د. مصطفى أحمد علي - هواتف إشبيلية..

نظر إلى جبال التاكا، فبدت له للوهلة الأولى وكأنها ذوب الصخور، صهرتها السماء وأراقتها! أحسَ بطعم آخر مختلف لتلك الدنيا طعم لم يألفه في أيَ من بقاع السودان الأخرى التي يعرفها و يألفها في مديرية دنقلة وفي ديار البقارة، في سهول كردفان ودارفور، ومرابع الجزيرة. الوجوه مختلفة.. ثم الأزياء، كانت تضفي على لابسيها سمة ملائكية! علق بذهنه أن الملك الأسود الذي أحضر القرابين إلى بيت لحم احتفاءً بمولد الطفل عيسى عليه السلام، كان من هذه الديار. لم تكن أياماً كغيرها من أيام الله. كان العالم القبطي كله يحتفل بمولد الطفل. أكان ذلك سبب هذا الشعور العرفاني الذي كان يغمره؟ لكنه لم يختر اليوم وإنما هيأته له الأقدار! لماذا؟ لطالما سأل نفسه هذا السؤال ولطالما امتلكه هذا الشعور بالزمان ومياسم الزمان!
نال منه التعب منالاً! ولما وصلوا (كسلا)، أصاب شيئا من طعام وشراب، ثم أسرع النوم إلى أجفانه، فلما أن استيقظ ، بدّل ثيابه ثم خطا إلى الحفل خطوات ثقيلة... انتقى مقعدا وجلس يشاهد الراقصين والراقصات ويستمع إلى الموسيقى . كانت موسيقى رتيبة تنبو عنها أذناه! كان جواً تشيع فيه البهجة ولكنه كان خلواً من الألق ومن الألوان ، فقيراً في الأنغام.. لم تجتمع له أشراط الابتهاج كما يراها، فلماذا كل هذه البهجة؟ بحث عن عزاء في الوجوه ، فألفاه في وجوه بجاوية خضراء بلغت من الحسن ما لا غاية وراءه..
راعه دقة الملامح وجمال التقاطيع وأسنان كأنها الدرّ دقّة وبياضاً.. كان من فرط إحساسه بالحسن وانبهاره بالجمال، لا يكاد يصدق أن ثمة في الكون من يماثله في ذلك!لا شيء أدعى للبثّ والكتابة أكثر مما هو فيه!ظل يعيش قصيدة صامتة من زمان.. ثم هاهي الجذوة تتّقد وتحرك وجدانه، وتوقظ فيه حياة ملونة بألوان الزيتون مظلّلة بظلاله. لماذا يلاحقه التاريخ وعبق التاريخ في أمره كله؟ حتى حينما يعتريه عشق أو غرام، تظلّ هواتف إشبيلية تلحّ عليه، وسكك قرطبة تدعوه وتغريه، ومسارح غزلانها وحسانها تطارحه الهوى والغرام! كل ذلك برغم الفراسخ والقرون!
ظلَ يردد طوال رحلته أبياتاً قديمة لأبي العلاء لا يذكر متى استقرت في ذاكرته:عللاني فإن بيض الأمانيفنيت والزمان ليس بفانإن تناسيتما وداد أناسفاجعلاني من بعض من تذكرانتأمل واسع عريض عميق، فيه أسىً وشجي ولوعة... وخاطر رمادي هامد خامد خافت، وبحر عروضي لا موج فيه ولا عواصف، وأحرف مهموسة منغمة..
أنس طوال رحلته إلى هذين البيتين وأبيات أخرى تتلوهما، مستبطناً معانيها، هامساً بأحرفها، شأن من يستلذّ بالمعرفة ويجد متعة في الإحساس!دهم مجلسهما طائفة من أصدقائه ورفاقه، انصرفوا إلى هموم السياسة والثقافة والاقتصاد، وخلدت هي إلى صمت رائق متأمل، وحار هو ما بين هذا وذاك، ثم بدا له بعد حين أن يمنحهم حواسّه الظاهرة ويؤثرها بمشاعره الباطنة، وظلّ يرمقها من حين إلى حين بنظرة لا ترجحها نظرة، ثم أهداها بطاقات بريدية تبدو في إحداهنَ أشجار الدوم الباسقة الآسرة، المتفرعة أغصانها، ومن ورائها الضريح المطمئنّ، تشرف عليه الجبال الهابطة من السماء. لم يلحظ الضريح أول وهلة! صرفه عنه عنفوان الصخور وشموخ الدوم المشرئبّ، حتى ذكّره بذلك مذكّر. ثم ظلت تلحّ عليه منذئذ رغبة قوية لكي يزور السيد الحسن، ففعل.

مصطفى أحمد علي
الخرطوم، يناير،1989

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى