عذري مازغ - أشجار الأطلس ليست كأشجار "لاندوشين"

"عرفة": أشجار الأطلس ليست كأشجار "لاندوشين"​

ليس هناك شخصية عبثية بامتياز كشخصية "عرفة"، يستمد اسمه من ولادته المصادفة لشعائر الحج بجبل عرافات، أمضى كل طفولته وجزء من شبابه في الرعي والغناء، عازف على الناي القصبي ملهمه زمن الرعي، وملهم أيضا برقصات أحيدوس التي كان يقيمها شباب زمنه في كل ليلة عندما ينتهون من الرعي والأعمال البدوية الأخرى (الحرث زمن الحرث، والحصاد زمن الحصاد، والحطب وغيرها من الأعمال التي كانت سائدة في البادية.

عندما بدأت الحرب العالمية الثانية وفي أثنائها جيشته فرنسا في فيلق مرتزقيها الذي تسميه "لاريجيون" ومن فرنسا في حربها ضد ألمانيا وظفته أيضا في حملتها ضد الفييتنام مع الولايات المتحدة، هو حتى الآن لايعرف شيئا عن الفييتنام، كل ما يعرفه هو أنه كان في حرب "لاندوشين" (الكلمة مقتبسة من الكلمة المركبة الهند الصينية وهي الكلمة المتداولة في المغرب)، والغريب أنه أيضا عمل مع الجيش النازي ضد فرنسا بصدفة عجيبة، كانت الحرب عنده فاكهته المفضلة ولا يهمه أمر مع أي موقع هو أو لأنه بحس هوياتي لم تكن الحرب عنده سوى البطولة والإقدام فيها بشكل مجرد عما يمثله فهو مغربي أمي امازيغي لا علاقة له لا بفرنسا ولا بألمانيا ولا حتى فيما بعد ب"لاندوشين".

كان شخصا مرحا إلى حد كبير وربما بسبب هذه التراكمات العجيبة في حياته، كان مولعا بالحكايات الغريبة المستوحاة كما الجنود الآخرون بغرائب "لاندوشين"، ومراة كثيرة كان يحكيها بشكل غرائبي أسطوري ويقسم على حقيقتها بأثقل الأيمان:

"في "لاندوشين" حتى الأشجار تذبح البشر، ذات يوم أمضينا ليلا في غابة، وفي الصباح وجدت كل أصدقائي قد ذبحوا إلا أنا، لقد أفلتت من المذبحة ربما بصدق نيتي..!"

كان سردا جميلا للحكايات الشفهية وحاملا لكل تلك الخرافات المدهشة حول فييتنام، كان أيضا سجينا عند الجيش النازي الألماني بسبب جرآته غير المعهودة او شجاعته ربما، وهذا ما فهمناه نحن الذين نتلقى حكاياته، لا ندري هل يتقن الألمانية ام لا، لكن على العموم يفاخرنا كثيرا بكونه يعد بها ويتكلم بها، وكان قد برهن على ذلك ذات يوم حين التقى بالصدفة مع جندي الماني كان سائحا ببحيرة أكلمام أزكزة بالأطلس المتوسط، لقد تكلما كثيرا وتعانقا أيضا وفي الأخير مده السائح الألماني بعدة عناوين اوربية وفرنسية بالخصوص، قال له بأن مكانه ليس هنا في المغرب بل في أوربا، في أرض الشجعان، عليه أن يستفيذ بحقوق له كجندي شارك في الحرب العالمية الثانية.

وعندما يحكي عن فرنسا لا يحمل أي بغض لها، لا يحمل أيضا أي بغض لألمانيا ولا حتى "لاندوشين" برغم أنه حارب ضدهم جميعا بشكل غريب، فرنسا جيشته وصنعت منه جندي شجاع، ألمانيا احترمت شجاعته ووظفته ضد أعدائها، و"لاندوشين" كانت أشجار غاباتها تذبح البشر ولا تذبحه هو ، كان ينجو فيها دائما بأعجوبة..

عندما يحكي لناعن ألمانيا، لا يحمل في دواخله أي عداء لها، عاملوه كجندي منهم، لكن كيف نفهم نحن أنه كان أسيرا عندهم؟

يحكي هو نفسه عن شجاعته، عندما كان في الجبهة الفرنسية، كانوا قد وظفوه في أكثر من مناسبة في الإطلاع على جبهات العدو، كان ينفذها غالبا وينجح في العودة حاملا كل الأخبار والمعلومات التي تحتاجها الجبهة الفرنسية، في أول مرة احتاج الفرنسيون للإطلاع على جبهات العدو كان هو احد المتطوعين، قتل أصدقاؤه وعاد هو سالما ومن ثمة أصبح شخصا مهما في الإستخبار العسكري، مع كثرة استخباراته واستطلاعاته أسر ذات يوم عند الألمان، لم يقتلوه بل سجنوه مدة، وطبعا سيتعلم لغتهم وبسبب تنقلاتهم رغم أنه أسير، سيلهم الألمان باستطلاع استخباري تطوع فيه رغم أنه أسير، قال بأنه انتهز فرصة تردد المستطلعين الألمان في حقل مجابهة معينة مفتوحة مثيرة للمخاوف، فتطوع هو للإستخبار وربما وظف براءته كونه لا هو ألماني ولا هو فرنسي ولا ناقة له ولاجمل في حربهم، ومن ثمة عامله الألمان كجندي معهم وحتى هيأته الجسمانية وذهول ملامحه تعبر عن براءة أطفال، لقد كانت البراءة فيه موهبة ربما حتى "اللاندوشينيين" اكتشفوها فيه، أو ربما كان لا يطلق رصاصة في الجبهات ونحن طبعا لاندري شيئا غير ما يحكيه برغم أننا نعرف عنه أنه إنسان طيب جدا، لقد عاش بيننا وامطرنا كثيرا بحكاياته التي لا يصدقها عقل، لكن مع ذلك كنا نحبه، كان متسامحا حتى في حقوقه، واذكر أنه اختلف ذات يوم مع احد اعمامي في حساب الغلة (كان قد تعاقد مع عمي في استغلال أرض له مقابل ربع المنتوج، يعني أن يقدم عمي الأرض والحبوب للزرع مقابل ربع الإنتاج، واختلفو في الحساب عند تحصيل المنتوج فتنازل هو عن طيبة خاطر لعمي الذي وبخته زوجته الثانية كثيرا لسوء تصرفه)

كان يبدو بهلوانيا عندنا ومثيرا أيضا، لم يكن يعترض حتى حين نسخر من حكاياته، يقسم بأيمانه الثقيلة أن أشجار فييتنام تذبح البشر إذا لا تفسير له حين يستيقظ في صباح "لاندوشيني"، في غابة مغمورة، ويجد كل أصدقائه قد ذبحوا إلا هو..

عندما راسل مؤسسات مرتزقة فرنسا "لا ريجيون" بعد حصوله على عناونها من الألماني السائح، تجاوبوا معه بالفعل وقدموا له فيزا لزيارة مؤسساتهم بفرنسا، بعد ذلك خصصو ا له تقاعد مريح بشكل لم يعد يحتاج إلى تعاقد مع مالكي الأرض مقابل ربع إنتاج المحصول، لقد أصبح شخصا آخر له أجرة مضمونة ومكانة اجتماعية أيضا وكان أول شيء أنجزه هو الزواج بامرأة ثانية لأن زوجته الاولى لم تعد تشبعه جنسيا: "لقد شاخت وأهلكتها الولادة" كما قال، وفي يوم معلوم في محيط قريتنا، نقلت إلينا الأخبار أنه انتحر، لكن بعد ذلك، اتضح أن الأمر كان فيه سوء تقدير: لقد امتنعت الزوجتان من النوم معه لمدة أسبوع وكشكل احتجاج منه عليهن، خطرت له فكرة "لاندوشينية" ربط حبل المشنقة عند عرش بدا له سهل تهشيمه، كان يعتقد أنه بمجرد ارتمائه سيتكسر العرش ويسقط هو للأرض وستبدوا للجميع محاولة انتحار جدية، ربما تعتبر منها زوجتيه، لكن عرش الشجرة خانه، وحين ارتمى وفي عنقه مشنقة الحبل، بقي عرش الشجرة ثابتا بشكل سحقت عظام عنقه

مات عرفة وفي جعبته فصح غريب: "أشجار الأطلس ليست كأشجار "لاندوشين".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى