحمداني ما يلي:
• معظم التسميات “يشير إلى الحجم الضئيل لمساحةِ الكتابة أو القول في هذا الفن”؛ وهنا يمكن العودة إلى بعض التسميات كالشَّذرة والكبسولة والوَمضة والخاطرة. إلى جانب وصْفِ جنس القصة بالقصر، كالقصة القصيرة، الأقصوصة، اللوحة القصصية، لقطة قصصية…
• القليل من التسميات “يشير إلى الفكرة الطارئة بسرعة الذِّهن”، كالقصة الومضة والخاطرة القصصية وغيرها.
• فرض مصطلحِ القصة القصيرة جدا نفسَه رغم تعدد التسميات.

2-2- تعريف القصة القصيرة جدا:
من المعلوم مسبقا أن تعريف القصة القصيرة جدا ارتبط دائما بتتبع خصائص هذا الجنس السردي. ولو تتبعنا التعريفاتِ السابقةَ لتَأَكَّدَ لنا الأمر. وقد قام حميد لحمداني بتجميع ما سبق إليه الباحثون والنقادُ العربُ والمغاربة، واستخلص أهم معاييرِ القصة القصيرة جدا.
ونشير إلى أنه قد صاغ تعريفين اثنين:
أولهما: في إطار تصحيح المصطلح بناءً على المواقف السابقة، يقول في هذا الصدد: “وهكذا فبِاعتماد المجهودات التنظيرية الشرقية والاستفادةِ من طبيعة النماذج المتداوَلَةِ من القصة القصيرة جدا في المغرب والعالم العربي اقترحنا تعريفا يشْمَل العناصرَ التنظيرية التالية.”
ثانيهما: محاولة تعريفٍ ثانية، وهي بمثابةِ صياغةِ تعريفٍ مرحلي منطلِقَةٍ من أهم الخصائص التي توالَت في المؤلفات والمقالات السابقة.
ومن الملاحظ أن التعريف الثاني جاء تثمينا للأول وتنقيحا وجمعا له، وقد أكد الأستاذ حميد لحمداني أن كتابَه الأكاديمي يأتي في إطار محاولةِ المشاركة في تأصيل هذا الفن الجديد، وتجاوزِ العثرات التي وقع فيها السابقون، مع الحفاظ على الخصوصيات التي تميِّزُ القصة القصيرة جدا عن القصة القصيرة، أو عن قصيدة النثر، أو عن بعضِ النماذج النَّصِّية التي تتيح الفرصةَ للكاتب الاشتغالَ على العناصر نفسِها التي تستأثر بها القصةُ القصيرة جدا مع بعض الاستثناءات، كالخاطرة مثلا أو النكتة أو المستملحة وغيرها.
عرَّف حميد لحمداني إذاً القصةَ القصيرة جدا من خلال:
أولا- معيار النشأة: أن القصة القصيرة جدا حديثةُ النشأة.
ثانيا- معيار الحجم: أنها قصيرة جدا كمّاً، من حيث عددُ الكلمات والأسطر.
ثالثا- الخصائص: التكثيف والمفارقة والتوتير…
رابعا- التقنيات: اختزال الحدث والوصف..
استخدام الرمز والإيحاء…
خامسا- المميزات الدلالية: هيمنة الذات، رسم الموقف الإنساني..
سادسا- التجنيس النصي: تقترب من قصيدة النثر واللوحة التشكيلية والمشهد المسرحي..
وقد صاغ الكاتب تعريفه الإجمالي كما يلي:
“الق الق جدا هي فن قصصي حديث النشأة والذيوع، له أصول قديمة عربية وغربية. يتميز بخاصية رئيسية هي القِصَر الشديد، من سطرين إلى حوالي خمسةَ عشر سطرا في الغالب. كما أنه فن يعتمد كثيرا على تقنية المفارقة وخاصيات: التكثيف والتوتير والخصوبة الدلالية، والاقتصادِ في اللغة السخرية والمباغَتَة والإدهاش. وتتحول فيه الكلمة إلى ركيزة أساسية. وغالبا ما ترسم الق الق جدا حالةً محدَّدَةً أو موقِفا إنسانيا مأساويا عميقَ الدلالة، أو نقدا لاذعا للواقع في إطار مختَزَلٍ من الفضاء والحدث مع استخدام الرمز والميل إلى الطابع الغنائي أحيانا، وهي لذلك تعتمِد في الغالبِ على صوتِ الذات المتَكَلِّمة صاحبَة الموقف، كما أنها بمجموعِ تلك الخصائصِ تقترب من قصيدة النثر واللوحة التشكيلية والمشهد المسرحي أو السينمائي الخاطفين.”
ومن فضائل هذا الكتاب، كما لدى بعضِ منْ سبَقَه؛ محاولةُ التركيزِ على الجانب التطبيقي، والنظرُ إلى مدى ملاءمة هذه المعايير مع النصوص التي أصبحت تتناسل بسرعة، فارضةً نفسَها على المتلقي، دون الأخذِ بعين الاعتبار ما يلزَم كتابتَها، وما يجب مراعاتُه حتى يكون النص حاملا الوحدةَ الفنية والموضوعية المرجوة.

2-3- النظرية المنفتحة:
يعَد كتاب (نحو نظرية منفتحة للقصة القصيرة جدا) لحميد لحمداني، بحثا تنظيريا يجمع بين التعريف النقدي والابستمولوجي. وينهَجُ السبيل المفتوحَ للتعريف النهائي للقصة القصيرة جدا، والانفتاحِ على باقي الأجناس الأدبية الأخرى: “ومن ثم، فكتاب حميد لحمداني عبارة عن تدشين إبستمولوجي جديدٍ في مجال القصة القصيرة جدا، استعرضَ فيه الكاتب تصورَه الفكري الذي سماه بالنظرية المنفتحة.”
والجدير بالذكر أن حميد لحمداني ركز منذ بداية نقده النقدي للتنظيرات السابقة على مفهوم الثبات والتحول أو الانفتاح؛ لذلك كان هدفه استخلاصَ أهمِّ مُقَوِّماتِ الانفتاح في تعريف القصة القصيرة جدا، والوقوفِ ضد كل تنظير يتسم بالنهائي أو الانغلاق. وقد سبقت الإشارة إلى هذه النقطة. ويمكن في هذا المقام الاستئناسُ ببعض الفقرات من كتابه التي تؤكد ضرورةَ الانفتاح وتناهِضُ فكرةَ الانغلاق.
• هدفنا الأساسي … أن تكون نظريةُ الق الق جدا دائمةَ الانفتاح..
• ورد تعليق على يوسف حطيني جاء فيه: “هناك إشارةٌ مهمة وردَتْ في هذا المؤلَّف تخُصُّ مسألةَ التنظيرِ لأيِّ جنسٍ أدبي، فمهما كان التنظير شاملا ومستوفِيا لواقع الجنس الأدبي، فإن المبدعين غيرُ ملزَمين بالتقيُّد به، والق الق جدا نفسُها هي فن لا يقبَل الثباتَ على هُوِّيَةٍ واحدة”.
• يُعَلِّقُ على الكاتب التونسي عبد الدايم السلامي بقوله: “فهو يتخلَّص إلى حدٍّ كبير من النظرية المعيارية في بناء نظرية الق الق جدا، وينفتح أكثرَ على نظرية القراءة..”
• يعلِّق أيضا على تعريفِ محمد شويكة بقوله: “ولهذا كان تصوُّرُه النظري مفتوحا على المستجدات الجمالية التي يمكن أن تظهر في الحاضر والمستقبل.”
• أما بخصوص جميل حمداوي فقد عارضَه لأنه كان ينهج تعريفا نهائيا للقصة القصيرة جدا: “يبدو إذن أن الباحث جميل حمداوي ينطلق من مبدإ البحث عن ثوابتِ الق الق جدا الفنيةِ والجمالية مما يؤشر على أن هدفه كان هو وضع تحديدٍ نظري منغلقٍ لهذا الفن الجديد.”
إذاً، بالنظر إلى انفتاح النظرية وتطورِ الفكر البشري، والتطور المعرفي، والانتباه إلى الثغرات خاصة حينما يُلتَفت إلى النصوص الإبداعية التي تكتب وفق تصور منهجي مسبق؛ بالنظر إلى ذلك لا بد أنْ يكون التنظيرُ لهذا الفن منفتِحا. وهو رأي مقبول ومنطقيٌّ في الآن ذاتِه؛ بحكم تطوُّرِ التجارب الإبداعية التي تَؤُولُ مباشرةً تطورا تعريفيا تنظيريا، وبحكم أيضا التطورِ المعلوماتي السريع، الذي يضُخُّ دماءَ الحركة والانفتاح، سواءٌ على مستوى التنظير أم على مستوى القراءة التي تفتح البابَ أمام التأويلات المتعددة، والقراءاتِ المطبوعة بتتبُّعِ السياق العام للنص وسياقِه الخاص داخليا.
لذلك خلُص حميد لحمداني في نهاية المطاف إلى تأكيد هذا التوجهِ بقوله: “إن صياغة نظرية ابستيمولوجية للق الق جدا في هذه الدراسة تعتمد على الوعي بالعلاقة الجدلية الدائمة القائمة بين الإبداع والنقد، وعيٌ بعيد كلَّ البُعد عن علاقة الخِصامِ المفْتَعَل بين المبدعين والنقاد، مما نراه للأسف مستشريا في بعض اللقاءات والندوات بين الحين والآخر.” وحتى حينما قدَّم تعريفه المقترَح للقصة القصيرة جدا أكد كونَه غيرَ نهائي، بالعكس فهو منفَتِح على كل التنقيحات والإضافات المفيدة.

تركيب:

إن وضوح الرؤية من الشروط الضرورية لتقديمِ عملٍ إبداعي، أو تنظيرٍ تصوري، أو تعريفٍ وموقفٍ من موضوع معين؛ لذا فمن المؤكد أن ما قدمه الباحثون في مجال القصة القصيرة جدا نَواةٌ أساسية لتطوير هذا الفن وتتميم عمليات النقد ونقد النقد على السواء. وقد عبر الأستاذ حميد لحمداني في مؤلَّفه على غرار مشروعِه التنظيري للقراءة أو تحليل النص السردي عن موقف شخصي دقيق ومنهجي، يتغيا استعراضَ السابق والاستفادةَ من كل كبيرة وصغيرة، وتوضيحَ الثغرات التي وجب الاستغناءُ عنها حتى تكتمِل الصورةُ دون أن تنتهيَ القراءاتُ والمتابعةُ التنظيرية التي تبقى مفتوحة ومُشرَعةً على باقي التأويلات والإضافات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى