طارق البكري - لا تسألوني ما اسمه حبيبي.. قصة قصيرة

كانت تأتي في سويعات من خيالات لا تنتهي..
تسكب فيّ أحلاماً وتمضي.. تزرع في حنايايا صفاء ونقاء.. تسطع حين ملّ الليل جفونه، والحزن دموعه.. والبحر ماءه.

كانت تأتي في أوقات عزّ زمانها ومكانها..
ترسم في أفق الوجود قصراً من رمال.. تبدعه لحناً على أوتار فرح باق رغم الفقد..
ظلت تعيش في فضاء ما.. ووقت ما.. راسخة في قلب خفوق، ينبض مع وميض ثغرها...
أيام وأيام.. كانت خليلة كل أحلامي.. سنوات على مَرِّ الحياة ومُرها، لا أعرفُ لها عداً ولا من يعدون... تقاسمتُ مع تقاسيمها كل تفاصيل وجودي.. لو ضحكتُ أضحك بطيفها المنسوج مثل رمح في خاطري.. مثل ورد.. مثل عشق متوج بوقار..
ومضينا.. حتى كادت كل الأحلام تتلاشى.. لكنها بقيت مورقة زاهية بهيّة كما هي.. كانت تصنع من تفاصيلي كل انتصارات الحياة.. كما كانت تغزل من انكساراتي وشاح قوة يشعل في نفسي قوتها.. فأعود معها منتصراً.. مع كل الخسارات.. لكنها بقيت مثل نجمة بريّة تلمع في سماء..
والحلم بعيد بعيد .. كصباح دافئ في ثلج شتاء..

________________________

وفي مساء.. والنجوم في مكانها كالعادة.. ترسم في ليالي النفس هشيماً من فرح..
أشرقت..
وهلّت كنسمة عطر سحرية.. جاءت من بعد أحلام.. توسدت قلباً.. تملكته.. وهو لها من قبل أن تشرق ذات مساء.. لم يصدق ما يرى.. لم يع للروح انطلاقاً كلحظتها..لم يع للفراغ امتلاءً كلحظتها..
تجمعت حول نفسي.. تفرّست في حقيقتها.. "ألستُ أحلم؟؟ أليس حلماً أن تتجسد الأحلام أمامناً.. لا أصدق ما أرى..".
كانت نظرات ترتجف في اللحظة مثل نور مصباح جدتي القديم.. من الفكرة.. أو من الصدمة.. ربما.
ثم توارت كنجمة خلف سحابة..

________________________

ما أبدع الأحلام حين تتراءى في جنبات حقيقتها.. ما أنبه النفس حين تتقمص الأحلام حتى تضيء في دياجير لا تنتهي.. في لحظات تفجر كل شيء..
لم يعد المكان هو المكان.. ولا الزمان هو الزمان.. هي هي.. أما أنا فلست أنا...
كانت الأفكار تترى.. تتصاعد مثل دخان مدفئة حطب في ليلة شتوية باردة...
تجمدت ألأطراف.. ابتلعت ريقي.. لكن الريق انقطع..
سمعت صوت فيروز يتراقص ويغرد من بعيد.. (كل شي بيخلص حتى الأحلام)..
ومن بعدها:
لاتسألوني ما اسمه حبيبي.. أخشى عليكم ضوعة الطـّـيوب.. والله لو بحت بأيّ حرف.. تكـدّس الليلك في الدروب.. لاتسألوني ما اسمه.. ما اسمه .. ما اسمه.. حبيبي..
ترونه في ضحكة السّواقي... في رفـّـة الفراشة اللعوب.. في البحر في تدفق المراعي.. وفي غناء كل عندليب.. في أدمع الشـّـتاء حين يبكي.. وفي عطاء الزيمة السّكوب..
محاسن لاضمـّـها كتاب.. ولا ادّعتها ريشة الأديب..
لاتسألوني ما اسمه.. كــفــاكــم.. فلن أبــوح باســمه.. حــبــيــبــي.

________________________

ومضى ليل طويل طواه ليل كما لم يطوَ من قبل.. وجاء صبح عجيب.. ولكل صباح معه عجيبة.. وتحوّلت الصباحات والمساءات، وتغيّر لون الشمس والبحر والسماء، وطعم الماء ورائحة المطر.. وتبدل ثوب القمر.. وكان لأغنية فيروز ثوب قشيب.. سمعتها من قبل ربما ألف مرة.. ولكنها ليست كتلك المرات..
كانت الأفكار متعثرة.. والأحلام متأرجحة.. وطيف الماضي لم يزل ماثلاً خلف عيون مالها عنوان.. ومضينا معاً.. في رحلة الحلم العتيق:
"من أين أتت؟؟.. لستُ أدري.. كيف احتوت المشاعر والكهوف؟ تمكنت من تعابيرها.. ليس فيها احتواء واحتراف.. كل ما فيها عجب".
"ليس للأحلام بُعد.. وهل هل فعلاً تنتهي مثل كل شيء؟؟".
"عزفت أمامي لوحات سمفونية غير مسبوقة..".
"لأول مرة أجد نفسي أتخلى عن كل أوراقي الدفينة.. أستسلم.. أرفع كل راياتي البيضاء.. بسهولة.. وحتى قبل أن أدخل المعركة..".

________________________

لم يعد أجرؤ على تخطي نفسي.. كانت أصدق من كل الأحلام..
اعترت قلبي حالة تماه.. صدّقتُ الواقع.. ونسيتُ الأحلام.. عشت لأول مرة حلمي.. لمسته بيدي، تعملق في ذاتي.. حتى كدت أصدق..
وفاتني أنّ الأحلام شيء والواقع شيء آخر مختلف تماماً عن أغنيات فيروز وقصائدها المنسوجة في الصخر..
حالة من العري الصادق لا تأتي بسهولة.. لكنها.. ربما.. تذهب مع أقل النسمات رقة..
استسلمت لمرئياتي.. كانت أحلامي صيد مشاعر، قنصاً بعيداً تماثل أمامي.. يا لهول ما أرى..
كنتُ أقول كلما استقلّت مشاعري: (لا يعرف الشوق إلا من يكابده).
فتجيب: "نصاب..لا أصدق.. لا أصدق..".
فأعود إلى فيروز ربما لأرسم من خلالها حلماً آخر.. لكنّ الأحلام باتت عصيّة..

________________________

وفجأة تبدل كل أمر.. ولم أتبدل.. تقزّمت في نفسي وقائع الأحلام؟؟ ولم تتقزم..
"لستُ أنا من يبيعك الوهم".. لم تقلها.. ومع ذلك سمعتها..
قلت بحذر: "جدر عالية.. لم تبدُ في أحلامي..".
سمعت من بعيد.. جملة مكررة أبغضها.. (الأحلام شيء والواقع شيء آخر)..
خَطفت قلبي من ورائي.. ثقبت فيه نفقاً.. لم يعد هناك حلم يجرؤ أن يقع فيه..
حملت أوراقي وصمتي.. وربما مصيبتي.. لم أتمالك حتى أن ألقي تحية.. ومن بعيد.. كمن يخشى نفسه.. كفارس سقط عن صهوة جواد في قلب معركة.. ومع ذلك لم يحرد.. فهي لم تكن كالنساء.. لم تصدق..
"لم أعرف قبلك أنثى"..
"يا نصاب".
"أنت حرون.. وفيك ما ليس بغيرك".
اكتشفتُ في نفسها أكثر مما تعرف هي.. أشياء وأشياء..
قاومت.. قاتلت كل الأحلام.. فانتصرت..
صرخت: "لا للأحلام.."..
فخرت الأحلام صريعة تحت قدميها..
لكنها لم تدسها.. هذه الأقدام لا تعرف أن تدوس من تكره، فكيف من تحب..
هي لم ترفض.. لم تعترض.. لم تستسلم..
"أنت جرئ جداً.. ومع ذلك لا أكرهك..".
"ربما مع الأيام أحبك".
عطرها طبيعي.. لا أحب كل المساحيق.. "أنت أجمل من الحلم نفسه"..
"أما زلت تحلم؟؟"..
"الحلم صديقي ورفيق دربي.. وأنت أعظم أحلامي"..
"قلت لك.. أنت نصاب..".
"هل تسمحي؟".
"بماذا؟".
"أريد أن أقبل أصابع قدميك"..
"مستحيل".
"أرجوك".
"مستحيل.. كيف.. كيف؟ لا يمكن..".
وضمت يديها إلى صدرها بدهشة.. مع أن كثراً تعرف أنهم يريدون حتى تقبيل تراب يقع من أسفل حذائها، باهظ الثمن.

________________________

كانت عندي أثمن من كل الوجود.. وكنت لها أثمن من (لثم قدم)..
قالت بحزم: "لا توجد مرة ثانية..".
اعتدت أن استجيب لها بلا نقاش..
ومضيتُ حيث لا أعود.. مضيت إلى مجهول..
إلى عالم لا يعرف كيف يحلم؟؟.. كيف يمضي؟؟..
غادرتُ بلاداً وبلاداً.. قطعت جبالاً وودياناً..
مشيت نحو الموت بقدمي هاتين..
غرزتُ في عمق أحلامي خنجرا مسموماً..
لكنها بقيت..
تصنع كل تفاصيلي.. تجعل مني قطعاً لألعابها الصغيرة..
تشعل من أنفاسي مشاعرها الرقيقة.. وترسم في مخيلتي طقوسها الفريدة..
وبقيت كل الأحلام.. تاجاً مرصعاً على هامتها.. وبقيت أنا مصلوباً على جدار مدينتها..
أخط في جوار الوتد المغروز في كفيّ الداميتين: "لا تسألوني ما اسمه حبيبي".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى