فارس محمد عمر - كهوف.. قصة قصيرة

استحالت الثواني ساعات والأيامُ أسابيعًا. زاد شغفه بخطيبته وترقبه الاقتران بها، ومعه خوف خفي. "إياك أن تحرجني مع صديقي القديم الذي هو بمنزلتي منك، واحرص على الفتاة، أتسمع؟". إنذارٌ عالٍ من أبيه وجلاميد كلمات وعواصف أصوات من خاصة أبيه. ارتفعت في نفسه حواجز، وتضخم خوف من المستقبل فيكاد يحجم لولا تعلقه بالفتاة. وتزوج الشاب بعد حين. وصار مع التي أحبها متحرجًا لا تأتيه تلقائية التعامل. زادَ من الأصفاد سكناهُ التي جُعِلت له بين بيت أبيه وبيت أبي زوجته وصديق أبيه، فكان جاثوم المراقبة لا ينقشع. عاش الشاب مذ عرف الدنيا كساكن كهفٍ عميق، حالمًا بكوةٍ توصل النور والهواء، فلفتهُ بابٌ لامعٌ اسمه الزواج لعله يهرول منه حرًا مستقلًا. لكنه اليوم يرى الباب سرابًا. فهو لم يفارق كهفه مأمورًا بحراسة كل شيء ولا ثقةً به ليتصرف في أي شيء. الإنذارات تُلقى تباعًا وحال رفيقته معه كحاله

معها. لا تذوق كلامًا ولا فعلًا ولا اختيارًا، مطبوعةٌ على الصمت والجمود والاتكال على شريك مطبوع على التلبية والخضوع. مرت الأيام وصار كلاهما مهمشًا ذليلًا أمام الآخرين، لا يجمع بينهما حديثٌ هادئٌ سلس. العشق الأول خالطته مرارة القلق، وعكرته الحيرة، وأصابه الفتور. ثم اتفق أن خرج الزوجان من الكهوف إلى أرضٍ مختلفة ودنيا غريبة كأنها كوكبٌ غير الأرض. تلاشت السدود، فانطلق شلال نفس الرجل بالأسئلة بعدما كانت تلقى عليه: "كيف أطقنا العيش في تلك الكهوف؟ كيف لم نطلعَ على ما حولنا؟ لماذا عجزنا عن السير؟". إلحاح هذه الأسئلة اختلف عن إلحاح إنذاراتهم الأولى. هذا الإلحاح عذب لأنه يصدر منه هو بيسر وعفوية، فليس له إلا اهتبال الحظ وامتطاء الفرصة فوق أوهام الحواجز إلى حقول الحرية والاختيار. وبثقةٍ لذيذةٍ مزق آثار الماضي وبقاياه في سويعات. جهر بسؤال نفسه، صارح وناقش من حوله براحة واسترسال، ثم قرر بقناعته أن يتخذ الشفقة عذرًا لسواد من حُرموا آداب وعلوم وفنون العيش الكريم ذاهلين في صراعاتٍ مع أنفسهم ومحيطهم، في حياة بلا معالم. أخذه قدره الطيب من الكهوف إلى آفاقٍ فككت مغاليق نفسه، أظهرت المعالم والمعاني، وحولت جوامد الحفظ إلى جداول الوعي. "تلك التحذيرات القديمة كانت طلاسم مجمعة، حفريات جافة ناقصة، تماثيل مشوهة" قالها في نفسه استنكارًا واستنتاجًا حازمًا. هواء الكهوف كان راكدًا، وإن تحرك ففي ذات الحيز. هام الرجل في آفاقه يمد نظره في الطبيعة الواضحة السهلة مودعًا استسلامه القديم وركام الغثاء في نفسه، مقررًا أن القصور لم يكن منه ولا من زوجه التي كانت تائهةً متوثبةً مثله فتجاوبت معه في تلك البيئة الجميلة، وشاركته تحقيق الإحساس بالحياة، وتلمس الطريق والخروج من التقوقع والسكون الى التعبير وتبادل أسباب الحياة السليمة الموصلة إلى السعادة. نصب ظهره ورفع رأسه وصدره وتنفس عميقًا. هب يصبغ بوادر شيب مبكر ليستهل بالمعاني الجميلة التي فهمها بعد عبوره عقبات ذهنه ونفسه وتربيته. تلاشى في ثوان أهم حاجز بنُي في حياته، حاجز وهميٍّ نفسيٍّ بينه وبين شريكة حياته، فاذا به يراها بعينٍ مختلفة، ويحس تجاهها إحساسًا جديدًا. وكأنما العشق القديم يتفجر كينبوعٍ غزيرٍ حلو غامر. انطلق الإنسان في كليهما، وانطلقت حواراتهما صريحةً هادئةً لذيذةً بأيد متشابكة وحياة فردين اندمجت واستقلت لتكون حياةً واحدةً متآلفةً كأنها اللحن الواحد الجميل يصدر من آلاتٍ متفقةٍ منسجمةٍ. المدقق: مريم الهلال

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى