سفيان صلاح هلال - القبض على لحظات الاشتعال قراءة: في مجموعة الصياد للقاص عبد الرحيم عبد الهادي المأذون الشرعي

يقول أهل اللغة: إن المعاني مهما حاولت إخفاءها فإن اللغة تفضح صاحبها، ولهم في مدح المتنبي للإخشيدي المثل، فهم يرون أنه رغم دخوله عليه مادحا إلا أن اللغة فضحت نواياه ..فقد جاءت كل مدائحه كأنها رغما عنه تارة (وتعذلُني فيكَ القوافي وهِمَّتي/ كأني بمدحٍ قبل مدحِكَ مُذنِبُ) وكأنها الذم في شكل المدح تارة أخرى (وما طرَبي لمَّا رأيتُكَ بِدعةً/ لقد كُنتُ أرجو أنْ أراكَ فأطربُ). لو أضفنا أنه يجب أن نضع أذهاننا في وضع الاستعداد للمفاجآت ونحن نقرأ نصا حديثا؛ نظرا لمساحات الحرية التي أعطتها للكتاب كافة التيارات الحديثة بتنظيراتها التي قاربت بين الأجناس والأنواع في كل الفنون فإني أستطيع أن أدعي أن "عبد الرحيم عبد الهادي" رغم حرصه الشديد على إقناع المتلقي أنه يكتب قصة قصيرة مبنية على ما يصيده من لحظات تصلح أن تنموا منها الأحداث ولا تتعداها وإن توسعت حولها، فإن نزوعه إلى كتابة الرواية في هذه المجموعة لا يخفى على المتلقي، فالمجموعة ترصد فيها كل قصة لحظة يمكن أن تكتفي بذاتها ففي قصة "صورة حديثة" يرصد الكاتب لحظة حصوله على كاميرا يتمناها، ويصف مواصفات تلك الكاميرا ومميزاتها وأهميتها بالنسبة له، وهي بوجه عام تعبر عن رغبة جامحة للمبدع تنطلق إلى محاولة رصد صور الواقع بدقة وعن قرب؛ ليستطيع الوصول لوجهة نظر منطقية مبنية على حقائق من التفاصيل، ومن مفارقات هذه اللحظة أنها أول ما رصدت رصدت صورة لواقع أسرته نفسها(يقف الأولاد في سكون تام, أشير لزوجتي أن تقف معهم, تسير ناحيتهم , تلوح بيدها ( هتصور بملابس البيت ), أضبط الكاميرا , وأتحرك بسرعة لأقف معهم , أقف بجوار زوجتي التي تحاول أن تسوي شعرها, أميل ناحيتها وأهمس في أذنها ( ألم تلاحظي أنك أصبحت سمينة جدا ؟), تنظر لي فأعاجلها ( أنا متأكد إن نصفك سيكون خارج الكادر ).
وفي قصة "اغتيال" مثلا يحكي القاص عن لحظة آلمه، حيث أجبر على التخلص من حمار كان جزءاً من حياتهم، لكنه حاد عن مهامه الوظيفية وتوحش، حتى صار لا يتورع عن عض أي ضحية، وإن تكن طفلة تهيأ له أنها أعاقت طريقه؛ مما أجبر الأب على اتخاذ القرار قبل تدخل الآخرين الذين تضرروا؛ مما قد يحدث انقلابا في العلاقات العامة، الراوي حتى اللحظات الأخيرة يظل متعاطفا مع الحمار لكن الحمار يقرر فجأة الهجوم عليه مما يجبره على الانضمام لمن يريدون التخلص منه، ورغم رمزية القصة وطرافة الحدث، فهي قصة تصلح أن تقوم بذاتها كقصة قصيرة،وهكذا كل قصص المجموعة. ورغم هذا فبين قصص المجموعة من الروابط الظاهرة والخفية ما يجعلني أدعي بتطلع الكاتب إلى كتابة الرواية ويمكن تسجيل هذا في نقاط
1) السرد بضمير الأنا، كل قصصص المجمعة تحكي بضمير الأنا بل أن الكاتب يحاول أن يوهمنا أنه يكتب سيرة ذاتية فيسرد اسمه الواقعي وبعض تفاصيل من حياته، ربما رغبة منه في تذويب الفواصل بين ما هو خيال وما هو واقع مثل قوله ( أخرج من الدرج شيئا ملفوفا بعناية ومربوطا بالدوبارة, فكها وأزاح الأقمشة القديمة, ليظهر لوح من الرخام الأسواني الأحمر الجميل, وضعها أمامي بسرعة, يأمرني بالقراءة , أقرأ بصوت مرتفع ( بسم الله الرحمن الرحيم : كل من عليها فان ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام... أتوقف عن القراءة لأرى بقية المكتوب, أتركها من يدي ولا أستطيع النظر إليه, يكمل بصوت مرتفع, وهو يحاول تقليد من يعلنون في الميكرفون عن حالة وفاة جديدة, توفى إلى رحمة الله تعالي "عبد الرحيم عبد الهادي" المأذون الشرعي بناحية البيلوق, في يوم ...... وأشار بيده ناحية المكان الخالي للتاريخ, وأكمل وهو يضع يده على يدي, نسألكم الفاتحة والدعاء, بعد وفاتي أنت مسؤول أمامي عن كتابة التاريخ ورعاية الشجرة.)
2)الحضور الدائم للأب، يحضر الأب في معظم قصص المجموعة، والحق أن الكاتب يرسم صورة عميقة لحضور الأب، فهو المهموم بالكل وبأدق التفاصيل المتحمل للمسؤولية (يلوذ بالأشجار التي زرعها أخي على رأس الأرض, يجلس بجوار إحداها, يعطي ظهره لأشجار العنب, فأعرف أنه يريد الصمت التام, كأنني أكتشفه من جديد, عم أسأله الآن؟ عن سفره وما حدث فيه, هل أخبره ابن عمي بالمكان؟ أم أسأله عن عناقيد العنب التي بدأت في التهدل؟ أوراق العنب التي لم تقطع إلى الآن , لتعطي للشمس فرصة تلوين العناقيد باللون الأصفر الكهرماني, لن يتزاحم علينا التجار مثل كل عام, هل أنسى كل هذا وأخبره بما شاهدته هنا بعد الفجر؟ , أم أن ما رأيته , كان من كثرة السهر؟)
وهو المتقدم كالقائد الذي يواري أبناءه من المخاطر ويظهر لملاقاتها، وهوالقاضي عند ضياع العدالة يطلبها بكل سبب، وهو المهتم حتى بالموت وشؤون الموتى(تركتهن وأمي يجلسن مع أعمامي لتقسيم الدار, لم أجد غير الشجرة وأبي لأسأله لمن سيزرع الشجرة في المقابر؟ لم يرد, وخلع جلبابه ووضعه حول رقبتي, بدأ في الحفر)، على عكس ذلك تماما وعلى غير المعتاد يقدم الأنثي بصورة سلبية دائما لا تهتم إلا بقضاء حاجتها التي لا يصلح إلا أن يقضيها الرجل سواء كانت زوجة أو أم أو أخت ! فهي الضاغظة دائما بطلباتها المادية، والمعنوية وخروجها عن الكادر في صورة العائلة موقف غريب من الكاتب قد يكون له مبرراته الشخصية أو الفكرية!
3) المكان، كل القصص تدور في محيط القاص ما بين قريته وبيته وغيط العنب الذي يحضر في أكثر من قصة بنفس التفاصيل والأب الذي لا يتغير ودائرة مشكلات تبدو لأسرة واحدة ومجتمع واحد.
4) وحدة الرموز والهموم والتفاصيل الفنية، يبدأ الكاتب أولى قصص المجموعة كما أسلفنا عن لحظة شراء كاميرا، ورغم انتهاء القصة الأولى تظل الكاميرا والصور كما يظل الالتقاط والصيد والتصوير من سمات معظم القصص. كما أن القصة المعنونة "صفحة 17" هي عبارة عن محاولة من الكاتب لترتيب سبع عشرة صورة وكتابة تعليق تحت كل منها، وأظن أن البناء الفني لهذه القصة هو نفس البناء الفني للمجموعة وترتيب قصصها رغم تباعد وتلاقي موضوعاتها,
والسؤال الذي يلح عليّ هنا: هل يمكن أن نقرأ عملا سرديا على الوجهين، خاصة إذا كان عملا من مبدع على قدر كبير من الوعي ويمتلك ناصية الإبداع بشقيها الجمالي والموضوعي؟

https://www.facebook.com/photo.php?...Lro_sQwtI_u1p4bFqACJEpQGMGSC_AKExjx_wFAPy9Ymm

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى