عادل الأسطة - أنا والجامعة 15 : عودة إلى الأعوام 1982- 1987 :

في قراءته لنصي القصصي " ليل الضفة الطويل " 1993 ذهب الدكتور أفنان القاسم إلى أن النص تغلب عليه روح " تصفية الحسابات " بين ضمير المخاطب فيه ، وهو أنا ، وبين الآخرين ، واقترح علي أن أجري بعض تعديلات عليه قبل نشره رسميا .
وقد كتب النص بعد عودتي من ألمانيا بعامين تقريبا كنت خلالهما في اشتباك مع المؤسسة والفصائل والمجتمع ، كما لو أنني ذلك المثقف النقدي الذي تحدث عنه ادوارد سعيد في كتابه " صور المثقف " ، وأنا لا أعد نفسي عموما مثقفا نقديا ، إذ لو كنت كذلك لألم بي ما ألم بناجي العلي ، وقد يكون لهذا كتابة أخرى .
في السنوات الخمسة التي درستها في الجامعة لم أكن الأستاذ الوحيد الإشكالي ، وربما لم أكن أصلا أستاذا إشكاليا بشكل لافت .
في تلك السنوات فصل الدكتور سليمان بشير من الجامعة بسبب كتاب ألفه وذهب فيه - إن لم تخني الذاكرة - إلى أن الأربعين سنة الأولى من الإسلام كانت مختلقة ، وقد عرفت من أحد زملائي في قسم التاريخ ، وكان زميلا للدكتور سليمان ، أن ما أتى به الدكتور بشير ليس اكتشافا ، وهو رأي قاله مستشرقون من قبل .
أعطت الجامعة الدكتور حقوقه ، وذهب هو للعمل في الجامعة العبرية ، ما أفقده تعاطف المتعاطفين معه ، إذ لا يعقل أن يفصل أستاذ جامعي بسبب تأليف كتاب ، فنحن في ثمانينات القرن العشرين ، لا في عشرينات القرن العشرين ، حيث فصل طه حسين من الجامعة المصرية بسبب كتابه " في الشعر الجاهلي " ولم يعد إلى الجامعة إلا بعد أن حذف من كتابه فصلا وأضاف إليه فصلا آخر وغير عنوانه ليصبح " في الأدب الجاهلي " .
مرت حكاية فصل الدكتور سليمان بشير بهدوء ومثلها مرت أيضا حكاية فصل الأستاذ غازي فلاح الذي استخدم في محاضراته مصطلح " يهودا والسامرة " لا الضفة الغربية ، كما لو أنه يتبنى الرواية الإسرائيلية وينحاز إليها .
لم يكن حدثا الفصل الحدثين الكبيرين اللذين شهدتهما الجامعة في حينه وحسب ، فهناك قضية لافتة وكبيرة أثارها الدكتور عبد الستار قاسم تتعلق بسرقات علمية قام بها بعض أعضاء هيئة التدريس ، بخاصة في كلية التربية .
لقد نظر د.عبد الستار قاسم في بعض الكراسات التي قررها بعض الأساتذة على أنها من تأليفهم ورأى أنها مسروقة من أبحاث وكتب أساتذة من الجامعة الأردنية ، ولما استوضحت منه الأمر أتاني بالدليل وعرض على ناظري الكراسات والأصول وكان محقا في ذلك ، ولكن هل اتخذت إدارة الجامعة أي قرار بخصوص المتهمين ؟ هل فصلتهم من وظيفتهم أو عاقبتهم ؟
في سنوات لاحقة أدين بعض زملائي بسرقة علمية واكتفت إدارة الجامعة بمنعهم من تدريس الماجستير وإيقاف ترقياتهم ، ولكن الذين اكتشف د.عبد الستار قاسم سرقاتهم واصلوا التدريس ، ولا أعرف حقا إن اتخذت بحقهم قرارات حازمة .
هل كنت في تلك السنوات متصالحا مع الجامعة تصالحا تاما ؟
حين أنظر في مقالاتي وقصصي القصيرة التي كتبتها ألاحظ أن ثمة بذرة نقدية كانت منزرعة فيها .
وأنا أحرر الصفحة الثقافية في جريدة " الشعب " المقدسية كتبت مرة مقالا عن شاعر متقلب وسخرت في المقال من الشاعر . لم أذكر اسم شاعر بعينه أطلاقا ، ولكن المقال أثار ضجة بين قرائه وفوجئت مساء ، وكنت مصابا بالانفلوانزا ، أن المرحوم الشاعر عبد اللطيف عقل يزورني في البيت ، ويهددني بأنه سيرفع قضية ضدي بحجة أنه المقصود في المقال ، وكان ردي أن ذلك من حقك ، ولكن اسمك غير مذكور في المقال ، وهناك عشرات الشعراء في فلسطين .
وأنا أدرس في الجامعة كنت أشبه بحصان طروادة ، وصرت أكرر المثل الشعبي " اللي بدري بدري واللي ما بدري بقول كف عدس " .
وأنت خارج الجامعة تكون الهالة المحاط بها أساتذتها كبيرة ، وحين تحتك بهم وتلحظ ثقافتهم وتصغي إلى أحاديثهم ربما تكرر " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " ، ذلك أن كثيرين من أعضاء هيئة التدريس حصلوا على شهاداتهم ولم يطوروا أنفسهم .
في تلك الأيام قرأت مجموعة قصصية لقاص وروائي لبناني اسمه حسن داوود ، وعنوان المجموعة هو " تحت شرفة أنجي " وفي المجموعة قصة عنوانها " مقهى النسوة الأكاديميات " وفيها يصور من خلال أسلوب سردي يعتمد على الوصف ، كما لو أنه كاميرا تصور وترصد وتسجل ، يصور حياة شريحة من شرائح المجتمع . هذه القصة أوحت لي بكتابة قصة قصيرة عنوانها " الديكة الأكاديميون " وفيها تصوير لشريحة من مدرسي الجامعات .
إن كثيرا من أعضاء هيئة التدريس حصلوا على شهاداتهم واكتفوا كما لو أنهم ختموا المصحف وفيه العلوم كلها ، وصارت حياتهم قائمة على المجاملات والزيارات والثرثرة ، وهؤلاء كانوا مادة القصة التي فيها حس نقدي لافت .
على أن ما سبق ليس هو كل شيء .
في الجامعة كان هناك بين أعضاء هيئة التدريس جدل حول أيهما أفضل : الكتاب المقرر أم عدمه ؟
إن كثيرين ممن قرروا كتابا ظلوا يدرسونه لسنوات طويلات دون أن يستبدلوه بآخر وناموا . حقا إن هناك مساقات تتطلب ذلك ، ولكن هناك مساقات أخرى يفترض في من يدرسها أن ينوع في الموضوع المختار ، وهذه حكاية قد أعود إليها .
هل كانت حكاية تدريس الكتاب نفسه لسنوات تمر دون غمز ولمز ؟
في مساق اللغة العربية كنا ندرس قصيدة حسان بن ثابت :
" عفت ذات الأصابع فالجواء
إلى عذراء منزلها خلاء "
ومنها البيت :
" عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع منزلها كداء "
وظل الأساتذة يدرسونها ، وأما أنا فقد قررت اعتماد كتاب وداد القاضي " مختارات من النثر العربي " وكان معتمدا في الجامعة الاميركية في بيروت ، واعتمده زميلي الدكتور خليل الشيخ في الجامعة الأردنية ، ورأيت في الكتاب الذي يمنحني حرية تغيير النصوص كتابا جيدا ، بل وممتازا .
كان أحد زملائي يسخر من أعضاء هيئة التدريس في القسم ممن تحنطوا ، فيحور بيت حسان :
" عدمنا خيلنا .."
باستبدال كلمة قسمنا بكلمة خيلنا ، وكان يقول لي :
سأظل أدرس " عدمنا ... الخ " .
كنت أشرت في الحلقة السابقة إلى أنني سأتحدث بحذر عن موضوع شخصي ، وما بدأت به هذه الحلقة اتكاء على رأي الدكتور أفنان القاسم يمس هذا ، ولعلني سأكتب في حلقة الجمعة القادمة شيئا عن هذا ، ولكن ما أريد أن أقوله هنا هو أن كتابتي التي يراها قسم أنها حادة وأنها تصفية حسابات كانت بذرتها مرمية في كتاباتي قبل 1987 وكان هناك أساتذة آخرون سبقوني في الخروج عن المألوف وفي انتقاد المؤسسة .

10 / 1 / 2020



44

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى