لانا المجالي - قلم وورقة.. قصة قصيرة

أحصيتُها؛ ثلاثة آلاف وأربعون كرَّاسة بأوراقٍ سميكة عاجيَّة الَّلون، مُثبَتة بأسلاكٍ معدنيَّة مَتينة، وحوالي سبعة آلاف قلم حبر BIC برؤوسٍ ذهبيَّة مُدبَّبة.

قبل سنوات، عثرتُ عليها في مَحَلِّ قرطاسيَّة وسط البلد. أخذتُ كرّاستين مع ثلاثة أقلام، وعدتُ إلى شقَّتي الأرضيَّة على جناح غَيْمَة مُثْقَلة باحتمالات السرد، وهجستُ؛ سينهمر متدفِّقًا غزيرًا فوق هذه الأرض الخصبة بعد أن حجبته مُيوعَة أزرار الحاسوب، ووقاحة البياض الصَّارِخ لأوراق الكرّاسات الشَّعبيَّة المنتشرة في الأسواق، ورداءة خطّ الأقلام المخصَّصَة لطلّاب المدارس والجامعات. سينهمر كثيرًا، وعظيمًا.

في السَّادسة من صباح اليوم التالي، كنتُ أجلسُ أمام طاولة المطبخ. العصافير،كما جرت العادة، تحتفلُ صاخبةً بمناسبةٍ سريَّة. فنجان الشَّاي ساخن، وكرّاستي مفتوحة على الصفحة الثَّانية،والسُّؤال الماكر يحول بيني وبين الكلمة الأولى: ماذا لو نفدت أقلام الحبر وخذلتني أوراق الكرّاستين في منتصف السَّرد أو آخره؟ تبًّا. تبًّا؛ سيحتفظ ماركيز بمنزلته السَّامقة لمئة عامٍ أخرى من السَّرد، وتلعنني فرجينيا وولف في قبرها؛ لأنَّ قضيّةً بحجم “محلِّ قرطاسيَّة يخصُّ المرء وحده” غابت عن ذهنها، ويتسلَّى كونديرا بحكايتي المرحة عبر أحداث رواية جديدة.

أغلقتُ الكرّاسة، وعدتُ إلى سريري بانتظار استيقاظ النَّاس، وعودة الحركة إلى الشوارع، وفتح المحلّات التجاريَّة، قبل الخروج لشراء كرّاستين إضافيَّتين، وعددٍ من الأقلام، كي أضمن استمراريَّة تدفُّق السَّرد دون مُنغِّصات، وهو الأمر الذي داومت على تكراره منذ ذاك اليوم، فقد تنبَّهتُ إلى احتمال انهيار مشروعي فوق رأسي، إذا أقدَمَ صاحب محلّ القرطاسيَّة على اتِّخاذ قرارٍ اقتصاديّ جائر بالتَّوقُّف عن توفيرها، أو فضَّلت المصانع، نفسها، إلغاء إنتاجها لحساب خيارات سهلة أخرى.

خطَّتي تضمَّنت، أيضًا، إنشاء صفحة على الفيسبوك تروّج للمحلِّ المغمور والذي يتعرَّض، دون أدنى شك، إلى تغوُّل أصحاب المتاجر الكبرى. استخدمتُ صورة واجهة المحلّ غلافًا لصفحة “قلم وورقة”. استعرتُ لها صور قرطاسيَّة مميَّزة من مواقع المتاجر العالميَّة، ثمَّ أعلنتُ عن مفاجآت وخصومات خياليَّة مُرفَقة بعنوان المحلّ ورقم هاتفه، ووقفتُ ساعات في زاويةٍ بعيدة من الشَّارع؛ أراقبُ تدفُّق الزَّبائن، وأنا أرتدي نظَّارة شمسيَّة تغطِّي نصف وجهي.

عندما تراكمت لديّ مجموعة لا بأس بها من الكرّاسات، حَظيتُ بزيارة فأر. نعم، ذاك الفأر الرَّماديّ صاحب الذيل والأسنان الحادَّة. ولأنّني غير معنيَّة بملاحقته أو القضاء عليه،تفتَّقَ ذهني عن فكرة الرَّحيل إلى شقّةٍ في الطَّابق الخامس، شغرت مؤخَّرًا، آخذة بعين الاعتبار أنَّ الفئران لا تُتقِنُ الطيران ولا استخدام المصاعد الكهربائيَّة.

وكان الرَّحيلُ مناسبة لأخذ مشروعي الإبداعيّ عَلَى محمل الجدّ، إذ خصَّصتُ غُرفةً كاملة لاصطياد الفراشات السرديَّة، وأثَّثتها بخزانةٍ حديديَّة كبيرة لحفظ الكرَّاسات والأقلام،ومكتبٍ خشبيّ فاخر مع كرسيٍّ بعجلات،حرصتُ على أن يكون طبيًّا؛ تجنُّبًا لآلام الظَّهر التي يسبِّبها الجلوس ساعات طويلة.

هكذا، صارت العصافير تألف مشاهدتي،عند الرابعة فجرًا من كل يوم، مُنكبَّة على مكتبي، وبين شفتيّ سيجارة، بينما سخونة القهوة غير المحلَّاة تلفحُ وجهي، والصَّفحة الثَّانية مفتوحة، قبل أخذ غفوة قصيرة؛ بانتظار استيقاظ الناس، وعودة الحركة إلى الشَّوارع، وفتح المحلّات التِّجاريَّة، ثمَّ الخروج لشراء كرّاستين إضافيَّتين، وعددٍ من الأقلام، كي أضمن استمراريّة تدفُّق السَّرد دون منغِّصات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى