أمل الكردفاني/ رجل تزوج نفسه_مسرحية قصيرة

رجل تزوج نفسه-مسرحية قصيرة

✍ *_أمل الكردفاني_*

المنظر:
غرفة نوم ... على الأرض أمام السرير حقيبتا سفر واحدة صغيرة فوق واحدة متوسطة الحجم.. وتحت السرير قارورة ماء..علب واعقاب سجائر وزجاجات جعة خضراء وبعض الكتب والأوراق وفردتا حذاء إحداهما قرب دولاب على اليسار والأخرى في مواجهة الجمهور وهي مقلوبة... أكياس حاجيات بلاستيكية وأطباق طعام على الطاولة ومذياع .. مقعدين من القماش السماوي المحشو بالاسفنج قرب باب على اليمين يفضي إلى صالة خفيفة الإضاءة. ولا توجد نوافذ للغرفة ولكن هناك بروز طفيف لمربع على الحائط كما لو كان نافذة تم سدها بالطوب والأسمنت...
يدخل رجل خمسيني ذوبشرة بنية محروقة ، شبه أصلع بكرش صغيرة...ويحمل مغلفا مستطيلا طويلا على يده اليسرى وتخرج من آخر المغلف أقدام حديدية أربعة محمية ببلاستيك أسود..يقطع الغرفة من اليمين إلى اليسار حيث يوكئ المغلف بحرص على الدولاب..ثم يبصر فردة الحذاء قرب الدولاب فيركلها إلى الداخل بسخط...يتجه من يسار الغرفة ليمينها ويجلس على المقعد الاسفنجي...والتعب والإرهاق يعتري ملامحه....يتنفس بصعوبة... يُخرج علبة سجائر رخيص ويدخن...يمسح جفنيه بأصابع يده اليمنى ويده اليسرى ممسكة بالسجارة..ثم ينقل السجارة إلى أصابع يده اليمنى..يخرج من جيب قميصه المهلهل منديلا يمسح به الصلعة والشعر القليل على الجانبين ثم يعيده إلى الجيب... يعيد رأسه إلى الخلف ويغمض عينيه بألم ويتأوه...يعود ويدخن سجارته ويتراخى جسده...يرن جرس هاتفه فيفتحه ويصمت..يأتي صوت أنثوى من الهاتف:
- ألو...ألو...ألو... يا أسعد
أسعد: (ينفث دخان السجارة في الهواء ويرد بجفاف)
- نعم؟
المرأة: لماذا لم ترد بسرعة...
أسعد: (ببرود) الآن رددت...
المرأة: هذا هو الاتصال العاشر ولا ترد...
أسعد: أعتقد أنك استلمت ورقة الطلاق اليوم...ولا يوجد شيء بيننا فلا تمارسي عمل العاهرات...
المرأة:(بغضب) أيها الصعلوك...أنك لا تست...
(يغلق الهاتف)
(يرمي السجارة ويسحقها بكعب حذائه ثم يٌرجع رأسه إلى الوراء متكأ على مقعده ويحاول الإغفاء مبتلعا غصة)
(يرن الهاتف عدة مرات..فيتركه على المقعد ثم ينهض متجها إلى السرير وينام عليه بملابسه وحذائه)..
(يظلم المسرح)..
يضيء المسرح وأسعد جالس على طرف السرير.
اسعد: (يتثاءب ثم ينظر لساعة يده) كم الساعة الآن...لم أغفو سوى ساعة ونصف...مع ذلك أشعر ببعض الراحة...(ينحني ويرفع قارورة الماء ويغسل وجهه...يُخرج علبة السجائر من جيب بنطلونه ويشعلها ويدخن)...
أسعد: نفدت البيرة...نسيت أن أشتري كرتونة كاملة...زاد سعرها قليلا ولكن لا بأس...
(يتجه نحو الكرسي الذي كان عليه سابقا فيرفع هاتفه ويجلس ثم ينظر إلى شاشة الهاتف)...
أسعد: عشر اتصالات منها..ماذا تريد هذه المجنونة...ها..اتصال من ربيع...هل اتصل به؟ لا أعرف إن كانت نفسياتي تتحمل الكلام مع أحد...سأجرب..
(يجري اتصالا)
ربيع: اتصلت بك مرتين ولم ترد..
أسعد: كنت نائماً...
ربيع: جيد..النوم مفيد...لا أعرف كيف تنام بكل هذه السهولة يا صديقي..إنني اتقلب ساعات في الفراش قبل أن انام..
أسعد: لن تحسدني على ذلك فهذه هي النعمة الوحيدة التي تبقت لي...
ربيع: هل أنت موجود في المنزل الآن لدي خبر أفضل أن أخبرك به مباشرة...
أسعد: متوفر ولكن غير متوفر في نفس الوقت..
ربيع: لم أفهم...
(يَخرج أسعد من الباب الأيمن ولكن يظل صوت حواره واضحا للجمهور...)
أسعد: نفسياتي لا تتحمل لقاء أحد..افضل ان نستمر في الحديث عبر الهاتف...
(يسمع صوت تدفق ماء)..
ربيع: ماذا تفعل ..أسمع صوتاً غريباً.؟
أسعد: إنني اتبول...بعدها سأذهب لإعداد قهوة...
ربيع: حسن..الخبر هو أنني سأخطب بعد يومين..لقد أعددت كل شيء فالخطوبة ستكون روتينية ولفترة وجيزة عملاً بالتقاليد ولكن الزواج لن يتأخر أكثر من شهر...
أسعد: مبروك...
ربيع: لماذا تقولها ببرود هكذا...
أسعد: لأنني أنهيت اليوم التجربة الثالثة لي ... والحق يقال أنها ليست شيئا مفرحاً غير أنني لا أريد إحباطك...مبروك على أي حال..
ربيع: كان من المفترض أن اتزوج منذ وقت طويل..أليس كذلك...
اسعد: نعم..
ربيع: لكنك تعرف ظروف العمل السياسي وانشغالي مع الحزب ومشاكل الحكومة...
أسعد: ولماذا قررت الآن أن تكسر الحاجز...
(يصدر صوت جلجلة ملعقة في كوب)
ربيع: لا أعرف...ربما أمي... أمي بكت وهي تطلب مني الزواج...قالت بأنها لا تريد أن تموت دون أن ترى أحفادها..
اسعد: وماذا استفادت من رؤيتها لك أنت ابنها طوال هذه السنين؟
(يدخل أسعد وهو يحمل فنجان القهوة بيمينه)
ربيع: لا أعرف ماذا تقصد؟
أسعد: إنسَ الأمر يا صديقي...إنني أسأل اسئلة غريبة بعض الأحيان دون وعي مني...
ربيع: لستُ غبياً وأعرف موقفك المادي هذا...
أسعد: ليس مادياً بل واقعيٌ...
ربيع: المشاعر واقع أيضاً...
أسعد: فلنترك الجدل جانبا.. فأنا انصحك أن تقضي وقتا أطول وأنت في فترة الخطوبة..لا تتعجل يا صديقي...
ربيع: ولماذا؟
- حتى تعرف حقيقة خطيبتك وطبائعها...
ربيع: ومتى كان بامكاننا اكتشاف حقيقة المرأة..ربما ندخل قبورنا دون أن نفهم عنهن شيئا...
أسعد: صدقت...لكن على الأقل أسرة المرأة...أسرتها أهم منها... فهم من سيؤثرون عليها في مقبل أيامكما...لقد كانت هذه مشكلة زواجي الأول...
ربيع: وماهي مشكلة زواجك الثاني والثالث؟
أسعد: نفس الأمر يا صديقي..نفس الأمر...النساء يتأثرن بكل ما يقال لهن..يمكنها أن تذهب لزيارة خالتها وهي سعيدة ثم تعود لك بوجه آخر لا تعرف سببه...وتخاطبك بكلمات لم تسمعها منها من قبل...ثم تبني حكماً نهائيا حاسما لا يقبل الاستئناف بناء على قصص في خيالها أوهموها بها...لذلك عليك أن تتريث في فترة الخطوبة وأن تدرس ساحة المعركة جيدا قبل الإقدام على المجازفة الأخيرة..
ربيع: لقد أخفتني حقا...
أسعد: لا أريد اخافتك..ولكنني أتحدث إليك من خلال تجربتي..ربما تكون أكثر حظا مني..في النهاية يجب عليك أن تخوض هذه التجربة التعيسة...
ربيع: إن خطيبتي تحبني كما..كما أنها جميلة...
أسعد: نعم يا صديقي..هكذا كن كلهن في نظري دائما قبل الزواج...
ربيع: اللعنة...ألا تمنحني بعض الطمأنينة..
أسعد: سأمنحك بعض الطمأنينة..ألا ترى أن نسبة الزيجات التي استمرت أكبر من حالات الطلاق من حولك؟
ربيع: (بغبطة) حقاً يا صديقي وهذا شيء مطمئن فالزيجات التعيسة مجرد استثناء..
أسعد: صحيح...فكل مافي الأمر أن الزيجات التي لا زالت مستمرة حتى الآن هي التي يمارس فيها الزوجان ضغطا مستمرا على نفسيهما ليمنعا الطلاق من أجل أشياء كثيرة كالأولاد أو المظهر الاجتماعي...
ربيع: يا إلهي..كم هذا مفزع...
أسعد: ليس مفزعا..لكن الأمر كله متوقف على فهمنا لقيام شخصين بإجبار نفسيهما على البقاء تحت سقف واحد طوال حياتهما وحتى الموت..الفكرة من أساسها سخيفة وغير معقولة..لكنها هكذا وصلت إلينا وانتشرت وأمتلكت حقيقتها في نفوسنا...لكن لماذا؟ هذا هو الشيء الذي لا إجابة له..
ربيع: تكوين الأسرة..الاستقرار...؟
أسعد: ربما...مع ذلك فكل شيء يتحول لتراجيديا .. فحتى في الزيجات الناجحة يكون المرء قد تنازل عن حقه في خوض تجارب جديدة في الحياة...إنه يستسلم لفرضية واحدة لا برهان لها سوى الاعتقاد..
ربيع: لا أريد أن أقسو في كلامي عليك...ولكن...
أسعد: أعرف .. أعرف... لا يا صديقي .. ليس هذا بسبب تجاربي الثلاث الفاشلة..على العكس..فهذه التجارب أعطتني خبرة وليس حقداً على مؤسسة الزواج..بتُّ أفهم الحقيقة...والحقيقة أنك يجب أن تتزوج ولكن ليس على سبيل التأبيد بل التأقيت...تزوج وانت تتوقع ألا يستمر الأمر طويلا وأن تستعد لانهاء اللعبة في أي لحظة تشعر فيها بأنها باتت مملة وتستلب حياتك الخاصة..حريتك في اللعب...وفي تجديد اكتشاف الحياة...مع ذلك فهناك أشخاص لا يحبون المقامرة.. هؤلاء يفضلون قمع ما تبقى من فرص الحياة والاستغناء عن متعة الاكتشاف مقابل الاستقرار المسالم على وضع واحد...
ربيع: أنا افضل الاستقرار المسالم هذا؟
أسعد: إذاً..فتهاني لك يا صديقي إذا كان الاستقرار يفضلك بدوره...
ربيع: يا لك من متشائم...
أسعد: لست متشائماُ .. فاليوم مثلاً تزوجت...
ربيع:(بدهشة) تزوجت..؟!!! متى.. وكيف؟!!!
أسعد: هكذا.. لقد تزوجت نفسي..
ربيع: لم أفهم...
أسعد: دعني أشغل لك كاميرا الجوال.. نعم هكذا... هل تراني جيداً...
ربيع: نعم أراك جيدا..ولكن ماذا تقصد بحق السماء... لا تصور لي أشياء إباحية تمارسها مع نفسك فهذه المشاهد تقززني بل ..بل وترعبني..
أسعد: لا يا أحمق... شاهد..
(ينهض من كرسيه ويتجه نحو الدولاب..يفض الأوراق التي تغلف المرآة ذات القاعدة الحديدية...يوقف المرآة على أقدامها الأربعة وهو جالس على الكرسي يحدق في انعكاس صورته عليها)
أسعد: هل ترى... أنا الآن أتزوج نفسي...المرآة أمامي وأنا أرى نفسي...كل يوم سأجلس أمام المرآة وأتحدث إلى نفسي.. إن الزواج ليس أكثر من هذا على فكرة...لا تعتقد أن الجنس هو الأساس بل المسامرة وقتل الصمت...كائنٌ آخر... يوهمك خيالك بأنه سيكون رحيماً بك.. عطوفاً عليك.. تعتمد عليه عندما تمرض أو تصاب بأزمات...لكن يا صديقي...صدقني ليس هذا ما يحدث.. ما يحدث أن صورتي على هذه المرآة تفعل أكثر مما يفعل الزواج..صورتي على هذه المرآة تحقق توقعاتي تماماً..أما توقعات الزواج فتخيب كلها...
ربيع: أنت تتجه إلى الجنون...
أسعد: خض التجربة بالأول ثم عد وتذكر ما قلته لك...لا يمكن لشخص له كينونته وكيانه..ذاتيته أن يندمج بالآخر اندماجا كليا فهذا وهم...المسألة هي فقط تقديم تنازلات بشكل مستمر... إنك تتنازل عن كينونتك شيئا فشيئا لكي تجعل زواجك ناجحا...في الواقع .. أنت تخوض معركة حول السلطة والقيادة والسيطرة بشكل مستمر...هذا طبيعي فحتى شركاء الزنزانة الواحدة والمحكوم عليهم بالتأبيدة لا يتحملون بعضهم البعض...رغم أنهم لا يملكون ما يكسر حاجز مللهم سوى وجود بعضهم إلى جانب بعض...
ربيع: يا لك من رجل قاس... إنني أجد ذلك مبررا كافيا لطلاق زوجاتك منك..
أسعد: ما أقوله هو الحقيقة وليس قسوة.. حقيقة ننكرها لأننا لا نعيها فقط.. أنظر مثلا عندما يتوفى أحد الزوجين.. ستجد الآخر حزينا..ولكن دعني أصدقك القول..بعد بضعة أسابيع يتحول الحزن لشعور بالحرية..بل وبالرغبة في خوض تجربة أخرى أكثر جنونا وتشويقاً..وهم الاندماج يتبخر في الهواء وتعود كينونة المرء لتكمل ما نقص منها نتيجة التنازلات المستمرة السابقة فتبحث عن فيلم آكشن جديد..يحرك نبضات القلب التي سكنت بسبب الاستسلام الطويل...
ربيع: أيها الشيطان...لقد بددت فرحتي بالخطوبة والزواج...
أسعد: بل على العكس.. عليك أن تفرح كثيراً كثيراً.. افرح بخوض التجربة ولكن لا تتوقع الكثير منها إلا إن قررت منذ الآن أن تقدم من التنازلات ما يمحو كينونتك...
ربيع: بل سأتوقع الكثير.. ولا أسميها تنازلات بل حصصاً أقدمها لزوجتي حبيبتي وهي أيضا ستقدم لي حصصها لتكوين أسرة دافئة تنعم بالهدوء والاستقرار...
أسعد: هذا جيد.. والآن دعني أنفرد مع نفسي أمام المرآة فبيننا حديث طويل...
ربيع: (يقهقه) إلى اللقاء أيها المجنون...
(يغلق أسعد الهاتف ويلقي به في السرير بغير اكتراث...يثبت المرآة أمامه وهو جالس على الكرسي ويتأمل صورته المنعكسة قليلا.. يغير وضع جلسته قليلا ويتأمل صورته.. ثم يصلح من شعره القليل على جنبتي جممته ويتأمل صورته...يبتسم)
أسعد: أهلا بزوجتي العزيزة..أو زوجي.. زوجتي ..لا لا ... فلتكن زوجتي..حسناً..لا بأس بذلك...
(يخرج سجارة ويشعلها ويدخن بصمت)
(يظلم المسرح)...
..


(يضيء المسرح عن نفس المنظر السابق)
أسعد: مساء الخير عزيزتي...ها قد حل المساء...أعرف أن الغرفة خانقة قليلا ذلك أن زوجتي الأخيرة كانت مصابة بفوبيا النوافذ فأغلقت النافذة الوحيدة في هذه الغرفة (يوجه المرآة نحو الحائط حيث مكان النافذة المسدود ثم يعيدها لتواجهه)...لا أريد أن أحدثك عن الماضي ولا أرغب في أن تخبريني عن ماضيك ..مافات مات (يقهقه)..مع ذلك فزوجتي أو طليقتي على الأصح كانت تخاف من ظلام زجاج النافذة في المساء...ورغم أنني ركبت ستارة تغطي النافذة إلا أنها ظلت تتحدث عن خوفها من الأشباح التي يمكن أن تنفذ من النافذة إلى الغرفة..إنني أخبرك بذلك لتعلمي كم عانيت من النساء .. ليست زوجتي الأخيرة من كانت لديها وحدها إضطرابات من هذا النوع فتقريبا كانت الأخريتان أيضاً كذلك..الأولى مثلا كانت تعاني من وسواس النظافة...والثانية عكسها تماما بل أنها كانت تعاني من رؤية باب الحمام مفتوحا وكأنما ستخرج منه الشياطين..لقد اكتشفت من خلال تجاربي أن قفلك مع شخص آخر في مكان واحد يكشف لك عن اضطرابات عميقة في شخصيته..لا أنزه نفسي فبالتأكيد اكتشفَتِ النسوة الثلاث سلبياتي كلها..فأنا مثلا فوضوي..ربما لأنك لا ترين كل أبعاد الغرفة ..مع ذلك فلو وصفتها لك ستعرفي كم الفوضى الذي ينبع من جيناتي...لكن..لا يعني هذا أنني مشتت الذهن..بالعكس تماما...فأنا أحفظ هذه الفوضى عن ظهر قلب...دعيني يا عزيزتي أعطك مثالاً قاطعا بذلك... فمثلا..ماذا لو قلت لك أن تحت هذا الكرسي يوجد قلم الحبر غالي الثمن الذي أهداه لي شخص ما...ها..؟.. لا تصدقينني..حسن...(ينحني ويخرج قلم الحبر من تحت المقعد) .. هل صدقتني الآن..(يضحك)..النسوة كن يظنني فوضويا..لكنهن لا يعلمون أن هذه الفوضى منظمة في عقلي...بل أن هذه الغرفة لو ترتبت وتنظمت فسوف أصاب بتشوش كبير...طبعا هذا إلا إذا كنت أنا من نظمها ورتبها وليس شخصا آخر...(يشعل سجارة)..هل يضايقك السجار؟.. لا ... حسنٌ...لقد دخنت كثيرا هذا اليوم..لمذا أدخن كثيرا؟ سؤالك هذا سؤال صعب فأنا نفسي لا أجد له إجابة حاسمة....مع ذلك دعيني أحاول...سأقول كلمة واحدة لاختصار عشرات الجمل..إنها كلمة "الخيبات"..نعم الخيبات...الخيبات التي لازمتني طيلة حياتي..لا تسأليني عن علاقة السجائر بذلك فجل ما أعرفه أن التدخين يغطي داخلي فجوة شعورية ما...أشعر دوما بنقص يعتريني...ليس عقدة النقص فهذه موجودة بوفرة عندي ولكني أقصد النقص الذي يتعلق بالحياة..الحياة التي لا يمكن إشباعي منها...والحب أيضا..الحب الذي خسرته قبل زواجي الأول والذي دفعني لتلك الزيجات الثلاث الفاشلة...(يطفئ السجارة) ثم إبني الوحيد المعاق..لقد خرج إلى العالم دون أن يعي فيه شيئا إنه منغولي..أبله.. لا يملك ذكاء دودة...ومن ثم فهو داخل هذا الوجود بلا أي فائدة...أتذكر رواية لكاتب ياباني عانى من ذات هذه الخيبة في حياته وهي خيبة تلازمك طيلة العمر لأنك ستظل تشاهد انتاجك لكائن لا معنى له في هذا العالم...آه إنه الروائي كينزابورو أوي...وأنا وغيري ممن يعانون وحدنا من نعرف كم الألم من ذلك...لكن دعينا يا عزيزتي من هذه التراجيديا ولنحتفل بعيد زواجنا الأول...لا بالطبع لم نكمل سنة.. بل بضعة أشهر فقط..ربما ثلاثة أو أربعة أشهر..لكنني أشعر يومياً بأنك أفضل من عاشرتهن من الزوجات... لا .. دعيني أقول لك بأنك أفضل حتى من جميع أصدقائي...إنك الزوجة الصالحة التي يتمناها أي رجل.. ولو كنت شاعرا أو رساما لكنت قد كتبت آلاف القصائد ورسمت مثلها لوحات رائعة وأنت توفرين كل هذا الجو من الهدوء والسكينة.. والأهم ...الاستماع لي بأذنين مصغيتين دون كلل ولا ملل..في الواقع لم أجد زوجة واحدة كانت تجيد الإصغاء... كُنًّ دوما يتحدثن هن فقط...يتكلمن دون توقف... ما كان بالإمكان مناقشة أية مشكلة بحوار عقلاني.. لا .. فالمرأة لا يمكنها أبدا أن تعترف بأنها مخطئة... إنها تصدر حكمها فقط بانطباعها البدائي ولا يمكن لكائن من كان أن يستأنف هذا الحكم...لكنكِ دونا عن كل من سبقنك..تجيدين الإصغاء.. تجيدين فن الاستماع .. وفوق هذا فأنت لا تخطئين أبدا أبدا....لا أعرف يا عزيزتي لماذا لم أتزوجك منذ البداية..لماذا أضعت عمري مع كائنات مفارقة لي .. لا يوجد بيني وبينهن أي نقاط التقاء...والغريب أن الجنس لم يكن هدفي يوما ما.. بل الراحة النفسية...عندما تزوجت أول مرة كنت أحلم بتكوين أسرة تنعم بالدفء والحنان..ولكن على العكس من ذلك.. لقد أنجبت فوراً ابناً معاقا وزوجة مصابة بالوسواس والقلق والتوتر...قررت بعدها أنني لن أُنجب مرة أخرى...(يضحك).. كنت أذوِّب أقراص منع الحمل في أي شراب للزوجات الثلاث حتى لا ينجبن...اكتشفت أخيراً أنهن كن يعرفن ذلك وأنهن كن يبتلعن أقراصاً أخرى مباشرة دون انتظار مفعول أقراصي ودون إخباري...ويبدو أن هذا كان الشيء الوحيد المشترك بيننا وهو عدم الرغبة في الإنجاب...وربما وبعد بضع سنوات أخرى وبعد تطور البشرية فسيكون عدم الإنجاب من علامات الرُّقي والتحضر...إنني أراه كذلك بالفعل...علينا أن نكون أكثر شعورا بالمسؤولية عندما نتخذ قرارَ إخراج كائن لهذا العالم السخيف...أنا كعقلاني لم أجد حكمة سائغة عقلا لهذه النزعة نحو الانجاب لدى الكائنات الحية سوى بقاء النوع..وأعتقد أننا كبشر يجب أن نفقد هذه الغريزة غير المهمة إذا تطورنا كما فقدنا الذيل ووظيفة الزائدة الدودية عبر التطور..أما باقي المبررات التي يطلقونها فهي في الواقع دليل على الأنانية المفرطة لدى بشر لا زالوا عالقين في العاطفة العمياء...
.
.
(نفس المنظر)
(يرن جرس الهاتف..يرفع أسعد الهاتف ويتلقى المكالمة)
أسعد: آلو...صديقتي العزيزة سوسن..
سوسن: (يأت صوتها بارداً) أهلا أسعد..هل سمعت بما حدث لصديقك ربيع...
أسعد: (بانزعاج طفيف) ماذا حدث له؟
سوسن: لقد طلق زوجته...
أسعد: (يصمت قليلاً) .. آه... إنهما لم يكملا السنة...
سوسن: بمجرد أن أنجبا طفلتهما الأولى حتى تفرعنت عليه...تحولت لكائن متوحش...هكذا قال لي...
أسعد: هذا طبيعي...
سوسن: (بغضب) كيف يكون طبيعياً يا أسعد...؟
أسعد: لقد تزوجَتْ وأنجَبتْ وهكذا أنجزت استحقاقات المجتمع..وهي الآن تريد أن تكون حرة...
سوسن: والمسؤولية يا أسعد...مسؤولية الأسرة..زوجها والطفل...؟
أسعد: في الواقع المسؤولية عبر قتل رغبتنا في الحرية والتجديد هو بغي وعدوان على أنفسنا..عدوان غير مبرر.. ستحصل هي على حريتها ..ويمكن لربيع أن يتزوج امرأة أخرى أو يتخذ عشيقة إن استطاع..والواقع أنا أفضل أن يفعل مثلي ويتزوج نفسه...
سوسن: تزوجت نفسك؟ .. يبدو أنك أصبت بالجنون...هكذا يفعل النسوة بالرجال...
أسعد: على العكس تماماً..صحيح أن طليقاتي الثلاث كن شريرات أو حمقاوات على نحو ما..لكنني لا ألومهن على شيء..إنني ألوم نفسي على إضاعة سِنيِّ عمري في وهم ما يسمى بالزواج.. عُشٌّ عصافير الحب الدافئ..(يقهقه)..أنتِ نفسك يا سوسن تعانين في زواجك..
سوسن: (بغضب) غيرُ صحيح..
أسعد: بل صحيح...وانت تعرفين ذلك... كم رجلاً أحببتِ بعد الزواج؟...
سوسن: (بجزع) لم...
أسعد: لا تنكري..لا تنكري أنكِ أحببتِ رجلا واحداُ على الأقل بعد الزواج لكنك تكتمين مشاعرك إحتراما لقيم المجتمع ووهم المؤسسة الزوجية...تتحججين أمام نفسك بالاولاد .. وتقمعين مشاعرك باستمرار بسبب هذه المصيدة التي أسموها زواجاً...
سوسن: (ترتبك)..أنا..أنا...
أسعد: لا تقولي شيئاً فأنا لا أحتاج لإجابتك بل أنتِ من يحتاج لهذه الإجابة...
سوسن: معذرة..مضطرة لإغلاق الخط..إلى اللقاء...
أسعد: إلى اللقاء...(يغلق الخط وينظر للمرآة) ها قد عدنا يا زوجتي الحبيبة...
(يرن الهاتف فيتلقى المكالمة..يأتي صوت بكاء سوسن)
أسعد: (بحنان) حسنٌ..لا تبكِ يا عزيزتي... أعلم أنك تشعرين بأنك خائنة وآثمة...ولكن هذا غير صحيح.. إن الخيانة الوحيدة التي اقترفتها هي خيانة نفسك..خيانة رغباتك...خيانة عاطفتك البشرية الطبيعية...
سوسن: (من بين دموعها) ولكن..ولكنني أشعر بأنني قذرة جداً...لا يمكنني التخلص من هذا الشعور...خاصة عندما أشاهد زوجي وأبنائي...

أسعد: طبيعي.. هذا شعور طبيعي...فمغادرة سجن الثقافة التي تربينا عليها أصعب من مغادرة مجرتنا...لكنه ليس مستحيلاً...
سوسن: أنا مشوشة جداً..
أسعد: هذا طبيعي أيضاُ... لكن عليك فقط أن تكوني صادقة مع نفسك...ليس بالضرورة أن تطلبي الطلاق أو تبغضي زوجك..ولكن عليك فقط أن تكوني صادقة مع نفسك..أن تقولي نعم أحببت رجلاً آخرَ لكنني في نفس الوقت لن أستطيع خيانة زوجي جسديا...سأخونه فقط في عقلي..في داخلي...في قلبي فقط..وهذا من حقي...مادمت سأضحي برغباتي على أرض الواقع حماية للتقاليد ولمؤسسة الزواج الزائفة...
سوسن: (تبكي) سأفعل سأفعل...
أسعد: حسنٌ يا عزيزتي...كوني قوية دائما..ولن تكوني كذلك إلا بأن تكوني عقلانية لتعي ذاتك قبل أي شيء آخر.. إلى اللقاء...
سوسن: إلى اللقاء...
أسعد: (يغلق الهاتف) ها قد عدت لك يا زوجتي العزيزة...
صوت أنثوي من المرآة: ألم تملًّ من ذلك يا زوجي الحبيب؟
أسعد: (يرمي هاتفه ويقفز فوق المقعد بذعر) ما هذا... (يتلفت يميناً ويساراً).. ما هذا الصوت؟
صوت المرآة: ألا تعرف صوت زوجتك يا حبيبي...
اسعد: (بفزع) أي صوت... أي صوت.. زوجتي من؟..
صوت المرآة: نفسك التي تزوجتها... التي تحدثها ليل نهار منذ أكثر من سنة ... كيف لك أن تنسى بهذه السرعة...
أسعد: (يقفز مبتعداً عن الكرسي ويتجه إلى الناحية اليُسرى)..هذا ليس حقيقياً..ليس حقيقياً بالمرة...يبدو أنني أصبت باضطراب الفصام؟ ..
صوت المرآة: إهدأ قليلا يا عزيزي..اهدأ قليلا... أنا زوجتك...حبيبتك... نفسك...
أسعد: (يصيح)..هذا غير صحيح...لا يمكن أن يكون صحيحاً...
(يهرول عائدا إلى الجهة اليمنى ويرفع هاتفه ويُجري اتصالاً) ..
أسعد: ربيع...انقذني يا ربيع...
ربيع: ماذا هنالك يا أسعد...
اسعد: إنني أسمع أصواتاً .. أسمع أصواتا تخيفني...
ربيع: أين تسمع هذه الأصوات...
(يصدر صوت ضحكات رنانة من المرآة فيتجمد أسعد في مكانه)
أسعد: هل تسمع ذلك.. هل تسمع ذلك...؟!!!
ربيع: أسمع ماذا؟ يا إلهي .. يبدو أن خطبا ما قد أصابك...
أسعد: (يصيح بغضب مشوب بالخوف) صوت زوجتي... هل أنت أصم....إنها أصوات ضحكات زوجتي...
ربيع: ولكن..ولكن أي زوجاتك..إنك غير متزوج...
أسعد: صوت نفسي..صوت زوجتي التي هي نفسي..ألا تسمع هذه الضحكات الساخرة التي تجلجل في المكان؟..
ربيع: يا إلهي...كنت أعتقد أن طلاقي مصيبة يبدو أن الإنسان حتى لو تزوج بنفسه فسوف لن يعيش بسلام أبداً...
(تظل ضحكات المرآة تجلجلُ في الغرفة)
أسعد: اللعنة .. توقفي أيتها المرآة...انقذني يا ربيع..انقذني أرجوك...
ربيع: حطم هذه المرآة...حطم هذا الهراء...
(تستمر الضحكات .. يحمل أسعد المرآة ويضربها بالأرض فتتكسر وتختفي الضحكات)..
ربيع: هل توقفتِ الأصوات؟.. ها.. هل توقفت؟
أسعد: (يتنفس الصعداء ويهدأ) نعم يا صديقي....توقفت...
(صمت لبرهة)
ربيع: يبدو أن هذا هو إذاً طلاقك الرابع يا صديقي...
أسعد: نعم يا صديقي...يبدو كذلك...
(ينفجر الرجلان في الضحك ويستمران كذلك حتى إستدال الستار)

(ستار)

.
.
(النهاية)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى