محمد حسن الكواري - أبداً لم تكن هي!.. قصة قصيرة

جلست أمامه في مكتب التحقيق الضيق على كرسي خشبي يطوق نصف جسدها، حاسرة الرأس محتشمة الثياب، تنظر بعينين حادتين إلى الكرسي الفارغ الذي أمامها وكأنها تنظر إلى شخص جالس فيه واضعة يديها على فخذيها.. بشعر قصير وبوجه متعب تخفي وراءه وجوهاً كثيرة، أخذ نفساً عميقاً من سيجارته ونفثه في وجهها، لم تكترث بسحابة الدخان التي غطت وجهها، ولم تحرك يدها لتبعده عنها ارتفع الدخان إلى سقف الغرفة.. لم يخرج منه إلا القليل من نافذة صغيرة في أعلاها، قام من مكانه يسألها.
- من قتل زوجك؟
- أنا لم أقتله.
- كل القرائن توحي أنك قاتلته. فلقد كان يضربك ويشتمك أمام الناس ولا ينفق عليك، أخذ كل أموالك وباع ما تملكين من حلي، عاطل عن العمل، لا يسمح لك بزيارة أهلك، ولم يأخذك إلى المستشفى في يوم من الأيام.
- أجل لقد فعل كل هذا، ومع ذلك لم أقتله.
- هل كان يستحق الموت؟ هل تمنيته له؟
- نعم كان يستحقه.. لكني لم أدفعه إليه.
مشى عدة خطوات حتى أخفاها خلف ظهره وأخذ يتمعن في صورة معلقة على الحائط تبادله النظر. نفث في جانب الصورة دخان سيجارته والتفت إليها.
- .. لو كنت مكانك لقتلته منذ زمن وتخلصت منه. كيف صبرت عليه كل هذه المدة؟
- ليس لي حيلة وأنا امرأة مسكينة لا أقوى على قهر الرجال.
- إذاً من له مصلحة بقتله؟
- لا أدري.. فليس له أصدقاء وأعداؤه كثر.
هل استفدت من موته؟
- أنا لم أستفد من حياته وموته ليس خسارة لي.
- علي أي الأماكن كان يتردد في الفترة الأخيرة؟
- لا أدري، فلم أره في الفترة الماضية إلا نادراً كان يبيت خارج البيت بالليلتين والثلاث.. اقترب منها وأخذ يحدق في صفحات خديها.
- لكني أرى أثر كدمات حديثة على وجهك!
- هو من فعل ذلك.
- لكنه رحل منذ شهرين
- جسد المرأة ليس كأجساد الرجال.. إذا ضربت لا يزول أثر الضرب من جسدها بسرعة.
حور طريقة كلامه لعله يجد مدخلاً آخر.
- ألا تغفر المرأة للرجل إذا ضربها؟
- تغفر له.. ربما ولكن لا تنسي.
- وأنت لم تنسى لزوجك ما فعله بك؟
- أنا لا أنسى ولا أغفر.. ولا أقتل.
مسحت أرنبة أنفها بسبابتها مرتين وسألته بخجل، هل تضرب زوجتك؟
نظر إليها بوجه مستريح.. من في هذا الزمان لا يضرب زوجته.
- وهل تجالسها بعد أن تضربها؟
- لا أطيق النظر إليها ووجهها ملىء بالكدمات.. تهز رأسها باستغراب.
- .. وهل ترغب في تقبيلها بعد ذلك؟
- إذا دعت الضرورة.
- الضرورة أم الغريزة؟
- الغريزة ضرورة.
أخرج سيجارة إلى منتصف العلبة وقدمها إليها، فمدت يدها ممتنعة.
يضع السيجارة في فمه دون أن يشعلها ويسألها:
- هل سمعت عن نساء قتلن وسرقن وترأسن عصابات؟
- نعم سمعت ولكني لست منهن.
- وهل سمعت عن نساء قتلن رجالاً أبغضنهم؟
- بل سمعت عن نساء قتلن رجالاً لم يحببن مثلهم.
أنا لا أفهم كثيراً مما تقولين.
- هذا أفضل لي.
.. أخذ يدور حولها وهو شابك يديه خلف ظهره.
- لماذا تركت عملك؟
- أجبرني على تركه.
- لماذا؟
- لكي أخدمه وأكون له وحده.
- هل كان زوجك شيخاً متزمتاً؟
- .. بل كان سكيراً ومدمن مخدرات.
يقلب الورق الذي أمامه في حيرة، ويرفع يديه مندهشاً.. مع ان القرائن توحي إليّ أنك قاتلته لكني لا أملك إلا أن أخلي سبيلك فليس لدي دليل قاطع ضدك.
وقفت في مكانها بجسد مشدود والتفتت إليه بوجه خلا من كل تعبير..
- هل تتمنى رؤيتي مرة أخرى؟.. فاجأته.. فلم يرد لها جواباً.. لأنه لم يكن يتمنى رؤيتها بادلها التساؤل.. هل ستتزوجين بعد ذلك؟
ردت بسرعة.. وهل يصبر الرجال عن النساء؟
- لا أظن.
- من أجل ذلك نتزوجهم.
يقهقه.. ومن يقبل بامرأة متهمة بقتل زوجها؟
- الكثير.. أولهم حاجبك عبدالتواب.
- عبدالتواب!.. كيف أوقعته في شباكك؟.. قالها باستياء.
ردت بحزم.. أنا أرملة ولست حشرة سوداء.. أخرج منديلاً يمسح أنفه ويستدرك سقطته.. تسترسل:
.. في أول الأمر كان يشفق علي.. الآن أنا أشفق عليه.
يضغط على جرس الحاجب دون أن يرفع يده عنه.
- يدخل عبدالتواب متهيأ لأمر استعد له جيداً.
- يسأله وهو يشير إليها باصبعه كمتهمة في جريمة قتل.. هل ستتزوج هذه المرأة يا عبدالتواب؟
- إذا أذنت لي يا سيدي.
- وهل تعلم أن لها زوجاً قتيلاً؟
- أجل أنا أول من علم بذلك.
- وأنها متهمة بقتله؟
- المتهم برىء حتى تثبت إدانته..
- ألا تخشى على نفسك منها يا عبدالتواب؟!
- الرجال لا تهاب النساء يا سيدي.
- متي ستتزوجان؟.. قال بيأس.
- اذا انقضت العدة.. بعد شهرين وعشرة أيام.. انصرفت وانصرف الجميع خلفها بعد ثلاثة شهور جلست أمامه على الكرسي الخشبي الذي يطوق نصف جسدها، برأسها الحاسر، ولباسها المحتشم، وشعرها القصير لا يبدو في عينيها الخوف.. أخذ نفساً من سيجارته ونفثه بعيداً عن وجهها.. أمسك قلماً وأخذ ينقر به ورقة بيضاء..
- من قتل زوجك عبدالتواب؟
- .. لست أنا.
- لقد وجدناه مقتولاً في بيتك.. قالها بعصبية.. صمتت بتماسك.. دار حولها.
كيف كان يعاملك؟
- سجاناً.. لا يجيد مهنة أخرى.
- وكيف كنت تعاملينه.
- سعيت إلى راحته.
أخذ يحك رأسه.. وهو ينظر إليها بيأس.. غريبة لم أجد أي دليل ضدك.. أرى أنك بريئة.. بإمكانك المغادرة.. أخذ يعب كوب الشاي الأسود البارد.. عدلت من ثيابها وخرجت بهدوء.. استوقفها عند باب المكتب سار إليها عدة خطوات.. وضع وجهه قرب وجهها.. أراح عضلات وجهه وبدا عليه التردد والتلعثم.. وقال بتلكؤ.. لقد بدأت أشفق عليك.. وأتمنى مراراً أن أراك.
استدارت بكامل جسدها تجاه المكتب وأخذت تتمعن في الصورة المعلقة على الحائط وقد طفت ابتسامة غريبة على وجهها.. ذلك الوجه المتعب الذي تخفي وراءه وجوهاً كثيرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى