بسمة الشوّالي - سِنُّ اليأس.. قصة قصيرة

سار خلف الدّابّة مُكِبّ الوجه على أرض تتأرجح بين المرتفعات ، وشِقْف التّراب المُعنّى يُبْسا يتطاير رذاذا عنيفا يشجّ العرق المنسكب من جبينه. أمامه، وعلى مسافة ذيل غضوب، كان البغل يرفس الأرض الجافّة ويطوي الأثلام طيّا يوجع سنابكه، ومحراث بينهما دفن رأسه الفضّيّ يبحث في الجوف المتّقد عن أمل سقط من صاحبيْه في ذات ثَلْم.
كان سير ثلاثتهم غدوّا ورواحا من أناء قطعة الأرض حتى أطرافها.
ذيل البغل الجَهْم يسوس الخطى ، وسعيد يُلقي قبضة من البذور بين العثرة والأخرى في أفواه التّراب المفغورة .
كان عَجِلا. يستحثّ الأيّام حرثا وبذرا.
لا أحد سواه تلخّص قبضة القمح تاريخ أيّامه الآتية. وهذه الشّقوق المفتوحة تلتهم كلّ ما يُلْقَى إليها في شره وتقول هل من مزيد.
السّماء ، من فوق ، راكدة المحيّا لا يعتري ملامحها وجوم ولا انبساط ، ترجم الورى بجمرات حامية. والشّمس تسوط كلّ سحابة تعوم في ضوئها المستعر، ومن تحتهما لَوَتِ الأرض وجهها ظمأ .
أسفلَ وأعلى، وجهان يتقابلان قفا لقفا ، إذا تدانيا تنفتح بينهما أخاديد تبتلع كلّ ما فيهما من حنين، وإذا تناءيا يئنّ فيهما الوصل تمزّقا حتى ترزّ الرّعود العقيمة في البعاد ..
بعد ظهر يتلظّى سيحلّ المساء، سينيخ البغل قوائمه ويلوي المحراث رأسه إرهاقا، ثمّ يلتفت ثلاثتهم إلى الخلف يعدّون مسافات الصّعود والنّزول التي اِلْتهمت أكفّهم هذا اليوم.
الغد سيأتي بعد ليل ثقيل يفتّت كِسَر التّراب ويملأ الأخاديد المفتوحة بالقحط المفتّت، فإذا طلع النّهار اجترّت الأكفّ مسافات الذّهاب والانحدار ذاتها قبل أن تزيد عليها نيْفا من الفعل المعاد.
الحركة في الفراغ خير من الفراغ الرّاكد.
لكنّ الأرض إذا لم توصل بالرّواء تنسى جود الأيادي، وهذه آخر قوافل الغيوم تعود حاملة تباشير اليأس من الرُّواء ، رافعة على أكتافها جثمان خريف قضى عطشا.
الشّتاء لن يعيد ترتيب الفصول، والأرض لا تغيّر عادتها بسرعة .
الكلّ يدرك ذلك. البغل وصاحباه وهذه الأرض وما فيها من مواليد مفجوعة باليُبس، وتلك الوجوه المُربدّة تهيم على غير قرار، وأولئك الصّبية يلوّحون بعصيّ مكسوّة تتمايل على رؤوسها طرابيش وعمائم.
كان النّاس يتجمّعون حول الصّبية قليلا فقليلا . كلّ الذين تفرّقوا في هذه الرّبوع المتدلّية هبّوا متنادين حاملين عصيّا تزيّنت من نسج عُرْيِهم ، بينما لبوس الأجسام العجاف مقلوب عليها يعلو داخلُه المشقوقُ خارجَه البالي.
كان وحيدا بينهم . غريبا فيهم. ولمّا تقهقرت به الخطى إلى موطن الطّفولة الأولى وجد ثلاثة عقود إلاّ نيْفا من الزّمن قد محت آثار وجهه من عيون النّاس.
ما كان مع الجمع الهادر منخرطا في ضراعة خاشعة وصلاة مغنّاة:
" قايْمَه .. يا قايْمَه . *
إن شاالله تَرَوَّحْ عايْمَه .
قايْمَه.. يا قايْمَه .
قايْمَه لِبْسِتْ لَخْضَارْ
يا رَبّي تَعْطي لَمْطارْ.."
جحافل النِّقاع المستثارة بهزيم الأقدام تملأ الفراغ ما بين الرّؤوس والسّماء بنثار
التّراب. يرسب التّراب بعد سير على الرّؤوس السّافرة فتبدو قطعَ أرض شاحبةً تنزِِع من عطش .
تدوّم الأقدام وهي تشقّ معابر التّراب ، تتعثّر ، تتلاحم ، تتدافع ويستمرّ السّير الضّارع جمعا غفيرا مستجيرا بالله متشفّعا ببركة " أمّك طنقو" **، تلك العصا التي ارْتدَت الصّلاح بما أُلقيَ عليها من ألبسة بالية كانت على ظهور أصحابها معرّة ..
إذا غيّرتَ نقطة صارمة باستفهام في جملة راسخة المعنى فأنت تتعمّد إرباك
قارئ لا يعرف كيف يتّقي شرك النّقاط، واللّباس زاوية قراءة قد تتزيّن فيها المهالك وقد يضيّع الخطّ الرّديء ثروة المعاني. عليك فقط أن تغيّر زاوية القراءة في كلّ مرّة ..
" أُمِّكْ طنقو" تصلّي. تبتهل لربّ رحيم عسى يرسل الماء رسولا ما بين السّماء والأرض المتجافيَتيْن، فيصلح ذات البيْن ويروي أجساد الظّماء ."أمّك طنقو" تصلّي، تبتهل، منذ أيّام وهي تستجدي السّماء ماء . تستسقي في توبة العبد المنيب ، والنّاس من خلفها متشفّعون بصلاحها..
قايْمَه .. يا قايْمَه ..
وتنقلب كلّ الأردية على أقفيتها. تجفّف الشّمس رطوبتها الباطنة وتذرو الرّياح البيضاء ملحها الرّاكد..
تتساقط الوجوه على الأرض تبلّل قضّها المتخشّب ببقيّة ما في العيون من دمع الرّجاء. وعلى ظهور السّاجدين، كانت الأعاصير السّوداء تدور دورتها الأخيرة فتسفّ بقايا السّحب الماطرة وتغور بها في السّماء البعيدة. وكان الدّعاء، كلّما تمزّقت شعرة بين السّماء والأرض ، يتعالى ويشتدّ فيه الرّجاء حتى يغدوَ نحيبا..
خفّت رُكب البغل من وقع السّوط المشتدّ عليه ..
سعيد مأخوذ بحماسة الغناء يسابق خطواته وخطوات الدّابّة.
الأمل في الغيث النّافع يقطع على نبضه انتظامَه فيُفَرْقِع الدّويّ في كلّ زاوية فيه، ويضطرم دفق الذّاكرة حتى لا يدري أيّة قبلة يؤمّ الخائف للصّلاة ..
هناك، في ركن ما من الذّاكرة ، يخسف القمر فتخبط الأقدام في الظّلمة خبط ضلال .. ينكفئ الصّبية على وسائدهم خوفا من امرأة شقيّة كانوا يرونها مدلاّة من القمر ، مغلولة بشعرها الطّويل إلى صخوره .. بينما ينفجر الخوف من المجهول في عيني أمّه فتخرج في الظّلماء تدقّ الفراغ المروّع في قاع المهراس، وتجاوبها المهاريس من كلّ صوب وحدب .
يُرجف القرع الحادّ مفاصل الأرض ويظلّ القمر في عزلته المريبة زمنا مفزعا .
وهنا، على طرف من تلك الذّاكرة المشتعلة حنينا ، يركض سعيد بين الوهاد والرّبى صبيّا أشعث أغبر حافيا ضاربا بعصا على آنية معدنيّة ، وخلفه كلّ الصّبية، طردا للجراد الزّاحف جيوشا من الهلاك ..
يطير الجراد ويبقى الجَرَدُ.
رغم الفشل المتكرّر ، كان الأمل شريكا في كلّ فعل يقاوم الخوف ، والنّصر حليفا له وفيّا ولو بعد يأس . فالمجهول يندحر إلى مغارات النّفس النائية والغد لا يأتي إلاّ متزمّلا بالفرح .
ترك سعيد قبضتيْ المحراث واندسّ بين المستسقين. كان أكثرَهم حماسة واستغاثة ، وأعلاهم صوتا:
قايْمَه .. يا قايْمَه..
يا ربّي تَعْطي لِمْطرْ ..
اِلْتقط عصا كانت لأيّام ملقاة جانبه بلا تقوى. رفعها فكانت الأطول بين العصيّ، حاسرة الرّأس كنفسه العارية من كلّ أمل يستر خيباتها .
سجد المستسقون فسبقت جبهته إلى الوعر. دعا بِدَمْعِ مَنْ يُمنح الفرصة الأخيرة للدّعاء، تحضره كلّ الخطايا وصغائر الذّنوب والأمنيات.. تجيش نفسه ندما ويأسا وطمعا ورجاء وحلما بدوام الدّنيا.. ويقينا بزوالها ..
وطال بالجباه انكبابها على التّراب اليابس يشجّها "وأُمِّك طَنْقو " شاهقة البركة تؤمّن طرق الدّعاء إلى السّماء..
اِنْفلت عن الطّوق صوت يقرع الآذان:
" يا أيّها النّاس ارفعوا الجباه عن مساجدها قليلا ، فاسجدوا فينة واستقيموا فينة واركعوا فينة وكونوا أحسن المصلّين ..
ربّ اسقنا من فيض رحمتك قليلا.. ربّ لا تشقنا بالسّهو عن العبادات فإنّ القلوب إذا جفّت صدئت.. إنّ القلوب إذا جفّت صدئت.. وإنّ الأرض.. إنّ الأرض إذا كسدت تجارتها تسابق دودها للكفر والبهتان..
يا أيّها العابدون أحسنوا الجهاد في السّعي واجتنبوا كثيرا من الأمنيات فمن اتّكأ على عِوَجٍ سقط.."
اِنْعتقت الجباه من الثّرى الشّائك. اِستمرّت الدّماء تختلج خارج نبضها العاديّ طيلة دهشة صاعقة.. اِِرتفعت الرّؤوس ، تهاوت العِصيّ ، تفشّت فيهم الرّدّة لحظة من فوضى الإيمان.. قذف بعضهم بعضا بأسئلة حيرى ، ضلّوا سواء الفهم وأصبح جميعهم بين راجم بقطع الصّلاة ومرجوم.. ما كان إمامُهم على صوت فصيح ووجه بليغ ولفظ جميل عَصِيّ الفهم، ولا كان له هذا الحضور الطّاغي..
" لعلّ الدّاعي فينا من الصّالحين! "
لكنّ "أُمِّك طنْقُو" استعادت سطوة البركة بأسرع من عدوى الكفر بين المُرْتابين وأقامت في كلّ نفس إماما واعظا:
" من هذا الغريب يدنّس عاداتنا بوجه حليق وقميص مكويّ ولهجة صفراء غادرت للتّوِّ دفاتر الكفر؟"
كان الصّوت لسعيد..
ثابت العيون إلى الرّشد، صوّبت نحوه سهاما ناريّة الاستنكار ظلّت ترجمه حتى دحرجته من ذروة الحماسة والانتشاء إلى درك خفيض من الغربة.
اِنْسلخت عنه الجموع المتعانقةِ عند مدخل السّماء، المتّحدة في روعة الضّعف واستبداد الرّجاء، الرّابيةِ صفاء.. وتُرك عاريا من الثّقة مفرد النّفس.
عاد إلى الحراثة أكثر لَوْثة، أكثر همّا وانكسارا.
لم يع قبل الحين أنّ نفسه كانت على قاب انفجار دامٍ حتى انفضحت إفصاحا وتردّت إنكارا ..
عاد النّاس يمشون احتشادا خلف "أُمِّك طنْقو" وكلّما صخبت الأهازيج شهيّة في أذنيه اشتدّ على الدّابّة والآلة قسوة فيشتدّان عليه تعنّتا .
سينزل المطر.. خبب القلب صار كسيرا .. سقط ذا القلب من عَلٍ ، من حيث الإحساس يقينا بقبول الدّعاء إلى أقرب درك من اليأس ..
ظلّ يدعو صمتا راجيا : قايمه .. يا قايمه .. يا ربّي تعطي لِمْطرْ ..
- بلى، المطر سينزل وستنبت الأرض كلأ وخبزا وفرحا ، وسيرتفع سَمْك بيتي على أعمدة من صلب، وأملأه عيالا أشدّ قربا من الأرض أقلّ تعلّقا بالأحلام .
سينزل المطر ويغسل نفسي من كلّ خطاياها.. في الصّيف أحصد المال . والمال يقطف الأفراح ويعلّبها في صناديق الأيّام العاديّة ..
أسرع يا بغلا لعينا لا بدّ من إتمام الحرث اليوم .
قايمه يا قايمه ..
إن شا الله تْرَوَّح عايْمَه ..
يا ربّي تَعْطي لِمْطرْ ..
اُنظر إلى السّماء يا بغل.. ألا ترى الشّمس تنداح عن وهجها قليلا وبعض الغيوم تجرّأت على السّفور؟
لا بدّ من إتمام الحرث والبذر اليوم. لم يبق كثير غير محروث أو مبذور .
نزّ العرق غزيرا من الجسمين وكلّت جميع الرّكب . نعم. الغيوم تكاثفت فجأة وهبّت رياح باردة تحمل رائحة التّراب البليل. اللّيل أيضا سقط فجأة على الرّؤوس التي اشرأبّت نحو الأعلى ..
اِسودّت السّماء. اِقتربت بسوادها من الأرض.. هل وافقت استغاثة "أمّك طنقو" ساعة استجابة؟
الرّعد يهدر. البرق يومض. الله يستجيب للدّعاء والنّاس يهلّلون ويكبّرون ويحمدونه كثيرا..
الغيث يرذّ ، المطر ينزل ناعما حريريّ النّسيج يترقرق في الأكفّ الممدودة . يسيل الماء على الوجوه محمّلا بالتّراب المترسّب في شعث الرّؤوس ومنخفضات الوجوه .
الرّعود تهزم فوق والأرجل تُرْزم تحت، و"أمّك طنقو " خرجت عن طوق الذّهول ورقصت على ضرب الأكفّ الهازجة .. تمرّغت الوجوه في الوحل . كان رائع اللّزوجة ذلك الوحل، شهيّا، دافئا، ناعما نعومة الخضرة التي رفرفت في العيون ذات سنين.. جباه عديدة تضرّجت بالطّين الجاري. تخضّبت بتلك الحنّاء الوجوه والأيادي والشّعور. اِرتفعت إلى السّماء الزّغاريد والأهازيج والبكاء والأدعية.
القِراب تتنزّل من السّماء بالماء السّكوب على العطاش ..
تساقى الجميع حتى انتشوا وحتى عرّش زغب الفرح في الأجنحة العارية . سالت دماء القرابين الزّكيّة تخالط المياه الطّيّبة فعرفت كلّ الأفواه المعدمة لذّة التُّخمة مجانا. رقص النّاس انبساطا ، مزنت وجوههم بِشْرا ، تحابّوا حدّ العشق ، حدّ الغفران..
الأرض مأخوذة ومن فيها بعرَم الحبيب الجافي يؤوب بحنين دافق ، يهضل عليها سخيّا من عليائه ويدْفق إليها من بين الأثلام المنشقّة عنه عطوفا. السّرائر تفيض أملا، والأصابع تعدّ الأحلام المؤجّلة، وسعيد يغيب في النّسيج الضّبابيّ الأغيد . ينظر للأفراح المتفجّرة من العيون فينة ويقبل على العمل كثيرا.
العمل هو الحلم المؤجّل دائما وها قد أزف أوانه . خبط في عجين التّراب خلف الدّابّة صفوفا ثمّ انقطع. اِختلفت نفسه. ضحك عميقا، عانق بغله بحبّ وامتنان، غسل جسمه المغبرّ بالماء المنسكب عليهما، لاَنَ في سريرته الصّمت حتى افترّ عن كلام لذيذ نسيَ عذوبته من سنين عشر..
"وجهك الجهم يا بغلي مسك عذاباتي. في بريق عينيك الحاقدتيْن فُتِح الأمل على مصراعيه. لك العُتبى على شقاء كتبْتُه عليك حتى ترضى عيناك .. كم لك من العمر يا صديقي ؟ عشرون ؟ ثلاثون؟ أربعون ؟ عمر الشّقاء الطّويل كلّه ؟ لا تبتئس ليس في عمرك سنّ لليأس .
لا تُطْلِع أحدا على سرّ أفضي به إليك :
لي من العمر أربعة وثلاثون سنة، على شفا اليأس أو أدنى أنا..
ماذا ؟
كلاّ.. كلاّ يا صديقي، الشّتاَءَ القادمَ أُطرد من طابور المنتظرين على بوّابة الوظيفة العموميّة ..
اِِغفر لي يا صاح. اِستنزفتُ عرقك، سقيت به الأرض قبل أن تجود السّماء . كان لا بدّ من قطاف القمح أبذل ثمنه لذوي الأذرع الطّويلة عسى يثبّت سعينا هذا قدميّ في طليعة المنتظرين..
خسئتَ .. أنا لست لصاّ وأنت بغل حقود ..
ترفّقْ في جذبي يا لعين تكاد قبضتا المحراث تقطّع وصْلَيّ..
أنا لست لصّا . كان أبي كسيحا يكنز العرق ليوم الكفَن ، وكنتُ مبتور الجاه ملأت فراغ كفَّيّ بمال سرقته منه .
أكان الحلم يستحقّ كلّ هذا التّردّي ؟
قلت لذلك الكبير، تعرفه ، مؤكّد أنّك تعرفه ، قلت له : هذه كلّ ثروتي يا سيّدي، وبكلّ رجاء أبتاع بها منك كلمة أو إيماءة حرف ترفعني إلى أيّة وظيفة تستر عُرْي يدي وتكفي جيوبي طعنة الثّقوب.. أيّة وظيفة.. ولتُكَفَّن بالغبار كلّ السّنين التي أفنيْتها على مقاعد الدّراسة أباري الشّعراء في رمي القوس وسباق الأوزان..
للخبز أحكام ..
لا ريب أنّك عرفت ماذا فعل .. أخذ ذنبي برمّته كمقتدر ينتزع حبّة القمح الوحيدة من منقار فرخ، وبأدب بليغ السّطو تأسّف لي كثيرا لعدم توفّر النّصاب الكافي في المبلغ . وَعَدني إن عُدت إليه بوِزْرٍ أكبر أن ينظر في طلبي..
أكان حلما يستحقّ كلّ هذا التّردّي ؟ "
صارت التّربة تحت قدميه سائلة تُسمع لها طقطقة إذا ديست . وصار الصّعود أعسر ممّا كان . جُنّ نبض الزّمن في صدره وتصاعد العدّ نزولا إلى منتهى الصّبر.
لا بدّ من إتمام الحرث والبذر اليوم. وغدا تكون الأجنّة على موعد مع الزّهر .
السّوط ينهال على عجيزة الدّابّة شديدا فيتهزّم الهواء جرحا .
"عجِّلْ يا شقيق الأسى وصهوة الشّقاء ، يا شاهد انكسارات الحلم على محمل الأخطاء العفويّة.
معذرة يا صديقي فكلّما سيط قفاي سُطْتُ ظهرك فنتساوى حينا وتعلو عَلَيَّ أحيانا.."
اِشتدّ سواد السّماء وثقل حملها على القلوب حتى وجلت وكدر الفرح بالعيون . أقفرت الرّبوع المترامية من النّاس واحتمت الأنفاس بالسّقوف. حتى الدّوابّ والأنعام عادت إلى مرابضها. اِنقطع نزول المطر وتنزّل الحزن المتوحّش على النّفوس غزيرا . من بقي بالخارج ؟ ليس غير البغل المجبر على صحبة مُشقِيَة وسكّة محراث كلّما ولجت شقّا في الأرض لم تأمن الخروج منه ثانية .
بلغ التّعب والغيظ بالبغل منتهاهما فصار يزبد حمحمة ويرغي .
سعيد لا ينفكّ عن الحراثة. بينه وبين اليأس قيد فصلين .
" لا بدّ من إتمام الحرث ".
نظر إلى السّماء، كانت السّحب كتلا متراصّة متلاحقة، وخلفه تتساقط الأرض المحروثة إلى ذروة الضّياع . تراءى له وجه والده المطعون بالعقوق ينزف حزنا وخذلانا. بِكْرُ أولاده ودُرّتُهم يسرقه.. بماذا يعود إليه إذا أتى الصّيف ؟ وهذه الأرض؟ وهذا البغل ؟ من أين يدفع لصاحبيْهما أجرة اكترائهما..؟
"الخريف القادم لا يدركني إلاّ على متن عجلات تنقلني إلى مقرّ عملي. ترى أين سيكون مقرّ عملي؟ كلّ ما يجير العمر من اليأس طيّب . عند الضّرورة تصبح أيّة وظيفة أفضل مسمار يدقّ بالقلب".
عاد المطر بعد انقطاع يسير للنّزول. كثف صبيبه. غزر ماء السّماء ودوّت الرّعود تقتلع صواري القلوب. اِنقلب الدّعاء على الدّاعين ماء خطرا . تصاعدت الأدعية راجية مستنجدة بالسّماء :
اللّهمّ خفّف عنّا غضبك..
قايمة.. يا قايمه ..
يا ربّي تخفّف لِمْطَرْ..
تناهت إليه بعض الأصوات المنادية: "عُدْ يا سعيد ستنحدر عليك السّيول الجارفة.. عُدْ يا سعيد .."
وينفجر في التّراجع المخذول صوت طارق بن زياد ينهر النّكوص : " لا مفرّ . البحر وراءكم والعدوّ أمامكم .. "
وعلى مقربة منه ، في عقر نفسه المخذولة بالعقوق ، يجتمع عليه الجميع الشّتّى: العدل والقانون والواجب والحقّ وأولي الكفالة في الصّغر والأنا والآخر وهو وهم..
- محكمه ..
يجلس القضاة وقبالتهم يتزاحم الحاضرون جنبا دنسا إلى جنب بغيض منسجمين:
- نحن، الموكّلين بحفظ الحقّ العامّ والخاصّ وما بينهما ، نحاكم اليوم المتّهم الخطير سعيد بن ساعد المسعودي بتهمة السّرقة النّكراء لمال أب عجوز حمله على عاتقيه وهنا من بعد وهن ."
- س : كيف سوّلت لك نفسك سرقة مال أبيك ؟
- ج : لم أسرق . اِستعرت ماله خفية عنه على وعد قريب بالسّداد.
- س : متى أزمعت الفعل الخبيث؟
- ج : عندما دقّ اليأس على سنّي.
- س : لماذا الجريمة النّكراء ؟
- ج : لأستعيد حلما يُسرق كلّ يوم من عمري .
- س : أين السّليبة ؟ إذا أعدتها نلت رضا والديك وعفو المحكمة الموقّرة.
- ج : قطع سارقُها لساني .
- س ج قرار : نحن ، راعي الحقوق والواجبات ، نعلن المظنُون به عاقّا محترفا خارجا عن رحمة الوالدين إلاّ ما رضي أحدهما أو كلاهما.
وارتجّت القاعة ضجيجا ورجف قلب سعيد :
"رحماك أبي لا تشح بوجهك عنّي فإنّ رضاك إن صعّر لي خدّه فإنّي إذا لمن الضّالّين.. رضاك أبي.."
وتلاشى الرّجاء في سطوة الماء ينحدر هادرا كالغضب الجموح من كلّ الجبال المحيطة بالأرض. صارت التّربة بركة من الطّين الكدر، وصارت الأرض تنطوي عليه يكاد يلفُّه أعلاها المتساقط كخرقة مهملة. تلعثم الإحساس بالزّمن في نفسه فأُنْسِيَ على أيّة أرض يقف. وكان العَوْد إلى وتيرة الزّمن العاديّة عسيرا فأدركه الطّمْي الثائر عند مفترق الضّياع وسدّ عليه منافذ النّجاة . تميّز البغل رعبا وراح يهتزّ في مكانه والمحراث يُدْمي قوائمه الخلفيّة ..
" اِرجع يا سعيد سيدفنك التّراب ..اِرجع يا سعيد .. "
ينظر شطر النّجاة فيرى وجه أبيه يتوعّده بالحزن النّكير وعلى مبعدة يسيرة منه يكتمل اليأس نصابا وتحوم على الرّؤوس قائمة مرفرفة السّواد:
- تجاوز عمرك الخامسة والثّلاثين بكثير من السّهو. نأسف أن لم يعد لك الحقّ في الوظيفة العموميّة..
صرّح القضاة :
- حكمت المحكمة عليك بغضب الوالدين وحجب رضاهما عنك لفعل السّرقة المضمرة ..
الماء يجرف كلّ ما يعترض طوفانه والنّاس في خيفة نكراء يهرعون في اتّجاهات متقاطعة. تهاوت السّيول من عيون متربة تفجّرت في قمم الجبال وسفوحها..
ألْيل اللّيل قبل موعده. رزحت ظلمة السّماء على الأرض ففرّ أهلها إلى حيث يأمَنون لعنة الدّعاء المرتدّ نقمة . هرعت القلوب إلى الله رجاء وذكرا منيبا وصلوات خاشعة.
تضرّعت النّفوس المطعونة بالنّدم.." ربّنا ارفع غضبك عنّا إنّا بإذنك لمن التّائبين.."
نادى مناد آخر" اُهرب يا سعيد ، الأرض تعلو عليك وتطويك.."
نادى طارق بن زياد مجدّدا " أين المفرّ ..؟ "
خارت قوّة سواعده. خانته قبضتاه. لم يعد بإمكانه كبح جماح الدّابّة الحرون . ذيله يسوطه، قوائمه توشك لَكْمَه وسكّة المحراث تجرجره كجذع نخِر.. اِنفلتت قبضتا المحراث من يديه . ركض البغل المروّع مهتاجا إلى حيث النّجاة . بات الآن وحيدا تماما. مبتور السّاقين لا يستطيع الفرار، رَمَسَهما الطّمْي الثّقيل في غور الأرض، وفُتِّحت عليه أبواب الماء الطّافي من كلّ حدب ، وغمرته الأرض المجروفة تدحرجه إلى الحضيض جنازة بلا مشيّعين..
وشوهد يندحر إلى أسفل..

أكانت سنة تلك التي مرّت أم قربانا سُفكت فيه الرّوح عمادا للنّفوس الآثمة ؟
وذلك الجسد الذي تدحرج من ذروة الأمل إلى مداس الزّمن الرّديء، أكان حياة تنبض انتظارا للغد الصّافي أم سنينا مرّت هباء كأن لم تكن حيّزا ما ؟
النّاس يلوّحون بالعصيّ الكاسية من جديد و"أمّك طنقو" تجمعهم حولها ببركة مستعارة. والأستاذ سعيد الذي لم يمتلك الأرض التي رمسته ولا البغل الذي أودى به للانحدار يستقيم شجرة تين طفوليّة الشّوك رقيقة الأذى عند منبت الشّخوص إلى السّماء. يمرّ بها البغل الذي كان ذات يوم صديق شقاء فيتشمّمها حنينا باردا. ويمرّ بها الجرحى وزمرة اليائسين فيعلّقون بأهداب الشّوك شرائط من دُثر السّنين التي وُهبت للضّياع.

ــــــــــــــــ
* أغنية شعبيّة كان النّاس يردّدونها في مواسم الجفاف أثناء قيامهم بصلاة الاستسقاء .
** " أُمِّكْ طَنْقُو "عصا جافّة يحملها النّاس في صلاة الاستسقاء بعد أن يلبسوها بعضا من ملابسهم.

بسمة الشوالي
تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى