سعود آل سمرة - الليلة الأخيرة ..

الليل في هذه البقعة يجثم على كل شيء، بعد أن كان يسري ببطء، صار ثقيلاً بارداً يشي صمته البهيم بأشياء مخيفة، استشعر وجودها تختبئ بالقرب، أعلم أنها تتربص لخلق ارتباك ما في جسد الزمن المتبلد، لينفلت من عقال السكون إلى المجهول، دون أن يضع لموعد رحيلي نافذة بين أحداثه.
أحس برعشة باردة، حين أتخيل حدثاً مدلهماً يدب بين الظلل، ينسلّ من غبش الظلمة الملتبسة، وتهمس الريح متنبئة بشيء وشيك الحدوث يتكوّن في عمق الوحشة، يخنق المكان برمته.
أتوق للخروج فوراً من نفق مظلم، ما يزال يختبئ في نفسي، وتندس فيه أحلامي وهواجسي، يتجسد على شكل هوة سحيقة، تلتهم كل ما حولي، وأنساق فيها بنهم كطائر خفاش نزق، مرد على العيش في أعماق الظلمة.
هذه البقعة من العالم يحفها الغموض، مثلما هي محاطة بالمفاجآت، والحياة فيها مراهنة على هامش حظ ملتبس، إن لم يظل يقظاً فسيستلني القدر بمهارة، وليس لي إلا انتظار ثقيل، في جوف ليل لا نهاية لدائرته الهلامية المشبعة بالصمت والحيرة، بحيواته الغريبة المعشعشة في طيات الظلام، وزمن لا ينضبط بمنطق، ولا ملاذ فيه إلا بالحذر والتخفي، بالانكماش في حيز محدود يضيق ويتسع حسب الظروف.
مشاهدات كثيرة وملتبسة يتم رصدها بين فينة وأخرى، تؤدي في الغالب إلى رفع حالة التوتر، فترتفع حرارة الجسد، ويتضاعف النبض، وتزداد دينامية التنفس، ليتسلط على الجميع شعور غريب، مشوب بقلق وخوف يعتركان بين العظام واللحم وحول المفاصل، حتى يكاد بعضها يتملص من بعض.
المكان معد بشكل يقلل الضرر الذي يمكن أن يطاله من أي مفاجأة، وينفتح على جواره بطريقة تسمح بدخول الهواء وخروجه بسهولة، إلا أن الخطر ما يزال محتملاً مع توقع مباغتة ما، مما يجعل الحيز الصغير يضيق بالتدريج، فيشعرني بانطباق الجدران الأربعة، وتضاؤل المسافة بينها حتى أفقد القدرة على الحركة تماماً.
بالرغم من قسوة الحال، إلا أنني لا أنفي أن هذا الوضع الصعب، يدفعني باتجاه تقليل الحركة إلى أدنى قدر يسمح باستمرار الحياة، في هامش من الحد الأدنى للبقاء لتقل نسبة المخاطرة، مع تشديد سلوك الحذر وتطبيق تعليمات السلامة بصرامة.
أرقب التحركات الليلية للكائنات الحية، والأشباح في المنطقة المحرمة، هذا الفراغ الفاصل الذي ينظر إليه من كل الاتجاهات المحيطة كموطن لخطر قادم في أي لحظة، ينبت فيه شبح الخوف دون مقدمات، ويتواصل على صعيده تسجيل الملاحظات المريبة، من خلال وسائل الرصد، حتى إن معركة عرضية، قد تنفجر وتدوم لساعات طويلة من الليل، تصب خلالها النيران على هدف محتمل من أجل تحييده، ليكشف الصباح عن جثث قطيع من ذئاب، وبعض الثعالب والضباع، تسبب تواجدها في المكان الخطأ بإبادتها جماعياً.
أعبر لرفيقي عن أسفي، لمجزرة الوحوش البرية تلك، فيجيب بسرعة : هذا مؤسف! لكن اعلم أن أي دقيقة إضافية، للتحليل والتأني قد تكون فرصة العدو ليفقدنا زمام المبادرة، لذا يجدر بنا أن نبدأ فوراً دون انتظار.
بمضي الساعات يغمرنا الظلام تماماً مع الحد من وسائل الإضاءة، باستثناء سيجارة زميلي التي ما يزال يشعلها من وقت لآخر، وأضواء شاشة جهاز المراقبة الذي يخترق بعينه السحرية غبش الرؤية، ليظهر ما خفي في مهجة الليل، ويرسم الدهشة، في وجوه قلقة، تترقب بانتباه حاد وتصارع السهاد بقوة.
عيون ثعالب تومض فوق أكمة بعيدة، أرانب برية تمرح بين شجيرات قريبة، حيث تظهر أرنب صغيرة وتختفي لتخرج أخرى أكبر حجماً، فئران تتقافز على قصعة جحر صغيرة يباغتها قط بري، ونيص ينسل بسلاسة بين أعواد (الشوحط)، في البداية كانت سيقان الحرج تتحرك بشكل مخيف، مما جعلنا نتأهب، وبعد تسارع النفس وانتفاخ الأوداج، يهدأ التوتر، بمجرد خروجه ببلاهة، يتحرك بمحاذات الجدول، كقربة متأرجحة على ظهر ساني مترنح في ثنية منهِكة، لينال ما يستحق من شتائم.
الهدوء الحذر يعد فرصة لعمل شَيْء ما، تناول الطّعام مثلاً يعد مناسباً في مثل هذه اللحظات، وتفقد الجسم بمعالجة التقرحات والآلام التي تبدأ فوراً بعد الإحساس بأي فترة راحة وارتخاء للعضلات، لحظات قصيرة قد لا تزيد عن الدقائق الخمس.

أحد الرفاق من موضع قريب، يكسر الصمت، يرسل نداءً عاجلاً، بشكل هامس، يطلب التأكد من حركة غريبة في المنطقة الفاصلة، بين مكان تموضعنا ومطرحه، يتحدث عن تحركات مريبة، ويطلب تقريراً سريعاً عنها، وبمجرد تحريك العين السحرية باتجاه موضع المشاهدة المعني، تظهر مفاجأة غير متوقعة، الْتَقَطت جهاز النداء بسرعة، لأهمس بصوت متوتر، ملؤه الخوف والتشنج، معبراً عن وجود نمر متمترس على فرع شَجَرَة.
أجاب صديقي قبل أن ينقطع التواصل معه (نمر نمر يانمر! أنت متأكد!... النمر النمر! ما غيره )..
(نعم نمر نمر يا نمر! بحجم ثور!) وسكت الجميع! عمّ صمت رهيب.

دوّى صوت مروع بالقرب، أربك الهدوء، تلته هزة مشابهة في الجهة الأخرى، وارتجاجات مروعة لا تنقطع، هرعت في الأثناء أصغر جسمي، وأتكور في مكاني مثل : قنفذ لمس للتو اقتراب خطر، أخيراً حدث ما يشبه الزلزال وخسف بنا.
في البداية، رأيت وميض ضوء، وأحسست بحرارة شديدة، ثم اختلط الصراخ والضجيج وامتزج الظلام بدخان كثيف يكتم الأنفاس، وجدت بعدها فمي محشواً بتراب خشن، قبل أن أفقد الوعي.
لم أعد أشعر بشيء حتى جسدي، أحاول تلمس أطرافي دون طائل، أصبحت جامداً تماماً، لا أر، ولا أسمع كي استبصر الحال التي كنت فيها، حالة سائلة بين الصحو والنوم مصحوبة بخفة غير مفهومة، كأن روحي فراشة ترف في فضاء رحب، أو غصن لدن يخفق على فند شجرة يذهب مع الريح ويجيء، وفي النهاية ألفيت نفسي تتدفق في اغماءة دافئة.

الزمن أصبح سائلاً ومرتبكاً بشكل حاد، لا يمكن تقديره بوحدة زمنية، كأني أحلق في فراغ ناعم خارج حدود المحسوس، يحتويني بغموض وتتداخل أجزائي بين جزيئاته. كان جسدي محفوفاً بعناية أناس لا أعرفهم، محمولاً على آلة مسطحة - صحت يا الله هذا أنا.
وتملكني اليأس لأن الصرخة خذلتني ولم تدوي كما كانت تفعل من قبل؟ حين يعود صداها رجعاً بعد أن تبلغ مدياتها بين الجبال والجروف بالقرب.
وجدت ذاكرتي تمخر عباب محيط من صور غامضة وملتبسة.
كأني أترحل على ضفاف وادٍ أخضر يزخر بالحياة، وتعلوه أسراب طيور مهاجرة، توشك أن تحجب الشمس وتختفي في أفق بعيد، تحت قبة سماء قرى متناثرة، على صفحة أرض شاسعة مشوبة بالتلال والكثبان وسهوب مزدحمة بالبدو، يمكن التمييز بينهم بطريقتهم في بناء بيوت الشعر وأشكال سدو نسائهم.
أرى رعاة يتبعون قطعانهم بصبر، بدو متآلفين بعد أن تحسنت أحوالها، وثمة أشخاص بالقرب بوجوه شاحبة، يحيطون بشاحنة فورد حمراء موديل ستين، يتجادلون مع السائق بحدة بشأن أجرة الرحيل.
أرى وجوه أطفال، رجال، نساء، أعرفهم، أحبهم، ولا أتذكر أسماءً لهم، بينما تستفزني ابتساماتهم الشفافة...قلت لنفسي، إنها النهاية، كل شيء عند نهايته سيعود لبدايته.
أحسست بالاطمئنان بعض الشيء على جسدي المحمول إلى حيث لا أعلم، هكذا همس لي روعي المذعور: لعلهم رفاق جاءوا لنجدتك، ولكن إلى أين يتجهون بجثتي الممرغة بالتراب والدم؟.
بعد قليل من التحليق في فضاء ملتبس، دهمت عيني غشية مع اصفرار باهت، حين انبثقت أشعة الشمس واتسعت دائرة الصبح، كنت حينها أرفرف كطائر صغير نزق، لم أعد أميز بين الأشياء.
بلغ الصباح ذروته، وحركة الرفاق الذين تكلفوا حمل جسدي تزداد تسارعاً على إثر ضجة شديدة، تشبه دوي طلقات نارية، مصاحبة لانفجارات متتالية، انطفأ معها وهج الحياة.
فجأة أحسست بضيق يعتصر رئتي، كأنني أتنفس من أنبوب ضيق، أجاهد بإصرار لتحريك عيني المغلقتين، أناضل في محاولات فاشلة لفتحهما، أخيراً أحسست بيدي ممسكة بطرف هيكل معدني لسرير، فسارعت برفعها كي ألمس خدّي، أريد أن أشعر بوجهي بين أناملي، بينما ينهكني عطش شديد يفطر كبدي.
بدأ جفناي أخير بالارتعاش، ويتحركان ببطء، ألحظ بقعة نور صغيرة تتسع شيئاً فشيئاً، ليسطع دفعة واحدة في انفجار ضوئي مؤلم، عالجته حتى خفت وهجه، لينزاح عن مجموعة وجوه متألقة حولي، كان أول ما أدهشني وجه امرأة بيضاء بزي أبيض ناصع، ناغشت صورتها الأنيقة، فكرة طوباوية مختبئة في عقلي، لكن حين اتسع النظر بدت إلى جانبها وجوه أخرى تبشر بالكآبة.
فتبددت الفكرة المختزلة سريعاً، حين اصطدمت بملامح إناث ورجال بعضهم مبتسم، وقليل منهم منشغل بتضبيط الأجهزة وملاحظة قراءاتها، أسمع أصوات هذه الآلات تتناغم مع دقات قلبي، بينما أتأمل تلك الوجوه بلهفة، وحالما انتهوا من ملاحظتها، طرقوا بابتسامات مطمئنة، نحو وُجوه منشغلة هي الأخرى بالكتابة.
سمعت أحدهم يقول:
أيها الزملاء لقد أفاق وفارق غيبوبته الطويلة، وانقطع صوته بزغرودة ممرضة سوداء، كانت تمسك بيدي، ضج بعدها الفرح والتصفيق ولم ينتبه أحد لمعاناتي وأنا أحاول تحريك لساني المتعفن في تجويف فمي.
أنادي بأقصى حد ( ظميان، ظميان) وانتبهت لإفلاسي من استماعهم إلى ندائي، حين لم يتأثروا بمعنى صوتي الحزين الذي يقيناً لم يَصِل، لأن لساني المتخشب، لم يتحرّك كما يجب، ليهز أوتار الصّوت الجامدة فيسمعوا..

* عن نادي القصة السعودي

سعود آل سمرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى