عبدالله البقالي - الطفولة و الورق الأخضر

أقر في البداية أني كنت - تلك اللحظة- عصي الفهم الى حد البلادة , و الا كيف ظللت أسير افكاري المسبقة التي كانت أكبر مما كان يجري أمامي؟ و لماذا لم ألحظ تلك السيول التي عمقت مجاريها على ذلك الوجه الصغير ؟ و أي صملاخ سميك ذاك الذي أغلق مسامعي و حال بينها و بين أنين تلك الصغيرة ؟
قلت بغباوة من يعتقد ان لا شئ يخفى عنه: توقفي حيث أنت . أخبريني الآن . بأي شئ ستبررين تخلفك هذه المرة ؟
وقفت عند خط دفاعها الأخير و وجهها منكب على الأرض حتى لا تراه ينهار ولاذت بالصمت. زاد ذلك من غضبي و قلت محاصرا اياها في زاوية ضيقة : لن نقوم بأي عمل ما لم نعرف سبب تأخرك الدائم.
تأكدت أنها ستفقد ما تبقى من كبريائها . أجهشت بالبكاء و قالت : كنت أرعى الغنم.
ضج القسم بضحك التلاميذ ، فزاد ذلك من اعتقادي من ان المسألة ليست أكثر من ادعاء كاذب ، تهدف من خلاله الى تجنب حرج الموقف. لكن انهيارها بذلك الشكل هزني بعنف. صعقت. اذ لا يمكن أن تكون تلك الصغيرة راعية غنم. وجهها الملائكي. شعرها الأشقر . يشرتها البيضاء التي لا علاقة لها بلفح الشمس. صورة للبراءة في أرقى حالاتها. شئ واحد كان كفوضى داخل ذلك النظام. ملابسها العتيقة التي لا تتغير . و أهم من ذلك تخلفها المستمر عن أوقات الدراسة.
متاخرا حاولت أن ادفعها للتماسك. اقتربت منها وقلت: أنا لم أقتنع من أنك ترعين الغنم
هزت رأسها بايماءة مؤكدة أن ما قالته هو الصواب. سألتها : ماذا يشتغل أبوك ؟
أجابت بصوت خافت : أستاذ .
أثار الجواب ذهولي و اعتقدت ان في الأمر خطا وقلت : أقلت أستاذ ؟ هل تقصدين أنه يشتغل بالتدريس؟
حركت رأسها من جديد . انذهلت وقلت منفجرا في وجهها : أستاذ و يبعث بك الى المرعى ؟ وفي أوقات الدراسة ؟
انفجرت باكية و هي تقول : هو غير موجود.
بانفعال متزايد قلت : و أين هو ؟
ـ سافر الى دولة في الخليج.
أحسست أني تورطت وقلت : ومع من تعيشين ؟
ـ مع احدى الاسر.
ـ وهل تعرف هذه الأسرة أنه يتوجب عليك الحضور الى المدرسة في الساعة الثامنة ؟
ـ بكل تأكيد
جف حلقي , انتابتني رغبة هائلة في أن أحضر و أحاكم بقسوة كل من له علاقة بهذه الفتاة البئيسة. من أي مواد صلبة شكلت أحشاء هؤلاء ؟ و أي صور ستنطبع في ذاكرة هذه البئيسة التي شيئ لها أن تنظر الى العالم بعيون اليتم المفتعل؟
طلبت من الصغيرة أن تحضر لي عنوان أبيها وتوهمت عبثا أني أنهيت الموضوع . لكن محيط تلك الشيقة كان قد اتسع لأصبح مجرد مجرة تسبح في فلكها . و رايت في غفلة منها عبر منظارها المشكل من أحاسيس اليتم المصطنع ، الفرق المروع بين من تجعله الحياة مصبا تتنافس الروافد و الاودية على تغذيته بكل ما يصنع روعته، وبين أكمة منسية افقدها التآكل الذاكرة التي كانت صورها تضخ بعض الدفء اللازم للحياة.
ما أحسست ان لها بيتا تهرول اليه حين يلجأ الآخرون الى بيوتهم , و لا لمست لديها حماسا لعيد أو مناسبة . شئ واحد كان يشدها و تجد ايما لذة في الحديث عنه. كانت تركز نظراتها على تواريخ الأيام. و حين كنت اضبط شرودها كانت تجيب محتمية بدفء الأيام القادمة
ـ لم تعد الا شهور قليلة وتعود اسرتي .
كنت أفكر في زجرها، لأن ذلك يفقدها أشياء مهمة. لكن ماذا يعني أن تفقد هذا و قد فقدت قبله حنان الام و طعم الأبوة ؟ و ماذا سيعنيه توبيخي لها امام ضياع يجتاح كل يوم مساحة جديدة من روحها ؟
اقتربت منها و قلت : منذ متى رأيت أسرتك آخر مرة ؟
استوت في مقعدها . عدلت من جلستها . عبرت سحنتها أطياف ذكريات بعيدة , أفرجت عن ابتسامة سرعان ما اغتالتها و قالت : في ذلك المساء حضر كل افراد العائلة . البعض منهم رأيته لأول مرة . جميعهم حضروا لتوديعنا . كنت فرحة أسابق الاوقات لرؤية ذلك العالم الجديد الى حد أني لم استطع ان أاكل شيئا حين قدم العشاء . لكني حين استيقظت في الصباح لم أجدهم . قيل لي انهم سيعودون في الغد . ثم قيل بعد اسبوع . ثم بعد شهر، و الآن مرت أربع سنوات. ها عنوان ابي قل له حين تكتب ...
لم تتمالك نفسها , و كشظايا انفجار توالت كلماتها . وخلف كل شظية كان يمتد عالم موبوء لا حياة فيه غير صفير الريح و شدو البوم في ليل طويل طويل تراحعت فيه الحياة لتختصر في حلم بعيد يعيد..
تساءلت و انا اتفحص العنوان . هل الامر في حاجة الى كلمات ؟ و هل تستطيع الكلمات ان تكون أقوى مما رأيت و أقوى من تلك اللحظة التي ولى الاب فيها هاربا و هي تتعلق باذياله و تبكي ؟
لم اكتب شيئا , لكني صرت مثل تلك الصغيرة , كلانا يعيش على اتنظار، مع فارق ان انتظارها سينتهي مع دق الأسرة للباب، في حين سأظل انا أسير رهان مجنون يتمثل في تمن أن ينطلق داخل كل انسان اعصار داخلي عنيف، يجتث الخلايا المسؤولة عن موت الاحساس و المشاعر داخل الانسان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى