إبراهيم حسن ناصر - شواطئ الدم شواطئ الملح.. مقطع من رواية

- (دمع فضي أو خمر فضي لا أدري - ما الفرق - كل شيء يوحي بأشياء اخرى . حرب حمراء ,او سوداء لا فرق , فالأولى تولد الثانية .اناس او كائنات بلا قرار هو غايتنا ... عندما تدفعنا اهواؤنا نحو قتل الفضيلة في مهدها.. تكون الحرب منارنا العالي في مملكة الانسان .نحن ضد الكائنات الاخرى ,بل ضد انفسنا .من مات ؟من عاش؟-فكر معي – تأمل . من عظم شأنه ؟انظر ؟ انه الذي يملا الارض انيناً انه جلادها. أحبائي لا شيء ينقذنا سوى الموت ؟والموت منا قريب بل ابعدا من اللانهاية ,وجله ساعاتنا بل ثقيلة متماسكة اهواؤنا ,بل متلاشية. أي شيء يأتينا من الغيب و أي فرح لا ينتهي الا بمأتم, واي مأتم يدوم , هي هكذا لعبة الصغار –الكبار –هي هكذا لحظة الحرج ..ومضى الجمال .
ذاب قلبي في تراب المواضع ,عاقتني رائحه المنسيين الشرفاء من رجال هذا الزمن.. وجوه محدقة في موتى .. بل موتى محدقون في موتى.. أدركت سر وجودنا وفنائنا ..في امتداد المدى خندق يقي النار.. بل يولد النار , لا فرق. حيث النار هو مأمن منها .لتحيى وتبقى عليك ان تحترق ,عليك ان تكون نيازك أصحابك . هذه فلسفة البقاء لقرن التكامل والذروة. عندما تكون المصالح فوق الشرف تسقط القيم و يرتفع النفاق فوق الجبين ..
امتداد المواضع حتى الافق.. تراب أزلي ..انه اصل كل شيء ,ونهاية كل شيء, قبب من تراب تخفي تحتها أرواح وحدد وبارود .خندق مثل نهر الخرائط ملتوٍ حسب ساحة الحرب. ووجوه تسبح فيه أو ضايقها ..هنا تبدأ لحظة الحسم والصدق والمصير.
البحيرة الاصطناعية التي أمامي تئن باضطرابها أرهقتها المدافع والصواريخ التي تنفجر فيها ,انها الفاصلة بين نارين يتراوح عرضها كيلو متر. اقل أو اكثر في بعض المناطق وعمقها لا يتجاوز المتر.. ارى على ضوء الشمي من خلال ملجئي قفزات الاسماك الفزعة أو حركة زعانفها وهي تعيش في الماء وتولد الموج الخفيف.
بامتداد الخندق الموازي للبحيرة تنغرس ملاجئ الجنود, يتوزع الخندق صف الرشاشات والبنادق والقاذفات للفصيل الحادي عشر من السرية الرابعة –الفوج الثالث-لواء(101) باتجاه العدو.
وقفت في ملجأ الرشاشة الخفيفة ,افحصها وبرفقتي الجندي عددها بنظرات تأمل أو رفب في اكتشاف شيء مني ..انه يريد ان يعرف المزيد عن آمره الجديد. عن الضابط الذي امتدحه آمر السرية ..لهم أمس قائلا:
انه الملازم مراد-مجند-كان قبل أن ياتي الى هنا في معسكر تدريب ((فايدة))..سيتولى مهامه من اليوم ,فسهلوا مهمته..
انغرست نظرات الجندي في ملامح وجهي ,يريد ان يقرأها .كاد ان يسألني لولا مغادرتي موضع الرشاشة. مشيت في الخندق أريد ان اعرف مواضع الفصيل كلها ..يتبعني عريف الفصيل.
دخلت موضع قاذفة اربعين مليم, فجأة سمعت أحد الجنود يغني غناءً يوحي بالشوق ..قطع غناءه و أستعد معتذراَ.. ابتسمت.. وقلت : اذا طابت النفوس غنت..
وقلتُ في نفسي انه مطمئن وهذا يعني انه على قدرٍ كبير من المعنويات ,لم البث كثيراٍ بل لحظة وتركتٌ مواضع القاذفة الى المواضع الاخرى ,استطعت ان أدخل مواضعهم جميعها لكني لم اتمكن من معرفة أسمائهم بسرعة ولم استطع أن اكمل ترتيب مواضعي الدفاعية. لكني سأعرفها لا محالة في الايام القادمة.
ان ما يشغلني هو جبهة العدو. إنني كجديد اريد ان اعرف عنه الكثير .ما قاله لي آمر السرية لا يشفي غليل ثم اني أتردد أن أسأل الجنود, لكني بقرارة نفسي مرتاح ومطمئن لأني سأعرف كل شيء.
جلستُ في ملجأ الراحة المخصص لي..غرفة صغيرة, بل زنزانة عرضها متران وطولها ثلاثة امتار, طن من التراب فوقها تنغرس في الارض حتى منتصفها ..الرطوبة الكثيفة تكسو أرضها بفعل البحيرة و أرض البصره السبخة. تغزوني أسراب من البعوض المتوحش والذباب الاهوج الذي لا يقطع الانين. كل شيء هنا مفزع. جلست على سريري و أمامي طبلة خشبية صنعها الجنود لي من صناديق عتاد الهاون. اسمع اصوات انفجار القذائف المعادية. لقد أستقبلني الاعداء ,كعادتهم قصف مدفعي كثيف على قطعاتنا. وقت الغروب والفجر..يقابل ذلك قصف مقابل من قطعاتنا , وهكذا ان توقف السلاح الخفيف يبقى السلاح الثقيل سيد الموقف و لا ينقطع اطلاقا..
اضطجعت على سرير ,متعب ..غريب على المكان. الحرب غاية أم وسيلة؟ ان الحرب غاية للجنون ووسيله للموت ,لا شيء غير هذا ...ان يدفعك عدوك الا ان تحاربه ,ان يجبرك على ان تسفك دمه فهذا هو الجنون بعينه. آن الحرب لعبة النار التي لم تنطفئ أبدا بل تطورت وسائل اتقادها واستحال اخمادها,
شرق البصرة أو غرب ايران لافرق,عذا هو موقعي من خارطة العالم المحترقة ,شمال النخيل الوارف الظل الذي أرقته الحرب وهجرته الطيور..في طريقي الى الجبهة عندما عبرنا الجسر مررتُ بغابة نخيل كثيفة..قال لي زميلي الضابط الذي جاء معي:
- أتعرف اسم هذه الغابة ؟
- لا... ثم اني من الشمال !
- ألم تحلم بزيارتها يوماً... الم تقرأ عنها ؟
- أهي جزيرة السندباد ؟
- هي كذلك
ساعتها تمنيت ان لا اكون قد رأيتها في هذه اللحظة, لقد أصبحت مجرد هياكل لنخل هرم وبساط يابس من اعشاب الحلفاء. أن هذه الجزيرة الفاتنة التي كانت مرتعاً لسفرات طلبة الجامعة.. تصبح هكذا. لم ار فيها سوى أمراه تلبس السواد تجمع الحطب. لقد هجرها الناس, لأن القصف المدفعي لا يرحمها ..نظرت باتجاه السقف ..جسور خشبية يتخللها آخر حديدي أكله الصدأ ,قرأت على الجسر الحديقي بخط بسيط: ذكرى المقاتل حمزة حسين –بغداد-الراشدية
قلت في نفسي أين هو الان ..أهو ميت أم حي؟ ..أتوجد للانسان قدرة لمعرفة مكان الاشخاص الذي يقرأ أسمائهم في الصحف و على الجدران أو في الاعلانات أو على شاهدات القبور ؟ .. لماذا يهرب الاسم من حامله ؟.)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى