أمل الرفاعي - سارة والوردة الأخيرة

سارة شابة في غاية الجمال، شقراء ذات بشرة ببياض الثلج، عيناها بلون مياه البحر، قامتها ممشوقة، لها صوت يشبه شدو العندليب. هي الابنة الوحيدة لوالدين رزقا بها بعد سنوات عديدة من الزواج، وأغلى ما لديهما في هذا العالم.
نشأت سارة في جو من الرعاية الفائقة، وحصلت على أكبر قدر من المحبة والدلال، كما تلقت أفضل التعليم، بحيث أصبحت محطّ إعجاب كل من حولها.
وكانت سارة عندما بلغت سن السادسة عشر قد بدأت تُحاط بإعجاب كل من حولها، ولم يكن ذلك يخفى على والديها اللذين كان تعلقهما بها يزداد يومًا بعد يوم، كما كان اعتزازهما بما تتمتع به من صفات خُلقية ومن جمال وكياسة قد تضاعف إلى أن تحوّل بالتدريج إلى نوع من التفاخر.
كان كل من حولها يتنبأ لها بمستقبل زاهر، وبزواج مثالي من شاب لا بدّ أن يتميّز بأعلى قدر من المواصفات.
وكان والدها يقول دومًا:
"ابنتي سارة كما ترون، فتاة مثالية شديدة الذكاء، رائعة الجمال؛ وهي بذلك تستحق بالفعل زوجًا مثاليًّا لا بدّ أن يكون ممن يعملون إما في السلك الدبلوماسي، أو ممن هم من مشاهير رجال الفكر، أو من كبار رجال الدولة".

كان كل ما تسمعه سارة منذ نعومة أظفارها من جميع من حولها، هو عبارات المديح والثناء والإعجاب.
ـ ولا بد من أن نشير هنا إلى أن الطبيعة البشرية واحدة ومتشابهة لدى الجميع، وبأن الحسناوات يُحببن الثناءـ لذا؛ كان من الطبعيّ أن يكون لتلك العبارات تأثيرها على سارة مع مرور الزمن، مما جعلها تصبح شديدة الاعتزاز بنفسها. ولكن علينا أيضًا أن نقّر بأن سارة لم تكن قد تحولت إلى شابة مُتكبرة بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنها كانت تُثمن نفسها إلى حدّ كبير.
ثم تتالت عروض الزواج على سارة بحيث لم يكن هناك شاب من أبناء الطبقة الأرستقراطية إلاّ وتقدم بطلب الزواج منها. كما لم يعد هناك شاب من زملاء الدراسة إلا وكان حلمه أن يتقرّب منها وأن يحظى برضاها.
لكن سارة التي بدأت يومًا بعد يوم تتشرب أفكار والديها، والتي كانت نتيجة لما لمسته أيضًا من إعجاب جميع المحيطين بها، كانت ترفض جميع تلك العروض باعتذار لطيف وبأعذار واهية.
مرّت السنوات بها إلى أن أصبحت على أبواب الثلاثين، وكانت سارة ذات يوم وهي تنظر إلى انعكاس صورتها الجميلة في المرآة، قد شاهدت أول خطوط الزمن على جبينها، وهذا ما جعلها تُدرك للمرّة الأولى بأن قطار الزواج قد يفوتها إن لم تقبل بأحد العروض الكثيرة التي تتلقاها، وبأن فرصتها بتأسيس عائلة سعيدة قد بدأت تتضاءل شيئًا فشيئًا.
بعد بضعة أيام اتصل بسارة أحد الشبان الذين كانت قد جمعتها بهم أيام الدراسة الجامعية. ذكّرها ذلك الشاب بنفسه وطلب منها أن تُقابله، زاعمًا بأن الأمر يتعلق ببعض المراجع التي يحتاجها لأجل أطروحة الدكتوراه التي يُعدّها.
لكن ذلك الشاب ولشدّة دهشة سارة، اقترح عليها أن تتم تلك المقابلة في إحدى الحدائق كما قال وهو يتظاهر بأن ما يقترحه ليس إلا على سبيل الدعابة:
"ما رأيك وأنت في طريقك لمقابلتي أن تقطفي أجمل وردة ترينها في تلك الحديقة وأن تحمليها بيدك، وإن كنت أنت -بالطبع- الوردة الأجمل."
راقت الفكرة لسارة، التي كانت قد بدأت تضجر من نمطية أسلوب تقرّب الشبان الآخرين إليها، وشعرت بأن في كلام ذلك الشاب ما يوحي بشيء من الغزل المُبطّن الراقي.
وكانت في ذلك اليوم قد خرجت من منزلها في الموعد المحدّد وهي ترتدي ثوبًا من القطيفة الزرقاء التي انعكس لونها على لون عينيها.
مشت في تلك الحديقة المُزدانة بالزهور الرائعة. كانت الفراشات التي خرجت من شرانقها تطير حولها وكأنها تحمل لها بشرى سعيدة، وكانت عصافير الدوري تُغرّد مرحبة بقدوم الربيع.
شعرت سارة بالجذل وهي تسير بين ممرات الورود والزهور اليانعة. كانت تنظر حولها حائرة تحاول أن تختار الوردة الأجمل من بين ذلك العدد الكبير من الورود والزهور الرائعة التي كان عبيرها يعبق في المكان، لكنها كانت كلما وقع نظرها على إحدى الورود الجميلة تُحدّث نفسها:
"لا بد أن في الحديقة ما هو أجمل من هذه الوردة... لا بدّ أن أعثر على وردة أجمل من هذه..."
واستمرت في سيرها إلى أن أصبحت دون أن تشعر على مقربة من المكان المتفق عليه، ولمحت ذلك الشاب جالسًا على المقعد بانتظارها، نظرت إلى صفوف الزهور لكنها لم تجد أمامها سوى بعض زهور البنفسج المُختبئة بين أوراقها الخضراء. لم تكن تلك الزهور بالطبع أجمل ما شاهدته في تلك الحديقة، لكن لم يعد بإمكانها -بعد أن أصبحت على بعد خطوات من ذلك الشاب- أن تعود أدراجها لكي تقطف ما رأته من الورود الأجمل، خاصة وأن ذلك الشاب كان يرقبها عن بعد، وبذلك انحنت بسرعة وقطفت بعض زهور البنفسج وحملتها بيدها وتوجهت نحوه.
استقبلها الشاب بابتسامة لطيفة. تذكرته سارة من النظرة الأولى فهو الشاب العصامي الذي كان أكثر الشبان تفوّقًا أثناء الدراسة الجامعية، كما تذكرت أيضًا بأنه كان من أشدّ المُعجبين بها، ومن الذين منعهم الحياء من التقدم إليها؛ لأنه من طبقة اجتماعية متواضعة.
تناول الشاب من يدها زهور البنفسج وقال:
"هل تسمحي آنسة سارة؟! لقد اخترت بالفعل زهورًا جميلة. أعتقد أنك تعلمين بأن هذه الزهور تُسمى باللغة الإنكليزية:
"FORGET ME NOT"
وهو ما يعني "لا تنسني"!.
وأودّ أن أعلمك بأنني لم أنسك أيضًا طوال تلك السنوات. هل لي أن أسالك فيما إذا كانت زهور البنفسج هذه أجمل ما رأيته في هذه الحديقة المُزدانة بالعديد من أنواع الورود والزهور الرائعة؟
اصطبغ وجه سارة بالحمرة وأجابت:
"في الواقع... الحقيقة... كان هناك ما هو أجمل منها، لكنني كنت كلما نظرت إلى إحدى الورود أتوقع أن أجد ما هو أجمل منها إلى أن اقتربت من المكان المتفق عليه وبذلك اضطررت إلى أن أقتطف هذه الزهور"
قال الشاب: "كنت أحلم بك طوال حياتي وأنتظر اليوم الذي سوف ألقاك فيه من جديد، كنت أحلم منذ زمن طويل بالارتباط بك. لكنني كنت أخشى دومًا أن ترفضينني فأنا لست بالطبع أفضل الشبان الذين كانوا يتقربون منك، كما أنني لست من المستوى الاجتماعي ذاته لمن تقدموا إليك. كما قد لا أمثّل صورة فتى أحلامك، لكنك كنت دومًا زهرة أحلامي، وهذا ما جعلني أسعى دومًا لأن أجعل من نفسي جديرًا بك، فهل يمكن أن يقع اختيارك علي الآن؟ هل يمكن أن تقبلي الارتباط بي؟ هل يمكن أن تعتبرينني أشبه بزهور البنفسج التي اقتطفتها اليوم في آخر نزهتك؟ فلم تكن هذه الزهور أجمل ما شاهدته في الحديقة من أجمل وأروع الورود والزهور، لكنها مع ذلك الزهرة التي ترمز إلى الإخلاص الأبدي؟
وهكذا كان ذلك الشاب قد فاز بقلب سارة الذي لم يكن أي من الشبان الآخرين قد استطاع أن يفوز به، لا بما لديه من الأموال، ولا بما يتمتع به من مكانة اجتماعية رفيعة.
ربما كان بإمكاننا أن نستخلص من هذه القصة الطريفة: أن على المرء أن يستند في خياراته إلى الأمور الجوهرية، وألا يكون كثير التردّد وكثير التطلّب، لكي لا يضطر في النهاية إلى التنازل أو إلى اختيار ما قد يعتبره مخالفًا تمامًا لتطلعاته.


التدقيق اللغوي لهذه القصة: سماح الوهيبي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى