لانا المجالي - في رثاء الفوتوغرافيا … صورة عَتيقة

(1) بورتريه مصوَّر للحفيدة

صورة فوتوغرافيَّة عَتيقة بإطارٍ خشبيّ لفتاةٍ ساذجة على أبواب عامها العشرين؛ هي التذكار الوحيد الذي حملتهُ بين يدي وأنا أغادرُ منزل جدّتي بعد وفاتها بأسبوع.
نسيتُ أن أقول، إنَّ فتاة الصورة صاحبة الوجه الممتلئ، والقرط الضخم، والشعر الكثيف المموّج، ونظرة العينين الفوتوغرافيَّة الماكرة( النظرة عندما تتخلّص من الرؤية، يستبقيها فيما يبدو شيء ما من الداخل/ رولان بارت)، والمكياج الصارخ، وانفراجة الشفتين المضبوطة بمقاس ابتسامة حَذِرة… كانت- للمصادفة- أنا/ كاتبة هذه الكلمات.
صورتي البورتريه العتيقة ليست الوحيدة من نوعها(ما تنسخه الصورة ميكانيكيّاً، لا يمكن أن يتكرَّر وجوديّاً/ بارت)، فمثيلتها التوأم مُلقاة بإهمال بين أشيائي القَديمة، لكن ميزة هذه النسخة تحديداً إنها كانت ضمن مقتنيات جدّتي الشخصيَّة؛ فقد احتفظَت بها دائماً مقابل سريرها. أستطيع أن أتخيَّل الآن فقط، الفترات الزمنيّة المسروقة من نهاراتها المُشرقة (والجزء من الثانية المُجمَّد، اللانهائيّ، المكرَّر من عمري)، حيثُ كانت الواحدة منّا تحدّق في الأخرى. امرأة مقابل امرأة؛ الجدّة القويّة الحُرّة تتدفَّق بالحياة والحفيدة الأسيرة الهشّة تروِّج للموت؛ على اعتبار أنَّ المصوِّر موظّف بعقدٍ دائم لدى الموت (المصورون عملاء الموت، يكرِّسون أنفسهم للقبض على الواقع/بارت)، والصورة – حيث تتحوَّل الذات إلى موضوع- تمرينٌ عَلى الموت ( بيد أني ما أن أشعر أنني مراقب من قبل العدسة، حتى يتغيَّر كل شيء، أتشكَّل منشغلا باتّخاذ وضعاً أمام الكاميرا، أصنع لنفسي في الحال جسداً آخر، أتحوَّل سلفاً إلى صورة/بارت).
(2) رولان بارت: أنا محكومٌ عليّ بالفوتوغرافيا
صورتي العتيقة وضعتني وجهاً لوجه ( أو، ربما، كتفاً بكتف) أمام تأمّلات السيميائيّ الفرنسيّ رولان بارت في الفوتوغرافيا، وهي مغامرة تأمّليّة وضعت حجر الأساس لمفهوم “عبقريّة الفوتوغرافيا”، خاصّة إذا استرشد بها القارئ المهتمّ (وكلّنا كذلك) للوصول إلى ملكوته التأمّليّ الشخصيّ، وهي الرحلة التي سأخوضها برفقتكم هنا.
(3) الصورة انفصال مراوغ للوعي بالهويَّة
الوقوف أمام الكاميرا (اقبضوا عليّ أنا أستسلم) عمليّة معقّدة، لأنّني بقصد أو من غير قصد سوف أحشدُ طاقاتي الجسديّة والتعبيريّة لتكريس نسخة جديدة وهميّة مزيّفة منّي (أكون أمام العدسة في الوقت نفسه؛ الشخص الذي أعتقد بأنهُ أنا، والشخص الذي أريدُ للآخرين أن يعتقدوا أنه أنا، والشخص الذي يعتقد المصوِّر أنه أنا، والشخص الذي استعمله المصوِّر لكي يعرض فنه/بارت). أتموضعُ ساكِنة بشكلٍ مسرحيّ يخدم الرسالة التي أودّ تسريبها إلى المشاهِد قارئ الصورة المستقبليّ، أو الفوريّ إذا أخذنا في الاعتبار سرعة نشر الصور الشخصيّة عبر التكنولوجيا. وهنا لا بدّ من التوقّف عند صور (البروفايلات) الشخصيّة في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة؛ أليست كلّها رسائل مشفّرة يعرضها صاحب البروفايل أمام المتلقّي(المجتمع)؟
أعودُ إلى صورتي العتيقة؛ وأقرأ بحيادٍ تامّ -بصفتي مُشاهِدة مستقبليَّة- الرسالة التي تودّ فتاة الصورة أن تنقلها للآخرين: “انظروا؛ أنا جميلة، هادئة، حالمة، جاهزة، ومترقِّبة”، علماً أنني لا أستطيع نفي القصديّة لأنّ التصوير في هذه الحالة لم يكن مصادفة، بدليل إنني ذهبت إلى الاستديو ووقفت أمام الكاميرا. لكن من هي الفتاة التي كنتُ أعتقد بأنّها أنا أثناء التقاط الصورة؟ لا يمكنني الجزم بحقيقتها، لكنّني أستطيع التخمين فقط بمقدار هشاشتها وانصياعها للمجتمع والمعايير التي تحكمه.
الصورة انفصال مراوغ للوعي بالهويّة على اعتبار أنَّ الصورة الفوتوغرافيّة هي حضوري أنا بوصفي آخر كما قال بارت، لكن لا بد من الإشارة إلى أنّ جرعة الانفصال بالهويّة في الصورة الحديثة (السيلفي مثلا) أكبر، لأنّني هنا –في الصورة- أحضر بوصفي آخر عن طريقي أو بواسطتي؛ بوصفي المصوَّر والمصوِّر في الوقت نفسه.
(4) جوهر الصورة
كنتُ قد جئت على جزئيّة الرسالة التي تنقلها الصورة الفوتوغرافيّة للمتلقّي، لكن نحنُ لا نتصوّر من أجل هذا السبب فقط. هناك جوهر للصورة –الفوتوغرافيَّة تحديدا- وهو ما وسمه رولان بارت بجوهر الصورة وحدّده على النحو الآتي “ذلك- كانَ- موجوداً”؛ ذلك اليقين لا يمكن أن تقدّمه أي كتابة، مع الانتباه إلى أنّ هذا الجوهر الذي استخلصه بارت لا يشمل الصورة الحديثة؛ بفعل برامج التعديل والإضافة واللصق والنسخ. “ذلك- كانَ-موجوداً” لم تعد يقينيّة في زمن الفوتوشوب.
وبرغم أن صورتي الفوتوغرافيَّة العتيقة (ما كنتُ عليه) لا توحي بِما صرتُ عليه الآن بفعل العمر والنضج والتجربة، إلا أنّ وجودي لا يحتمل الشكّ (ما أراهُ كانَ يوجد هناك؛ في هذا المكان الذي يمتدّ بين اللامتناهي والذات/بارت). أنا- كنت- موجودة (شَعري الكثيف، القرط الفضيّ الضخم، النظرة الفوتوغرافيّة الحالمة الماكرة، أحمر الشفاه الصارخ، الترقّب الساذج،..الخ)، وممّا لا شك فيه أيضاً، أنّ حضور جدّتي لم يكن مجازيّاً (لماذا أشعر أنه كذلك؟). جدّتي- كانت- موجودة؛ تحدِّق في الصورة من مسافة سريرٍ واحد، وتحوطها بالمعوّذات الثلاث وآية الكرسي وخرزةٍ زرقاء بلون عينيها من مسافةِ قلبٍ كبير واحد.
(5) عنف الصورة
كل صورة شخصيّة هي جرح بمرور الزمن (الزمن ليس شكلا بل كثافة. هو البروز الممزَّق لجوهر “هذا- ما – كان”؛ هو تمثيله الخاصّ/ بارت)، ولأنّها كذلك، لا أحتفظ بصور أحبابي الموتى، أو على الأقل أتجنّب الوقوف أمام مرمى نيرانها العاطفيّة. لا أعلّقها على الحيطان، أسجنها دفعةً واحدة داخل حقيبةٍ سوداء كبيرة مفخّخة بكل أشكال الفاجعة (الصورة عنيفة، ليس لأنّها تعرض عنفاً، بل لأنّها في كل مرّة تملأ المشهد بالقوّة، ولا شيء فيها يمكن رفضه، أو تحويله/بارت)، وهي بوصفها هذا، لا تصلح لترميم الفراغات الشاسعة التي حفرها رحيل أحبابنا في معمار أرواحنا الهشّ.
أن أختار صورتي العتيقة تذكاراً من حياة جدّتي الحافلة بالبهجة والحكمة، لا علاقة له بالنرجسيّة(هذه المرَّة على الأقل)، فالصورة تقدِّم ذات الشخص على اعتبار أنها تشبه ذاتها، في حين أنني أريد الشخص كما هو في ذاته. لا أريد صورة عن جدّتي، أريدُ جدّتي كما هي في ذاتها (أريد موتاي كما هم في ذواتهم، لا صورة تماثل ذواتهم)، هذا يعني وفقاً لبارت أنَّ ما يرفع من شأن الصورة هو الحبّ؛ الحبّ المفرط فقط.


__________
* منقول عن موقع ثقافات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى