خديجة ناصري - عن الانشغال الفلسفي بالثقافة عند علي حرب

يعد مصطلح الثقافة من أكثر المصطلحات الشائكة والفضفاضة، والتي غالبا ما تفلت من قبضة المفهمة، إذ من الصعب نحت صياغةمفهومية شاملة تمس كل الجوانب المشكلة لها. ولذا فقد تباينت التعاريف وتعددت وعلى كثرتها أضحت فاقدة للفاعلية والدينامكيةفجلها يصب في ذات المجرى والسياق وتسير على ذات النغمة، عملت على تحنيط معنى الثقافة وتحجيره بإعطائه صفات ومعاني خاوية،ودلالات مخرومة. ولهذا جاء مفهوم "علي حرب" لكسر الطابع الأكاديمي الذي عمل على بناء مفاهيم تخضع للدقة والصرامة العلمية لكنها في المقابل مفاهيم جوفاء جافة تفتقد الحيوية والمرونة التي تتماشى مع طبيعة الثقافة كميدان للفعل الإنساني، محاولا سد الفجوات التي أطالت بهذا المفهوم، فالثقافة حسبه هي "صناعة الحياة وتشكيل العالم، هي القدرة الدائمة على التجدد والخلق، سواء بإغناء عالم الرمز والمعنى، أو بتجديد أنظمة المعارف ومنظومات العقائد، أو بتوسيع فضاء العقل ومساحة الفهم، أو بتحديث أدوات التفكير وأساليب التعبير، أو بتغيير سلّم القيم وأنساق المعايير (...) فالثقافة هي الإمكان الدائم على التجدد والازدهار" (1).
ويذكر "علي حرب" في موضع آخر قائلا: "الثقافة بمعناها الأشمل هي صناعة الحياة والاشتغال على الطبيعة، وشكل من أشكال التواصل والتبادل. وبهذا المعنى لا إنسان بلا ثقافة، أكان من أهل العمل الفكري أم من أصحاب العمل اليدوي، لأنّه لا إنسان أصلاً بلا فكر"(2).فالثقافة وفق الرؤية الحربية هي ذلك النشاط النوعي الفاعل والمبدع الذي يولده الإنسان كتجربة وجودية تحاكي الواقع بكل تحولاته وتقلباته، يسهم في صناعة الحدث وخلق أسباب التقدم والدفع بالأمة إلى التطور والازدهار، وهي مهمة لا تقتصر على العارف أو المتعلموليست حكرا على أصحاب العقول التي توصف بالمثقفة إنما هي مهمة يضطلع بها كل أفراد المجتمع باختلاف شرائحه. ومن هنا يقترح"علي حرب" أن نقرأ واقع الثقافة العربية ومشكلاتها، في ضوء ما يستجد ويتغير، حتى لا نغرق في الوهم أو نقع في اليأس والإحباط، وطريقنا إلى ذلك هو خلق ثقافة حية قادرة على تقديم سبل الإبداع والابتكار، تكون ذات قابلية للتجدد المستمر، ولا يتأتى ذلك إلاّ عبر الفكر النقدي، والعقلية التداولية، والمنطق التحويلي، بلغة مرنة غير متحجرة قابلة للتطويع وفك قوالبها المغلقة. كل هذا يسمح لها أن تملك القدرة على الانخراط في لعبة السباق والتنافس التي يشهدها العالم، وتجاوز منطق التخندق والتعلق بواقع ولى واندثر، وهذا مايسمح ببناء مستقبل الثقافة العربية المعاصرة بحيث تسهم في تغيير المشهد الثقافي الفكري على الصعيد العالمي.
ويعتبر "علي حرب"، "أنّ الثقافة الغربية تقدم مثالا ساطعا ومتفردا على ثقافة مارست حيويتها وتفوقها، لقدرتها الخارقة على نزعجلدها وتغيير ذاتها باستمرار. إنّها ثقافة ميزتها الأولى علاقتها النقدية بذاتها، الأمر الذي أتاح لها القدرة على توليد الجديد والمبتكر والأصيل والخصب من الصيغ والنماذج، أو الأطر والقوالب، أو الطرق والمناهج، أو الأساليب والأنماط، أو الأنظمة والأنساق(...)"(3) وهذا أكثر ما تفتقده الثقافة العربية والتي يتوجب عليها إعادة النظر في ذاتها والعمل على إجتراح أسباب انتعاشها للمشاركة في صناعة الحياة.
صورة الفعل الثقافي عند علي حرب:
الثقافة كما يرى "علي حرب" أكبر من أن تختزل في عبارات أو أن يتم تفريغ محتواها في مفاهيم لا تمتلك الطاقة الكافية لاستيعابها والتعبير عن جوهرها، لأّنها تتمتع بحيوية ومرونة يصعب ضبطها وشد الخناق عليها لأنّ هذا قد يفقدها بريقها وتميزها بوصفها مادة حيةفاعلة تسهم في تغيير الواقع وتخلق ميكانزمات مفاهمية تضبط العملية الفكرية وتحدد مسارها بالشكل الذي يضمن السلامة والصرامة في التفكير والدقة في التنفيذ، وهذا ما يجعل الثقافة مجال حيوي تنطلق منه كل إبداعات الإنسان وإنجازاته، وهذا ما يفرض على المثقف أن يجدد أدواره وألا يتقوقع في حيز معرفي معين، حتى يساير الثقافة بكل ما تتمتع به من خصال ومميزات تشكل كثافتها وبطانتها.
وعلى هذا فإنّ الثقافة العربية بحسب "علي حرب" يتوجب عليها أن تستثمر كل مجهوداتها لخلق ثقافة تكون بمستوى الأحداث التي يشهدها العالم الراهن وتساير الوتيرة المتسارعة التي يعرفها على كل المستويات، ويرى أنّ الثقافة الغربية بكل ما تحمله من قيم تشكل ذلك النموذج الحي والفاعل للثقافة، وهذا ما يزيد من مسؤولية المثقف العربي الذي يتوجب عليه التأسيس لثقافة تكون بذات الحجم، ليس بنسخ هذا النموذج وتطبيقه، بل بنسج نموذج يحاكي النموذج الغربي ويؤدي ذات مهامه، وقد يفوت الأمر ذلك لمجاوزته والعمل على إثرائه والإضافة عليه. ولتحقيق ذلك يقدم لنا "علي حرب" جملة من الآليات الفكرية التي إذا ما التزم بها المشتغل في حقل الدراسات الفكرية تكون سبيله لخلق ثقافة تكون في مستوى تطلعات الفرد المعاصر الذي وقع فريسة لواقع تتجاذبه الصراعات والنزاعات، وهذا ما نلخصه فيما يلي:
-الفعل الثقافي بما هو فعل تحويلي:
يكرر "علي حرب" في معظم كتاباته وأعماله، الحديث عن ضرورة التمتع بعقلية وذهنية تحويلية تعمل على إزاحة الثوابت وخلخلة ما رسخ في الأذهان من معتقدات وقناعات ومبادئ، وكسر القوالب الجاهزة، وخلع الحواجز التي قد تعمل على إعاقة وشل الروح الإبداعية الكامنة في الذات الإنسانية.
والثقافة هي أكمل صورة وأبلغ تعبير عن هذه الذهنية التحويلية وهي التي تعمل على إعادة إنتاج وتصنيع وتحويل كل ما هو ماثل أمامها من الموجودات، وصوغها في قوالب جديدة تجعل منها أكثر جمالا وإتقانا ودقة، بحيث تكون أكثر عملية وتلبية لحاجات الإنسان وضروراته. ومن هنا يأتي التأكيد والتركيز على الثقافة كميدان ومجال يوفر الشروط والإمكانات لصنع حياة تتأسس على منطق تحويلي بامتياز، وهي التي تكشف عن نفسها بوصفها كيان يرفض الثبات والخضوع لوضع معين، أو السكون والتقوقع في رقعة مخصوصة، أو التسليم بحقيقة جزئية كانت أم مطلقة، أو التقيد بنظام محدد، أو الانخراط في بيئة وجودية أو ساحة فكرية ساكنة وجامدة، أو السير على خريطة معرفية مسطرة المعالم تخضع لمنطق الحدود التي لا يتوجب خرقها أو تجاوزها...الخ. وليس هذا من شيء إن لم يكن ترجمة وممارسة عملية لمنطق التحويل في أصدق وأكمل تجلياته.
والقول أنّ الفعل الثقافي قوامه الفعل التحويلي (إذا ما تجاوزنا منطق الأحادية في التفكير)، هو مسايرة للثقافة (باعتبارها صفة لصيقة بالإنسان بحكم أنها من إنتاجه وفي ذات الوقت موجهة إليه) لأنّه وكما يقول "علي حرب" أنّ: "عالم الإنسان هو مساحة من الإمكانيات المفتوحة والعلاقات المتحولة "(4). فما هو صالح في الوقت الحاضر لم يكن كذلك في الماضي القريب وقد لا يكون كذلك فيما هو تالي من مستقبل البشرية، فتركيبة هذا العالم متغيرة، فهو ينقلب على عقبيه مع أول هزة أو كبوة أو محنة تأتي بها رياح التغيير والتجديد التي تقتلع كل ما يأتي في طريقها من جذوره. وهو أشبه ببناء بلاستيكي أو مطاطي يمكن أن يثقب في أبسط حركة، كما يمكن أن يتمدد ويتقلص ويتلوى حسب المستجد من الأمور. فمن كان صديق بالأمس يصبح عدو اليوم، وما يبدو صحيح اليوم هو خاطئ في الغد،وهكذا فالعالم دائم التجدد والتحول، وهذا ما عبر عنه "علي حرب" في قوله: "لا شيء في عالم اليوم، يتعين سلفا أو يعطى بصورة مسبقة، بل كل معطى طبيعي يخضع للتحول ويعاد إنتاجه، فلا يعود الأمر يتعلق بآليات طبيعية أو ببرامج وراثية، وإنّما يتعلق بخبرات وجودية هي مراسات ذاتية وممارسات حية، بقدر ما هي لغات مفهومية وصناعة للحقيقة"(5).
وعليه فإنّ الثقافة التي تود أن تضمن بقاها، هي تلك االتي تعمل على تجديد ذاتها ، وتشتغل باستمرار على إجتراح بنى وأنظمة فكريةومعرفية عملية قابلة للتطبيق، وقادرة على إحداث الفارق، لأنّه وكما علمنا التاريخ وحمله إلينا فلاسفة ومفكرون أمثال "ابن خلدون"، و"أرلوند توينبي"، و"شبنغلر"، وغيرهم ممن اهتم بدراسة الدورة الحضارية التي تمر عليها كل المجتمعات في أي زمان وفي أي مكان، فإنّ كل حضارة تحمل بذور فنائها. ولأنّ هناك العديد من المقاربات التي تجعل من الحضارة مرادفا للثقافة، والوريث الشرعي لها، فإنّ كل ثقافة تحمل بذور فنائها. وعليه يتوجب عليها ألا تكتفي بتغيير جلدها فقط كما يروق للبعض التركيز عليه لأنّ تغيير القشرة دون النواة لا ينفع، وتجديد الغشاوة دون اللباب لا يجدي. ومن ثمة فعلى كل ثقافة ألا تغفل لحظة عن القيام بتقليب موادها المعرفية حتى لا تصدأ وترشى، وأن تعمل على تحويل أفكارها حتى لا تصبح عبارة عن أصنام تعبد وأوثان يركع لها، وحتى لا ترتد علينا فتتحول إلى سم زعاف فينا كما يذكر ذلك" نيتشه" في كتابه " هكذا تكلم زرادشت".
-الفعل الثقافي بما هو فعل إبداعي:
يتحدد مفهوم الثقافة من منظور "علي حرب" بوصفها فعل إبداعي، هذه الروح الإبداعية تكون على أشكال متعددة، فهي تتخذ هذه الصورة بحسبه لكونها تسهم في بناء عدة فكرية تعمل على تحريك الوضع الفكري الذي سلم بقيم الخضوع والرضوخ والاستسلام بعدما أنهكت قواه الدفاعية وفقده للمناعة التي تقيه من شر أمراض هذا العصر، بحيث تقدم هذه العدة نفسها على شكل آليات تعقيمية، لوقف فيروسات و أوبئة الثقافة من الزحف أكثر، وتتمثل هذه العدة التي عمل المفكر على صياغتها وتركيبها والتي تعد نتاج لتجربته الفكرية والتي تنم عن عمق تشخيصه لقضية الثقافة فيما يلي:
- التقى الفكري: وهي أحد الآليات التي تعمل وتشتغل على مستوى الذات، بحيث تسعى إلى ترتيب وتحديد علاقة الإنسان عموما والمفكر على وجه الخصوص مع ذاته المفكرة وكيانه المنخرط في علاقات متشابكة مع نفسه ومع غيره ومع العالم، بالشكل الذي يسمح بممارسة نوع من التواضع الذي يقر بتناهي الإنسان ومحدوديته، فممارسة التقى الفكري، مفاده "أن يقرّ الواحد بتناهيه وحدوده، ككائن وإنسان، بحيث يعترف بأنّه لا يملك مفاتيح الحقيقة والسعادة، ولا يقبض على ماهيات الأشياء أو معاني النصوص (6). فالأزمة التي نعيش تفاصيلها اليوم لا تقتصر على الحياة الفكرية بما تحويه من فكر سياسي، وفني، وجمالي، وأخلاقي...بل هي قبل كل شيء أزمة في صناع الفكر أي المفكرين أو المثقفين كما يبتغي "علي حرب" تسميتهم. فبالإضافة لتحليلاتهم التي جاءت مغايرة لما يعيشه عالم اليوم كما أوضح ذلك "علي حرب" في نقده المحموم للمثقفين، فإنه قد ركز على اللغة النرجسية المتعالية التي يخاطب بها المفكرين شرائح المجتمع العريضة، وما يمارسوه من رسولية ووصاية. فكل مفكر أكرمه الله بشيء من العلم والمعرفة ينصب نفسه مندوب يتحدث بالنيابة عن السواد الأعظم من بني جنسه، ناهيك عن أولئك الذين يتفقهون في العلم وهم في جهلهم منغمسون. كل هذا جعل "علي حرب" يدعوا لضرورة التواضع والعدول عن تضخيم الذات، والنفخ فيها كما ينفخ كبش العيد وما أكثر هذه النماذج في زمننا.
- التواضع الوجودي: وهو الآلية التي تشتغل على مستوى علاقة الفرد بغيره ليكون بذلك الوجه الآخر للتقى الفكري، ومفاده أن يعترف الواحد بحدوده تجاه نظرائه، وأن يقتنع كل طرف بأنّه لا يملك هوية صافية خالصة من أثر الآخر، ولا هو استثناء بين الناس، من حيث ثقافته وقيمه ونماذج عيشه، وذلك يحتاج إلى كسر العقلية الاصطفائية المركزية التي تدمر صيغ التعايش مع الآخر وتقطع خطوط التواصل بين الجماعات، بقدر ما توهم أصحابها بأنّهم الأحق والأفضل والأشرف والأرقى (7). وهذا هو مكمن العلة التي عششت في عقول أبناء هذا العصر سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات، فكل طرف من هذه الأطراف على اختلافها وتنوعها إلاّ ويعتقد أنّهقد أسس لكيان يمثل أرقى نموذج للنوع البشري الذي يتوجب العمل به، والأخذ منه، والتمرغ فيه. وهذا ما جرنا للعيش في كنف أحادية ثقافية على الرغم من تعدد البنى الثقافية وتنوع نماذجها، الأمر الذي كرس سياسة الاقصاء والتهميش، بل وحتى التعدي على هوية الآخر ومقومات شخصيته التي تأطر وجوده وتعطيه ماهيته. وهذا تماشيا مع سياسة فرض السيطرة والهيمنة التي انتهجها بنو البشر منذ خلق الإنسان إلى أن خنق وبات وضعه في الوجود ضرير.
- الوعي النقدي: إنّ ممارسة التقى والتواضع، كموقف وجودي، تسهم في تشكيل الوعي الضدي والحس النقدي تجاه الذات قبل الغير. ومن يمارس النقد والمراجعة لا يرمي بالمسؤولية على سواه، بل يعترف بأخطائه ولا يتستر على عيوبه (8). فالنقد دائما هو بمثابة المرآة التي تعكس عيوب المرء وتظهرها، هذه العيوب التي يعمل دائما على إخفائها مستعينا في ذلك بأدوات تجميلية تساعده على سد ثغرات هذه الذات وتشبيحها، والنقد هو الذي يعمل على خلع هذه الأقنعة الاصطناعية المزيفة، ويظهر الذات على حقيقتها وهذا ما يساعد علىتحسينها حتى تكون أفضل. وليس من طريق يوصل البشرية إلى بر الأمان إلا إذا كان نهج كل فرد النقد الذي يبدأ بالذات ثم يتجه صوب الآخر، فمتى أدرك الإنسان أنه كائن مصنوع من الخطأ والنقصان، ويترسخ في ذهنه أنه متناهي الوجود ومحدود القدرة، وأن الآخر يكمله، سرنا نحو بر الأمان.
- عقل تداولي: ومن يعترف بالآخر، يدير الحوار بعقل تداولي، لا بعقلية سجالية ترمي إلى تسجيل النقاط أو نصب الأفخاخ أو الهروب من الاستحقاق لرمي المسؤولية على الآخر، فذلك لا يحل مشكلة، بل يحول السجال إلى محاكمة عقيمة، بانتظار جولات جديدة من النزاع والصدام. ولذا فإنّ الحوار المجدي لا تطرح فيه الأفكار بصورة مطلقة ونهائية، وإنّما يطرح فيه ما هو قابل للصرف والتداول والتحوّل، بقدر ما يدار بلغة التواصل والتوسط والشراكة والتسوية (9). وما نعيشه اليوم من تفشي لقيم تؤصل للعداء بين أبناء الجنس الواحد، وتروج لمفاهيم الذاتية والقوة والسيطرة، يبرز الحاجة للتمتع بعقلية تداولية تجمع كل الأطراف.
- منطق تحويلي: فإذا كان حضور العقل التداولي حاجة ملحة في تسيير أي حوار أو في ضبط أي علاقة فإنّ حضور المنطق التحويلي بالموازاة مع العقل التداولي ضروري لأنّ هذا الأخير يشتغل بالمنطق التحويلي، لا بمنطق الهوية الثابتة. فنحن نتحاور مع الآخر، لا لكي نشبهه ونصير مثله، ولا لكي يشبهنا أو يصبح على شاكلتنا، بل لكي نكسر قوقعتنا ونتزحزح عن مركزيتنا، بحيث نختلف عما نحن عليه أو فيه قدراً من الاختلاف، بقدر ما نسهم في تغيير الآخر، وذلك بخلق وسط للتفاهم أو صيغة للتعايش أو مكان للتبادل أو إطار للبناء المشترك. هذا شأن الحوار الفعال، فمن مفاعيله التحول المتبادل بين أطرافه. ومن لا يحسن أن يخرج من عزلته، أو من لا يعرف كيف يتغير، فإنّه غير مؤهل لإدارة أي حوار، ومن ثمة فهو غير مؤهل لإدارة نفسه، أو إدارة العلاقة مع غيره، أو مع العالم الذي يعيش وسطه.
- عقلانية مركبة: فكما أنّ العقل التداولي يرتبط وجوده بالمنطق التحويلي، فإنّ هذا الأخير يستوجب العمل بعقلانية مركبة، لأنّ "الحوار الفعال يحتاج إلى الاشتغال بعقلانية جديدة ذات رؤية منفتحة لا منغلقة، وصيغة مرنة لا جامدة، وبنية مركبة لا بسيطة، ومنهج تعددي لاأحادي، ونظام متحرك لا ثابت، خاصة وأننا جزء من عالم دائم الحركة ويرفض الثبات، وهكذا فإنّ الحوار المثمر لا يدار بعقل اختزالي تبسيطي، بل بفكر مركب وشامل، يرى صاحبه دائما الوجه الآخر للمسائل" (10). وبهذا فالحلول التي يصل إليها الأطراف المشكلة للحوار، لا تتم بمنطق الإقصاء والتهميش والنفي في مقابل التسليم والانتصار لطرف على حساب المتبقي من الأطراف، إنّما هو حوار يكون ثمرة تجميع ما يناسب من أفكار من قبل كل طرف في لحمة تتجاوز كل ما يفرق وتركز على ما يجمع بيننا كبشر وسكان لهذا العالم الذي يتوجب علينا المحافظة عليه والسهر على سيره بالطريقة الأنسب.
- البعد المتعدد: وفي إطار هذا التسلسل الذي يقدمه الكاتب، فإنّ البعد المتعدد هو أحد حلقات هذه السلسة التي لا تكتمل في غيابه، وهو يعني بحسبه ذلك الوعي الذي يشكله الإنسان عن هويته بتجاوز منطق الثبات والأحادية والمطابقة، أو بوصفها حقيقة منجزة أو بداهة مسبقة. مثل هذا المنطق من الفهم والوعي ينسف ويهدم جسور التواصل والتفاهم منذ البداية، لأنّ الحوار المثمر هو الحوار الذي يديره أطراف على قناعة أنّهم ذوات وهويات مركبة وملتبسة، فضلا عن كونها متعددة الأوجه، وهذا ما يساعد على تشكيل جسور التواصل بين هذه الأطراف التي تلتقي حيث تكون هناك نقاط التقارب بينها أو العمل على خلقها إن لم تكن متوفرة.
- لغة الخلق: إنّ الإقرار بضرورة خلق جو من التحاور والتواصل بين الثقافات كشرط لازم لأي خطوة في طريق التأسيس لسلام عالمي، لا يعني التحاور من أجل التعارف والاعتراف، إنّما القصد من ذلك هو العمل على الإتيان بالجديد والمختلف في شكل روح إبداعية خلاقة في سبيل اجتراح لغة مشتركة تنصهر فيها كل الذوات لخلق عالم أفضل.
- النموذج الفاعل: وهو الغاية القصوى التي يتأمل "علي حرب" الوصول إليها، وقد عمل بكل ما أتيح له من وسائل فكرية ومعرفية لبناء هذا النموذج، والذي لا يحتاج أن نعرف به، أو نعدد مكوناته فقد سبق الحديث عن ذلك كل ما تقدم، فإذا تم الجمع بين كل الآليات السابقة الذكر فذاك هو النموذج الفاعل الذي يجب العمل والأخذ به.
وقد حاول "علي حرب" من خلال ما قدمه من مادة معرفية التنظير لحياة مشتركة تحد من الوتيرة المتسارعة للنزاعات والخلافات والتي تزداد حدة في كل يوم، وتفتح المجال للتعايش السلمي والحوار البناء والعمل على تبادل الخبرات لما يجمع البشرية من مصالح ومصائر مشتركة، وذلك في سبيل إقامة وجودية فاعلة ومريحة لكل أبناء المعمورة.

بقلم: ناصري خديجة
الجزائر
الهوامش:
(1) علي حرب، حديث النهايات: فتوحات العولمة ومآزق الهوية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، المغرب، 2004م، ص118.
(2) علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، المغرب، 2004م، ص 38.
(3) علي حرب، حديث النهايات فتوحات العولمة ومآزق الهوية، ص119.
(4) علي حرب، الماهية والعلاقة: نحو منطق تحويلي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، المغرب، 1998م ،114.
(5) علي حرب، الماهية والعلاقة: نحو منطق تحويلي، ص116.
(6) علي حرب، تواطئ الأضداد: الآلهة الجدد وخراب العالم، منشورات الاختلاف/ الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، الجزائر/ لبنان،2008م، ص140.

(7) علي حرب، تواطئ الأضداد: الآلهة الجدد وخراب العالم، 141 .
(8) علي حرب، تواطئ الأضداد: الآلهة الجدد وخراب العالم، ص141.
علي حرب، تواطئ الأضداد: الآلهة الجدد وخراب العالم، ص142. (9)
(10) علي حرب، تواطئ الأضداد: الآلهة الجدد وخراب العالم ص143.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى