محمد الكرافس - بكاء على تلال مساء باهت!.. قصة قصيرة

وقف بسيارته الرباعية الدفع عند حنجرة الربوة المترامية الأطراف، يتأمل الأخدود الذي نحتته يد الخالق بين الهضبتين في لوحة ساحرة. تسارعت الذكريات تباعا إلى ذهن سعيد و هو يرتعش بين يدي الفقيه الفظ يتلو عليه ما حفظ من القرآن في الأمسية الماضية. تستهويه الذاكرة و هو يعيد نفس الفعل كل يوم بين يدي رجل أشيب يمسك عصا زيتون طويلة حتى لا يكلف نفسه عناء النهوض من مكانه/ فعصاه تصل إلى كل البقاع و إلى كل الأجسام الصغيرة داخل الكُتَّابِ الصغير. إما أن تحفظ و إما أن تصير مؤخرتك طبلا للعصا اللئيمة التي لا ترحم..

يتسامق شعر سعيد الرطب تحركه ريح خفيفة في رجة الذكريات ذات طفولة متفردة . يجري في طيات الماضي على سفح الجبل المخضر على الدوام. لم ير سعيد هالته الحقيقية تنبعث من جديد منذ ذاك التاريخ ، منذ كانت ترافقه زفة القمر في لياليه المتقدة .

في بركة الجدول الصغيرة تعلم أبجديات السباحة، السباحة مع التيار و ضده و لو أن قريته المغبرة ليس فيها نهر، قريته التي يتساوى فيها الناس و الدواب من فرط المصير المشترك لكليهما. المصير الوجودي لذات الإنسان في عناصر أخرى لا يمكن الاستغناء عنها مثل الماء.

قريته التي فقدت ملامحها الخصبة منذ زمن لما تناسل فيها الألم الجمعي و هجر معظم الناس المكان و لم يبق إلا خدش عريض في ذاكرة سعيد المشتتة ، تسابقه حبات البن التي كانت أمه تجلس بعد العصر لدقها في "مهراز" يسمع صداه على طول الوادي الجاف من بعيد.

طفل صغير كان ،تؤنسه حبات البن و هي تصارع فعل الطحن وهو يشاكس أمه بطلبات لا تنتهي:

- أمي، أريد بعض حبات البن لأزرعها .

تضحك الأم حتى تغرورق عيناها بالدموع و تجيبه:

- أيها العفريت، خذ جرب هذه..

و بعد هذه العودة المنفلتة من قبضة الزمن، هل نبتت حبات البن؟

رسمت تقاسيم وجهه جرأة سبع في العودة إلى هذا القفر بعدما استحالت الحياة على البشر و الدواب معا و نضبت منابع الماء. سعيد هو عفريت القرية الذي كان يخرج عند الظهيرة لما يشتد القيظ،، ينزل إلى البساتين العريضة لينعم بالبرودة النادرة في هذه البقعة الساخنة من الكون. تلك كانت سنون الخير لما كان الماء يسيل بكرم حاتمي إلى الواحة العطشى على الدوام.

وذات عام ثمانيني وصلت قمة الجفاف إلى أفواه الأسرة بعدما نفقت الماشية و تيبست الذرة و الزرع،

و نضب الماء في هذا الخلاء المقفر الذي لا سبيل فيه إلى البقاء دون شريان الوجود . تجمعت الأسرة على قدرها . حزمت جوعها و أنفاسها اللاهثة ، وتراءت أمام سعيد أحلامه الصغيرة تتهاوى تباعا في لحظة انهزام شرسة وقاسية أمام الطبيعة القاحلة.

جمعت الأم أثاث المنزل المتواضع و في الصباح كان الكل مرميا في سيارة " بيك آب" تلفهم غابة من الغبار المتطاير و كل ما تركوه وراءهم جزء كبير من ذاكرتهم و كلب أرقط يقف فوق جدار ترابي يستفسرهم بوقوفه عن سر هذا الهروب الجريح.

ست وعشرون سنة مرت على الفراق الأليم، مساحة فضفاضة لاسترجاع أنفاس ذكريات تائهة في الزمن.

تحول فيها المنزل القديم إلى حقل برسيم شاسع يستغله العم بعدما رجع الماء من جديد.. رغم ذلك انمحى كل شيء..اختفت الغرفتان و السور الترابي ،لم تصمد في هذه الجدارية المؤلمة سوى شجيرات الزيتون و التين و الرمان التي لا زالت تؤرخ لمرور سعيد و أسرته ذات حياة من هنا.

أحس بذاته تلقي بظلالها على رعشة المكان من جديد، تذكر نفيسة و هما طفلان يرسمان خريطة البداية في الحياة ، رآها ، رأته .. التقت المقل في لغة فنطاستيكية أتكون هي؟ لم تتزوج بعد ؟.. لا زالت صامدة تعاتب غيابه السحيق من جداريتها منذ لعبا "عروسة و عريس" في البستان المنقرض.

لم تغير السنون من نضارتها شيئا .. الثغر الباسم اتسع قليلا ، صار ثغر فتاة ناضجة . تذكر كيف كان يسافر الاثنان معا في لهو الصبيان بلا حد أو فاصل مثلما تصيدته ظروف الحظ ليعلن و عائلته الهروب إلى المجهول.

الآن عاد سعيد..عاد بعلبته السوداء في جيبه بعد بحث مضن.. لف فيه الدنيا ، ركب الطائرات و البواخر و التقى بأصناف البشر.لا شيء يرضي كبرياءه أكثر من العودة إلى مسقط رأسه ، حيث يخبئ له القدر بسمة فاترة لذكريات لا تنمحي بسهولة، و حتى بعد اختفاء المنزل بقيت الأطلال صامدة . البركة الجافة صارت حفرة و الأسوار قد دكت على الأرض دكا.

يقف سعيد مشدوها من الزمن المتسمر في ذاته، لا يبرح أنسه الخاطف.. ما الذي تغير في سعيد؟ كبر بعض الشيء، نبتت له لحية و شارب، أما نفيسة فكل شيء تغير فيها ، نبت لها كل شيء و صارت أكثر أنوثة من المرة الأخيرة التي رآها فيها...

سيعود من حيث أتى، لا حياة له في المدينة فحياته هنا، ضمن طفولته التي نبتت هي الأخرى هنا.. رغم أنه جاب العالم بأسره ، لم يرقد له جفن وهو يتذكر الخطوات المبعثرة التي كان يرسمها على الثرى ، صبيا يجري وراء الدواب و وراء نفيسة..

أخذ خيمته الصيفية و نصبها، دق الأوتاد وأعلن عن انبعاث حياته من جديد..أعلن عن انبعاث طائر الفينيق من جعبة السنين الماضية في أرض تعبق برائحة مروره فوقها ذات طفولة غابرة..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى