أمل الكردفاني - التشريح.. قصة قصيرة

- أفحر هنا..
أشار الشرطي لخفير المقبرة فنهره الضابط:
- إنها أحفر وليس أفحر...
ارتبك الشرطي ورفت ابتسامة ساخرة على وجه الخفير ، قال الشرطي:
- هكذا نقولها في البلد..
قال الضابط ساخطا:
- عشت في العاصمة جل حياتك ولا زال لسانك أغلفا ...
كاد الشرطي أن يبكي ولكنه كظم سخطه وانتهى الأمر بإخراج الجثة.
وفي مكتب التحقيق كانت السيدة مريم تبكي غير أن المتحري لم يعر ذلك التفاتا بل دخل مباشرة في الموضوع:
- جثة زوجك بحسب التحقيق سليمة..فهو لم يتعرض لعنف بل مات ميتة طبيعية..المشكلة يا سيدة مريم أنه وبحسابات الطب الشرعي لم يمت قبل اسبوعين..بل مات قبل اربعة أشهر...ولولا البلاغ من إخوته لمر هذا الأمر العجيب مرور الكرام...أين كان طوال هذه المدة...
انفجرت مريم باكية وهي تقسم:
- أقسم لك..أقسم لك بأنني لا أعرف..ربما اخطأ الطبيب الشرعي..
أخرج المتحري سجارة وأشعلها وقال بنفاد صبر:
- ليس لدي وقت لهذا...يا سيدة مريم...صلي على النبي...أحد التجار أخبر إخوة المتوفى بوفاة شقيقهم وعندما حضروه من القرية أخبرتهم أنت بأن أبناء الحي هم من صلوا عليه ثم دفنوه...ولولا أن أحد أبناء الحي أخبرهم بأنه حينما كان يحمل الجثمان كان يشعر بأن لحمه يتفسخ وكانت رائحته تتسارع بعفونة عجيبة رغم أنه كان باردا كالثلج..لولا أنه أخبرهم بذلك لما علمنا بحقيقة وفاته قبل ثلاثة أشهر ونصف من يوم دفنه...ثلاثة أشهر ونصف لم يزر فيها أشقاءه...ليس أمامك سوى الاعتراف يا مريم..في كل الأحوال لا توجد جريمة واضحة...فزوجك توفى وفاة طبيعية....بحسب التشريح...ثم أن زوجك تزوجك دون أن يخبر أحدا من أقاربه بزواجه رغم زواجكما منذ خمس سنوات...مع ذلك فكل أهل الحي يشهدون بأنه زوجك وانجبت منه طفلين..إنني لا أكاد أفهم شيئا.. فزوجك ليس غنيا..بل هو تاجر عادي جاء من قرية بولاية أخرى ليمارس التجارة هنا وتعرف عليك وتزوجك....هذا كل ما أملكه من معلومات...
في فجر ذلك اليوم سمع الناس صوتك وأنت تولولين ومع ذلك جاءوا ووجدوا الجثة مغسولة ومكفنة..كان معك رجل غريب الأطوار..شخص غريب...لم يره أهل الحي من قبل...من هو ذلك الرجل...؟ وأين اختفى بمجرد الدفن؟
مسحت دموعها وقالت وصوتها يرتعش:
قال زوجي أنه تاجر جاء ليبيت معه تلك الليلة ثم يرحلان في الصباح لرحلة تجارية..هذا كل ما أعرفه...
مسح المتحري وجهه بكامل اصابع يده اليمنى وأطفأ السجارة:
- أين قسيمة زواجك؟
ارتبكت مريم قليلا وقالت:
- في خزنة زوجي..ربما تكون هناك...لا أعلم فهو يحتفظ بكل الأوراق عنده..أنا امرأة اقرأ واكتب بصعوبة...
قبل أربعة أشهر فوجئت مريم بوفاة زوجها يوسف تاجر لم يحظ بالكثير من الذكاء والدربة لتطوير تجارته..مع ذلك فقد حافظ على مستوى متوسط من المهنية المعززة بالحرص فكفل له امكانية توفير معيشة متوسطة الحال لعائلته..لقد غادر يوسف قريته متألما من رفض فتاة الزواج منه وغادر إلى العاصمة...كان ما حدث بالنسبة له ليس جرحا عاطفيا بقدر ما هو خزي إجتماعي..فلن تقبل به أي فتاة في القرية بعد أن تم رفضه من واحدة منهن..بل أصبحت الفتيات يتحاشين الاقتراب منه وكأنه كلب نجس ... أغلق دكانه الصغير وغادر ليجد هوية جديدة لنفسه...وقضى سنواته الخمس مع زوجته الجديدة دون أن يتصل بأهله...ولولا أن الخبر وصل إليهم عبر أحد تجار العاصمة لما علموا بوفاته.
والضابط المسؤول عن التحري حول غموض الواقعة أصر على معرفة الحقيقة...أين كانت الجثة كل تلك الأشهر...كان عليه أن يجد مبررا لتفتيش منزل يوسف..فرغم كل شيء لم يتوفى الرجل نتيجة فعل جنائي...المسألة كلها مسألة اضطراب زمني...
وبعد تسريبات من مصادر مختلفة علم أن مريم ستأخذ طفليها وترحل إلى مدينة أخرى فتفتق ذهنه عن حيلة جيدة..لقد أوعز لأحد ناقلي الأثاث أن يقدم صفقة جيدة لمريم لنقله بسعر منخفض ثم يقوم الناقل بإدخال الأثاث إلى مكان بعيد عن أعين مريم ويفتشه...وبالفعل جرى التفتيش بدقة فلم يجد المفتشون شيئا.
كانت هناك حلقة مفقودة في القصة كلها...لكنه لم يجد بدا من التوقف عن البحث.
انقضت بضعة أشهر أخرى والتقت مريم بالتاجر الغريب..الذي قال لها:
- لقد مر الأمر بسلام يا مريم...
قالت:
- نعم يا أبونا...لم يشكوا في شيء..لقد نلت حضانة أبنائي والوصاية منك كجد وولي عليهم على تركتهم القليلة...أشكرك..
قال الرجل:
- لا تشكريني يا مريم....فهم ما كانوا ليعتدوا بإسلامك أبدا لو حدث بعد وفاة زوجك...لم يكن بيدك سوى أن تفعلي ذلك...ولم يكن بيدي سوى أن أزعم أنني والد زوجك..
قالت: حقا...كنت لأفعل أي شيء ولأحتمل كل عذاب في مقابل ألا يأخذوا أبنائي مني... تحملت جثة زوجي لأشهر في الديبفريزر ..هل تتخيل كم كان ذلك جنونيا..كم كان مخيفا ومرعبا....
- لقد انتهى كل شيء... نحن محكومون بالقانون...قانون صعب وخطر...وعلينا أن نمارس حقنا في الإلتفاف عليه بشتى السبل...
قالت:
- حقا يا أبونا...بعض الفوضى في هذا البلد تفيد أحيانا...سأفتح دكان زوجي وأمارس العمل..ربما لن تراني في الكنيسة لكنني سأصلي بقلبي...
قال الأب:
- صلي..صلي دائما يا مريم...فالحياة بغير الصلاة لا يمكن تحملها...
.
.
(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى