أحمد رجب شلتوت - مقدمة كتابي " ربيع البنفسج"

منذ عقود والرواية العربية تشهد ازدهارا كبيرا، فقيل إنها أصبحت ديوان العرب، وكثرت الجوائز المرصودة لها فكثر كتابها وناشروها، كثيرون تعاملوا مع هذا الرواج باعتباره حقيقة مؤكدة، بينما البعض تشكك ورأي في ذلك الرواج ظاهرة وقتية، ستنتهي وسوف تعاني الرواية وتقترب من الموت عندما تخاف التجديد وتخشى المغامرة وتركن إلى الجاهز من التقنيات والثيمات. لكن هل تخشى الرواية العربية التجديد فعلا؟ وهل تركن إلى الجاهز من التقنيات والثيمات كما قيل؟

أعتقد أنها لم تفعل ذلك، بل فعلت العكس تماما، فشهدت ربيعا غير مسبوق، تمثل فيما شهدته الكتابة العربية من تحولات في اللغة والخيال والموضوعات والأشكال والرؤى والمواقف، فأصبحت أكثر أشكال التعبير قدرة على تصوير تشظي الذات والمجتمع العربيين، وقد تأثرت الرواية العربية كثيرا بما مر به المجتمع العربي من منعطفات في العقود الثلاثة الكبيرة، بحيث يمكن أن نضع نماذجها المميزة بين قوسي حرب الخليج الثانية وفشل ثورات الربيع العربي.

ومن حسن حظ القارىء العربي أن ربيع الرواية لم يكن كربيعه هو كاذبا، فأينع وأزهر، وجاءت زهوره بنفسجات بلون الأسى الذي يلون المجتمع كله، فشكلت الروايات بتنوع اتجاهاتها ورؤاها باقة من البنفسج بديع لكن أسيان، فقد انعكس فيه كل ما في واقعنا من قهر وأسى.

***

يزخر المشهد الروائي العربي من المحيط إلى الخليج، ينفتح في كل الأقطار وفي المنافى على كافة التيارات والأجيال، ويتسع لكل الرؤى والتوجهات، بحيث يمكن للمتابع أن يذكر عشرات الأعمال الروائية الجيدة المكتوبة باللغة العربية، ولا يكاد يستثني المتابع بلدا عربيا، فالقائمة تطول مؤكدة أن الرواية العربية تشهد ربيعها، وهي لا تكرر ثيماتها، لكنها تعبر عن أزمات إنسان عربي متكرر الهزائم والخيبات، لذا يغلب على شخصياتها التيه والانكسار، هي بذلك لا تكرر نفسها، فلكل حالة ولكل رواية خصوصيتها، والرواية بمرونتها الفائقة كجنس أدبي وبقدرتها على استيعاب الذاتي والموضوعي، وبانفتاحها على الفنون الأدبية الأخرى، أصبحت أكثر قربا من الحياة وأكثر قدرة على التعبيرعنها، لذا سيطول ربيعها، لكن على النقد أن يقوم بدوره، وأن يواكبها مفرزا غثها من ثمينها، ومسايرا لمغامراتها الجمالية والموضوعاتية، وكاشفا عن تحولاتها الفنية الراصدة للتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي شهدها الوطن العربي خصوصا فيما انقضى من سنوات القرن الحادي والعشرين، فالرواية كنص أدبي له خصوصيته الثقافية والفنية، لا تنفض عرى علاقتها بالواقع الذي تصدر عنه، بمتغيراته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

***

وبعد، فهذا الكتاب يدور حول محورين، أولهما دراسة عن "رواية المكان" وقد أعددتها قبل عشرين عاما، وهي دراستي الوحيدة وكان دافعها، ادراكي لأهمية المكان الروائي، بأن فالمدينة الروائية مدينة خيالية حتى وإنْ استطاع القارئ أن يتحقق من وجودها الجغرافي، كما أن لها وظيفة خاصة في بناء عالم الرواية إذ تصبح حاملة لمدلولات مختلفة وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعناصر الأخرى المكونة للرواية، وتسقط عليها وتكتسب منها عمقها، وهذا شيء بديهي وهو أنّ القاهرة في روايات نجيب محفوظ ليست هي القاهرة الحقيقية، ونفس الشيء بالنسبة للندن عند «جون جولز وروذي» أو باريس عند «بلزاك» و«زولا»، وكان السرد العربي القديم أسبق من الرواية في الاحتفاء بالمكان، والمدهش أنّ السرد العربي القديم احتفى كثيرًا بالمكان، ولعل كتاب ألف ليلة وليلة خير دليل على ذلك، لكن الرواية العربية لم تولِ المكان الأهمية التي تليق به (خاصة في مرحلة ما قبل نجيب محفوظ) لكن مع جيل الستينات (والأجيال التي تلت) أدرك الروائيون قيمة المكان، وهنا نشير على سبيل المثال إلى علاقة حنا مينا باللاذقية، وإبراهيم الكوني بصحراء الحمادة بليبيا، وعبد الرحمن منيف بـ «حران» و»مدن الملح»، ومحمد جبريل ومدينة الاسكندرية، وغيرهم. فالمكان الروائي لم يعد مجرد وعاء حاو للأحداث والشخصيات بل هو شخصية موضوعية، كما أنه بُعد اجتماعي إذ يتأثر بحياة من حوله كما يؤثر في حياتهم. وبحسب تعبير جون برين «الناس هم الأماكن، والأماكن هي الناس». وكانت هذه القناعة من ناحية، وتقديري لفن المبدع الكبير محمد جبريل ولإخلاصه لمنطقة بحري بالأسكندرية، وهي مجرد كيلو متر مربع واحد، من اليمين المينا الشرقية، ومن اليسار المينا الغربية، وفى المواجهة خليج الأنفوشى، لسان أرضى، شبه جزيرة فى شبه جزيرة الإسكندرية. هذا الكيلومتر كتب عنه محمد جبريل عشرات الأعمال، وكان آخرها منذ عشرين عاما رباعية بحري، فقررت العكوف عليها دارسا للمكان الروائي فيها، وقد شاركت بهذه الدراسة في مسابقة الشارقة في مطلع هذا القرن، ولم تكن واحدة من الدراسات الثلاثة الفائزة، وإن أشارت لها لجنة التحكيم وأشادت بها، وظلت إلى اليوم الدراسة الوحيدة لي في هذا المجال.

***

أما المحور الثاني فيضم قراءات متفرقة لعدد من الأعمال الروائية العربية، ويبدأ بتحية الروائي الكبير فتحي إمبابي، الذي تنبش رواياته في لحظات غائمة في تاريخ الوطن، فقد دفعته الهزيمة العسكرية في 67 إلى التاريخ ليس بحثا عن إجابات جاهزة لاسئلة محيرة، بل بحثا عن هوية اهتز اليقين بها كرد فعل طبيعي للهزيمة، هكذا تشكلت روايته الأولى الفاتنة "نهر السماء" التي استلهمت العقود الأخيرة من عمر دولة المماليك، ويرصد تغريبة المصري في بلاد النفط في روايتيه "العرس" و"مراعي القتل"، وفي "عتبات الجنة" تطرح الرواية بفترتها التاريخية، وبشخصياتها، سؤالا عن هزيمة الثورة العربية.

أما الدكتور عمار على حسن ففي روايته السلفي يرسم لوحة كبيرة للوطن مختصرا في تلك القرية التي يطوف الأب بعتباتها مستحضرا لتاريخها ومنقبا خلف حكايات العتبات عن أصل الداء الذي حول الشاب الطيب إلى إرهابي.

وفي "حفر دافئة في متاهة الرمل" أتلمس صورة باريس الرمادية كما رسمها التونسي الحبيب السالمي في رواياته، أما الروائي السوري فواز حداد، فهو ومنذ عمله الأول " موزاييك: دمشق39" يحفر في التاريخ السياسي والاجتماعي لسوريا، ويزيح التاريخ ببراعة إلى خلفية المشهد الإجتماعي، مقدما شخصياته كشهود على الواقع وضحايا له في آن، وفي روايتيه جنود الله ثم السوريون الأعداء، يطرح أسئلة عن الدين والثورة، يتوقف الكتاب عند روايته الأخيرة "الشاعر وكاتب الهوامش"، التي ترسم صورة لهيمنة النظام على مقدرات الشعب السوري، من خلال تزييف الوعي وتدجين المثقفين واستخدام الشبيحة لترويع المواطنين. أما الروائي اليمني محمد الغربي عمران ففي روايته حصن الزيدي، وفيها يشكل الحصن فضاء يحتوي أغلب أحداثها، فهو بؤرة الأحداث باعتباره رمزا للسلطة، وتوضح الرواية تماثل السلطات، فلا تختلف سلطة عن أخرى، سواء انتمت إلى قبيلة تقسم الناس إلى سادة وعبيد، أو أئمة يطوعون الدين لمصلحتهم الشخصية أو ثوار لا يملكون سوى الشعارات وإطلاق الوعود التي لا يستطيعون الوفاء بها، فلم يتغير في الحقيقة إلا ايم الحصن في تبعيته للسلطات المتعاقبة على حكمه، بينما أحوال الناس ظلت مقيمة على بؤسها.

وفي روايته كيميا يعمل وليد علاء الدين على تذويب الحدود بين الواقعي والتاريخي من جهة، و بين التخييلي والتسجيلي من جهة أخرى، ولم يقم وليد علاء الدين بإهالة التراب على وجه جلال الدين الرومي ولم يقم بتكسير صنمه، بل قام بتفكيك الصورة النمطية لمولانا، فالصورة هي صورته النمطية في أذهان مريديه، حولوه إلى صنم لم يعبده الروائي بل بحث خلف تفاصيل الصورة المرسومة عن ملامح الإنسان الحقيقي. صورة يقبلها عقل الكاتب المنحاز للإنسان.

****

وقد بدت التحولات التي شهدتها الرواية العربية أكثر من أن تكون مجرد صدى لجملة التحولات الاجتماعية المربكة التي شهدها الوطن العربي في العقد الأخير من القرن العشرين وفيما انقضى من القرن الذي تلاه، فتوقف الروائي العراقي وارد بدر السالم عند الراهن العراقي في رواية "شظية في مكان حساس" التي تسرد رحلة أسرة عراقية مع الألم الذي صهرها، وأعاد تشكيلها وصياغة حياتها عقب تعرضها لمحنة استثنائية في زمن الحرب. أما الراهن المصري فقد حظي بروايات كثيرة توقف الكتاب عند سبع منها فقط، ففي وطن الجيب الخلفي تعالج منى الشيمي فكرة الاغتراب وتشظي الهوية وتأثيرها على تعريف الوطن عند المواطن المستلب، وفي "104 القاهرة" رواية للكاتبة ضحى عاصي ترصد تفتت عوالم المدينة التي تشهد أفولها، وتستشرف تحول العلاقات بين الفضاءات المتجاورة بما ينذر بنشوب صراع قد يزيد من اتساع الشروخ التي تنسرب منها أرواح اولئك المتمتعين بقوة الرأفة.

في واقع مثل هذا يصبح طبيعيا ألاتكتمل قصص الحب خصوصا إذا اختلفت ديانة الحبيبين، فمساراتها تكون محددة سلفا بحيث يفترقان كل في اتجاه. وهذا ما أوضحه مصطفى البلكي في روايته “سيدة الوشم ".

وإذا كانت نوفيلا "ممدوح عبدالستار" المعنونة بجواز سفر ترصد ارتحال البطل بين هاويتين، الأولى يمثلها الاغتراب الداخلي في الوطن والثانية يشير لها قراره بامتلاك سفر تمهيدا للرحيل، فإن رواية "أشباح بروكسل" لمحمد بركة تصور غربة البطل الذي يعاني استلاب الذات فيرى التيه رائعا، وفي ذلك تأكيد لعمق أزمة ذاته التي تعاني استلابا حضاريا أفقدها هويتها.

وإذا كان وائل وجدي في روايته القصيرة "ورقة أخيرة" يرصد عبر تفاصيل صغيرة تراكم الغضب الذي انفجر في 25 يناير، فإن أحمد محمد عبده في روايته بنات 6 إبريل يشير إلى الاحباطات والخيبات المتلاحقة التي تلتها.


أجمد رجب شلتوت.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى