د. عادل الأسطة - أنا والجامعة 16 : دقات الباب الثلاثة

من أمثالنا الشعبية مثل يلوم الذي يتدخل بين البصلة وقشرتها ، إذ ليس ينوبه إلا دمعتها ، ولكن ماذا إذا تمسح العالم وصرت " أنا أبكي بالقلب " على رأي مظفر النواب ؟
بكى مظفر النواب بالقلب ؛ " لأن الثورة يزنى فيها " ، وصارت حكايتي مثل الثورة يلغوص فيها من هب ودب ، دون أن أنشد مساعدة من أحد ، ودون أن أطلب من أي شخص أو أي طرف أن يتدخل فيها .
قبل أن أسافر إلى ألمانيا كنت ألتقي أحيانا قليلة برئيس الجامعة الدكتور منذر صلاح في منزل أقاربه الذين ربطتني بهم علاقة نسب . أسلم عليه ، إن التقيت به ، ولا آتي على سيرة الجامعة ولا أنشد مساعدة في بعثة ، وقد سافرت وهو رئيس جامعة ، إن لم تخني الذاكرة ، أو أنه كان تركها بسبب عدم تجديد سلطات الاحتلال التصريح الذي تصدره له .
في ألمانيا لم تتواصل علاقتي الأسرية ، فقد قررت الانفصال عن المرأة التي ارتبطت بها وارتأيت أن أواصل الدراسة وحيدا ، وهذا ما كان ، وقلت " وتسريح بإحسان " وصمت - أحيانا أبدو المسلم الوحيد في هذا العالم ، وأحيانا يبدو لي أن العالم الإسلامي بلا مسلمين - .
ويبدو أنني وأنا في ألمانيا نسيت أنني من نابلس التي لم تنس ولا تنسى أن ابن المدينة ، حتى لو كان في ألمانيا ، يظل ابن المدينة فهو منها وفيها حتى لو كان في آخر الدنيا ، وهو ما ذكرتني به زوجة الدكتور نبيل بشناق الألمانية ، حين التقينا في بون في غرفة ابنتها ، وهو ما قالته لي أيضا الأستاذة المشرفة حرفيا :
- كيف ستعود إلى نابلس ويقال عنك هذا الذي يقال؟
بعد أن غادرت العائلة حضرت نابلس كلها إلى المدينة التي أدرس فيها ، لتعرف سبب الانفصال ، ولتعرف ماذا أفعل هناك في ليالي الشتاء الحزينة قاسية البرودة ؟
أخبرتني أمي عن إعلان في الجريدة وأرسلته إلي يزعم أصحاب الدعوة فيه أنني مجهول مكان الإقامة ، وفيما كان موزع البريد يضع الرسائل في صناديق البريد ، وأنا أتابعه ، لفت نظري مغلف رسالة مكتوب بخط عربي رديء مرسل إلى جاري العربي .
لم يدخل ساعي البريد الرسالة جيدا في صندوق بريد الجار ، فتناولت الرسالة وعرفت الحكاية ، وعرفت أن أخباري كلها تصل إلى فلسطين والأردن وأن وكالة أنباء رويتر تبثها أولا بأول ، وأن العرب اكتشفوا الماسنجر والفيس بوك قبل اختراع الغرب له ، وأن الغرب أفاد من حياة العرب في الاختراع .
حكايتي في ألمانيا عموما أفرغتها في رواية " تداعيات ضمير المخاطب " في العام 1992 ولقد مللت من تكرار الخوض فيها ، فلقد صارت مملة جدا لي ، ولكن الآخرين لا يملون من متابعتها ، فهي تبدو لهم مثل مسلسل تركي أو مثل مسلسل باب الحارة . إنهم يتابعونها بشغف ، وما يحدث في شرق المدينة يعرفه ، في اللحظة نفسها ، سكان غرب نابلس ، وهو ما قلته مرة للمرحوم الدكتور محمود عطالله الذي وافقني الرأي وقال لي :
نعم . هذا صحيح ، فحكايتك تجري على لسان أهل المدينة كلهم .
وأنا صرت أكرر ما كتبه محمود درويش في إحدى رسائله إلى سميح القاسم :
- إن التقيت بالسيدة كاوفمان ، فقل لها اللعنة على سارة وهاجر .
والسيدة كاوفمان شاعرة يهودية من القدس التقى بها الشاعر في هيلسينكي وقرأا معا قصائد عن القدس .
وصار في الأمر تورية ، ولطالما كرر الناس وهم يلحظون صمتي ، إزاء ما جرى معي ، كلمة " أهلين " ويقصدون أن الحرب هي بين عائلتين ؛ بين أهل سارة و أهل هاجر .
في بامبرغ اختلطت الأمور كلها ؛ الشخصي والعلمي وسارة وهاجر وأبناء الضفة وأبناء مناطق 1948 وخلافات الأساتذة والطلاب ، ودخول مانويل ابن كفار سابا على الخط ، وأهل سارة وأهل هاجر ، وأنا كنت أواصل حياتي في ظل هذه الفوضى .
هل كنت أنا من يكتب رسالة الدكتوراه ؟
ماذا كنت أفعل في الليالي؟
هل كنت أقرأ أم كنت أسهر في البارات مع الصديقات الألمانيات ؟
كان جاري العربي يتردد علي وكانت أيضا زوجته تتردد علي ولم ألتفت إلى الخلافات الطارئة بينهما بسبب السيدة الفرنسية ( دومنيك ) .
غالبا ما كنت أقفل باب شقتي على نفسي لأقرأ ، وقلت لجاري إن أتيت فاكبس الجرس ثلاث كبسات لأعرف أن القادم هو أنت .
في بداية تشرين الأول من العام 1990 ابتعثت جامعة النجاح الوطنية كلا من الطالبين حاتم الكخن وسائد الكوني إلى ألمانيا ليواصلا الدراسة ، وقد أخبرني سائد أنه وحاتم يدرسان اللغة في مدينة ( مانهايم ) ، ولما كنت وحيدا ، وكانت أستاذتي المشرفة حصلت على إجازة علمية لمدة فصل قررت أن تقضيه في القاهرة ، عقدت النية أن أسافر إلى ( بون ) وأنفق الفصل الدراسي هناك ، فأحضر محاضرات البروفيسور ( ستيفان فيلد ) والبروفيسورة ( آنيماري شيمل ) ، وفي طريقي إلى بون عرجت على ( مانهايم ) وقضيت ليالي قليلة عند سائد وحاتم ، وغادرت على أن يزوراني لاحقا في بامبرغ . وهو ما كان ، فقد زارني سائد في فترة أعياد الميلاد ، وحين انتهيا من دورة اللغة وانتقلا إلى المدينة التي سيدرسان فيها ، في آذار من العام 1991 ، مرا علي في ( بامبرغ ) ليقضيا بضعة أيام في ضيافتي . وقد أعلماني أنهما سيصلان إلى المدينة عصرا ، ومر الوقت ولم يأتيا ، وعندما اقترب الوقت من العاشرة ليلا أغلقت على نفسي شقتي .
في الواحدة فجرا كان ثمة رنين جرس كنت أصغي إليه ولا أفتح ، وهذا سلوك مارسته أحيانا مع طالبة ألمانية .
فجأة أخذ الزائران يدقان الباب الدقات الثلاث ، فظننت أن القادم هو جاري العربي وفتحت الباب .
في إحدى قصائد مظفر النواب يهجو الشاعر أنظمة القمع العربية ويذهب إلى أن هناك تنسيقا سريا بين أجهزة الأمن وكلاب الشرطة الأجنبية .
دقات الباب الثلاثة قالت لي إن هناك تنسيقا ما بين جهات عديدة ، وعرفت أن ما يجري في شرق نابلس لا يعرف فيه أهل غرب نابلس فقط ، وإنما تعرف فيه الممثلية الفلسطينية في ( بون ) ووزارة الخارجية في ألمانيا .
مرة سرت مع السيد عدنان عبدالله مدير مخيم بلاطة وسألني عن صحتي ، فأخبرته أنني مصاب بداء السكر ، فقال لي :
- مصاب بداء السكر فقط ! احمد ربك أنك مصاب به فقط . شخص آخر غيرك كان الآن في عالم آخر .
بعد سنوات أخبرني أحد طلابي أن مشكلتي تكمن في المقاطعة .
قلت في حلقة سابقة إنني في موضوع شخصي سأكتب بقليل من حذر .
لو لم تتدخل الجامعة والفصائل في حياتي الشخصية ، ولو فصلتني الجامعة في حينه لربما كان في الأمر خير لي وللجامعة ، ولقصة الفصل حكاية أخرى عرفتها في العام 1991 من الصديق سامي الكيلاني ، ولعلني ابدأ الحلقة 17 بها .
" إن التقيت بالسيدة كاوفمان ، فقل لها اللعنة على سارة وهاجر " . هل في العبارة تورية؟
يتبع الجمعة القادمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى