صابر رشدي - جولات "س ع".. قصة قصيرة

بدأ فورانه اللاهب مبكرا، وظهر جنونه بالنساء مع أولى تحولات البلوغ. كانت التغييرات البيولوجية تدق بابه عنيفا،وهو يستجيب مستريحا لهذا العالم الجديد، مرهقا جسده فى خيالاته الملعونة. قبلها أيضا، وفى صباه المبكر كان جريئا، يجيد الإستماع إلى الحكايات العاطفية، وسرديات الجنس التي لا تنتهي .عندما يحصل على قرش صاغ من أحد والديه، يجري مسرعا إلى أقرب دكان بقالة، يشترى حلاوة طحينية، ثم يقوم بالتهامها دون خبز. كنا نضحك، لإننا نعرف سر إدمانه عليها، فقد كانت طعاما مشبوها، يقبل عليه المراهقون كغذاء تعويضي، يعيد ماتم تفريغه خلسة فى دورات المياه.
هذا الهوس المبكر، جلب له، ولأسرته، متاعب لا حصر لها. إنه لاينسى إحدى هذه النتائج الكارثية، عندما تعرض لصبية معتوهة مستغلا مرضها العقلي، وحالتها التي تستحق الرثاء، متغاضيا عن جسدها الهزيل، هذه المسكينة التي استطاعت أن تشي به –على طريقتها- لدى والدتها .
الأم من جانبها، أبلغت أبناءها الذين تلقفوا الأمر بغضب، وقاموا بتمزيقه على نحو لا شفقة فيه، فقد كانوا من أشرس الشباب، والأكثر ضلوعا فى مشاجرات ومعارك، كنا لانعرف لها أسباباً محددة، ماجعله ينصرف عن التفكير نهائيا فى فتيات المنطقة. حينها، تطلع إلى أماكن بعيدة، وسائل مبتكرة. كان طموحا، راح يطرق هذه الأبواب مسلحا بأفكار جنونية، مختزنا كل الحكايات المثيرة التي كان ينصت إليها باهتمام، حاسدا أبطال هذه القصص المشحونة بالمبالغة والتهاويل

على غير عادة صغار السن، إنطلق إلى أحد الأوكار، حديقة شهيرة لا يستغرق الوصول إليها وقتا طويلا، البغايا بالداخل، والقوادون يقومون بتسهيل الأمور خارج الأسوار، جوار أحدهم إمرأة جميلة، أنثى بملامح مغوية، مختارة بعناية، رسمت على ملامحها إبتسامة موحية، بعدما لمحت الرغبة فى عينيه، إستجاب من فوره، واقترب منها سعيدا برجولته. بادره الرجل .
- تعال.
في قفزة واحدة كان أمامهما.
- ماذا تريد؟
استجمع شجاعته ووضعها في هذه الجملة .
- أريد هذه .
في صفقة سريعة استجاب المارد ذو الناب الفضي، ترك المرأة تخترق معه الأدغال الغامضة، سار رفقتها، وهو يسترق النظر، غير مصدق. " هذه المهرة ستكون لي في غضون ثوان، سأجعلها أسيرة لي، تبحث عني فى كل مكان، وهي التي ستنفحني المال كي تحصل علي " . كان يحث الخطى موغلا فى أحلام اليقظة، متعجلا إنفراده بها.
عند خص متوارٍ بين أشجار كثيفة، أشارت المرأة بالدخول، طالبة منه نقودا، كاد يعترض، لكنه لم يرد أن تفشل المغامرة، أعطاها على مضض، واستغرب أن يكون الدفع مقدما. ثم ولج المكان سريعا وغير مرتاب، مستمتعا ببسالته، متمنيا في هذه اللحظات أن يكون معه جمع من أصدقائه، ليريهم كم هو جرئ، ومقدام، يطأ أماكن لا يستطيعون الوصول إليها دون مخاطرة، وقنص إمرأة فاتنة وحده، التعساء الذين ركزوا غرامياتهم في بقعة صغيرة، وعدد قليل من البنات المغرورات، ولا يملون الحديث عن بطولاتهم تحت درج البيوت المظلمة ، أو العليات المهجورة، المكدسة بالاثاث المحطم، والأشياء المستهلكة .
في ثوان، كانت امرأة أخرى تقف قبالته، شعر بالرعب عندما حدق فيها جيدا، إنها أقرب إلى رجل دميم، مريض بالسل، أسنانها صفراء، وطلاء ثقيل يلطخ وجهها .
ارتج عليه الأمر.
-أين المرأة الأخرى؟
-تقصد المعلمة ؟ ...لقد انصرفت . قالت وهي تقترب منه خالعة ملابسها، قطعة، قطعة. كانت مومياء، بأثداء كلبة، كل شئ فيها دميم ومنفر .
أخذ الامتعاض يسيطر عليه، شاعرا بمغص حاد, إلتصقت به المرأة الشائهة، وراحت تقبض عليه بعصبية. لم يظهر عليها الإخلاص في مهنتها، قدر إحتياجها لمن يطفئ نيرانها، بدت غير مرغوبة، يزهدها الزبائن، وربما فروا هاربين دون تفكير في العودة مرة أخرى. إنهار أمامها، وقام بإفراغ معدته عندما نفدت إليه رائحة عرقها، وبكى بحرقة كي تتركه ؛ لكنها هددته بإحضار القوادين، شاكية لهم، بأنه حاول اغتصابها.
حاول مكرها، لكنه لم يستطع، فرت الرغبة، ولم تسعفه شهوته المتقدة، وجعل يفكر في وسيلة للهروب. أخرج كل النقود المتبقية معه، ناولها كل ما في جيبه، كي تطلق سراحه، مبلغ كبير مقتصد، جعلها تقرر التغاضي عن جوعها الجنسي، وتتركه في النهاية حرا طليقا، دون مليم فى جيبه .
أبعدته هذه التجربة الأليمة عن معاودة التفكير مرة أخرى في هذا العالم السري، المشحون بالمفاجآت واللامتوقع، لكنها لم تمنعه عن سعيه الدائم وراء اللذة . فقد لاحقته هذه النوازع، وواصل معها التفكير في وسائل مغايرة أكثر أمانا، ولا تحتاج مبالغ طائلة، عالم يتم فيه كل شيء مجانا، وبلا مصروفات تذكر. إنها المركبات المزدحمة, التي يتكوم داخلها البشر، أكداس من الرجال والنساء، كتلة واحدة، تواطؤات، وإكراهات، مضايقات تتعرض لها الإناث العائدات من أعمالهن، منهكات، مستهلكات، غير قادرات على العراك بعد يوم عمل شاق .
كانت هناك أتوبيسات معينة تشتهر بازدحامها، وحمولتها الكبيرة من البشر؛ راح يستطلع الأمور يوما بعد يوم، أوقات الذروة، والخطوط المكتظة بأكبر عدد من الجنس الأخر، حتى أصبح خبيرا فى هذا الأمر. كان عدد الحافلات قليلا في ذلك الزمن، لا يفي بحاجة المواطنين، ولم تكن ثمة سيارات أجرة صغيرة الحجم (ميكروباص) قد انتشرت على هذا النحو . الأتوبيسات. عذاب متحرك، ترتكب فيه كل الجرائم، نشل، سرقة بالإكراه، تحرشات فجة، محاولات التصاق الرجال البغيضين بالنساء إلتماسا للمتعة، عرق حامض، عبق أنفاس كريهة، إذلال يومي، أزمة إنسانية يعاينها أهل المدينة، ذهابا وإيابا . كان " س ع ". مقتحما شبقا، لا يستطيع ترويض طموحاته، يصعد، لايتوقع الرفض أو الممانعة، أو إنفلات إحداهن فرارا من تصرفاته. لكن المشاكل بدأت في الظهور مبكرا، وقوبل بشراسة لا نظير لها. لكنه، كان متبجحا، لا تصلح معه وسائل ردع عادية، كان يقضى معظم يومه هناك، حتى تم حفظ ملامحه، وبدأت السيدات والفتيات، العائدات إلى بيوتهن يتجمعن متكومات في حلقة محكمة، يتحاشين إقترابه منهن، كن يبدون كدجاجات مذعورات أمام ثعلب متنمر يتحين لحظة الهجوم، مثيرات للشفقة يكتمن غضبهن، وغيظهن، عندما يرينه يجول بعينيه النهمتين، باحثا عن مؤخرة دافئة في هذا الزحام، لا مباليا بالنظرات المتربصة.
في ما بعد إلتحق بوظيفة صغيرة، محتفظا بهذه الهواية، مخلصا لها، يمارسها بلا إنقطاع، متحملا مردودها الفادح، يعود إلى بيته مضرجا بالدماء، ممزق الثياب. أو يذهب إليه أحد أفراد أسرته، لاستلامه من أقسام الشرطة، بعدما تتجرأ إحداهن، مصرة على عمل محضر له. كانت مشاكله تتفاقم، والضرب لا يمنعه عن المواصلة.
أمام هذا الوضع المأساوي، وفضائحه المتصاعدة في المنطقة، تلك التصرفات التي أذلت أعناق أقاربه. إجتمعت العائلة، وأتخذت في هذه الأزمة قراراً فريداً، وعبقرياً: شراء دراجة بخارية، يذهب بها إلى العمل، ويقضى مصالحه، تم تجميع ثمنها من الجميع عنوة . كان حلا ناجزا في حقيقة الأمر، جادت به عقلية فذة في لحظة تجل. لكن هذا التيار المتدفق، الذي يسري في دمائه بما يشبه الإدمان، تحت وطأة سحر اللحظات السعيدة، التي يقضيها عبر الطرقات، بحواس نافرة، تخطفه الروائح المتصاعدة، والأجساد المحشورة بالداخل. جعلته يترك الدراجة البخارية في أي مكان، متابعا نزواته، متيما بالأرداف، مجنونا بأي تكوين مدبب يلوح له من بين فرجات الأجساد، حتى طبقت شهرته الآفاق، وذاع صيته، ليتصاعد أمره بعدها واصلا إلى قيادات الأمن، الذين أصدروا الأوامر باعتقاله، مجبرين إياه على توقيع تعهد على نفسه، بعدم الصعود إلى أي وسيلة مواصلات عامة، وكإجراء إحترازي تم طبع صورته على بوسترات كبيرة، تم لصقها داخل المركبات، وقد كتب تحت صورته : "من يجد هذا الشخص داخل الحافلة، فليقم بتسليمه فورا، وله مكافأة مجزية ". مع مرور الزمن، صار فريسة لسوء الحظ، يطارده الفشل، قاضيا على أسطورته كأكبرمقتحم باصات فى تاريخ العاصمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى