شهادات خاصة أحمد الشَّهاوي - محمد عيد إبراهيم .. الشَّاعر الذي نسجَ كفنَهُ من " كَتَّان الآلهة"

" أتعلّقُ في فراغِ العسل
وأنمو بحياتي العاديةِ، أبترُ ذكرياتي
وفاتَ أوانُ الصلاةِ
على موتي القادمِ، عندَها، كطُرفةٍ. "
محمد عيد إبراهيم ، بطبيعته كان أبًا يحنُو ، ويرعى ، ويُؤسِّسُ ، ويكشفُ ، ويخوضُ أيَّ مُغامرةٍ حتى النهاية ، دُون وجَلٍ أو اعتبارٍ لآراء مُعارضيه أو مُخالفيه أو من جماعته ، أو من أحد مُجايليه ، الذي روَّج عنه غلطًا أنه شاعرُ إبطال الدلالة ، وقد كان محمد يبتسمُ منزعجًا في داخله ، ساخرًا من مقولة هذا الشَّاعر ، لكنَّها للأسف كانت قد شاعتْ وانتشرتْ مثل أيِّ شائعةٍ في الوسط الأدبيِّ ، حيث عاش محمد عيد إبراهيم معرُوفًا – حتى دُون قراءةٍ – بأنهُ غامضٌ ومُلْغِزٌ ، وصعبٌ ، وغير مفهوم ، على الرغم من أنه قدَّم أعمالا كاشفةً بعد ذلك ، ولكن يبدو أنَّ لا أحد من الشُّعراء يقرأ ، أو يتابعُ حتى ما يصدرهُ المقربون ، والأصدقاء ، والمجايلون .

كان محمد الذي عرفته منذ بداياتي الشعرية أبًا روحيًّا ، سهلا وسلسًا ومتحدِّثًا وقارئًا من طرازٍ خاص ، ومن وزنٍ ثقيل ، ليس من مُنطلق الزعامة كما فعل آخرون ، ولكن من مُنطلق الأبوَّة الرُوحية ، وربما كان إدوار الخراط الأنموذج الأمثل له وأمامه ، حيث كُنَّا نلتقي عنده جميعًا من مختلف الأجيال في بيته بالزمالك ( 45 شارع أحمد حشمت ) ، وهو عنوانٌ لم ننسه أبدًا ؛ لأنه كان أحد الأسباب في توطيد الصداقة بيني وبين شعراء وكُتَّاب كثيرين في مصر .

محمد عيد إبراهيم كان عندي ( وما أشق على الروح أن تكتبَ الآن بالفعل الماضي ؛ لأنَّ محمد حاضرٌ فيَّ بقوَّة ) مثل مُجايليه الذين نزعوا إلى الأبوَّة الرُّوحية في جماعتيْ أصوات ( محمد سليمان ، وأحمد طه تحديدًا ) ، وإضاءة ( حلمي سالم ، وماجد يوسف ، وجمال القصَّاص على وجه الخُصوص ) . و" جماعة (أصوات) كانت تسعى لأن تتخفّف من القيم التراثية في ال شعر أكثر من جماعة (إضاءة)، لكن هذا المسعى توفّق عند بعضهم، وأخفق عند آخرين، والعجيب أنهم في النهاية قد كفّ البعض عن اللحاق بالجديد في الشعر ولم يعد يواكب، بينما واصل البعض في محاولة منهم لخلق ذات إبداعية تعاصر الزمن، والزمن مفرمة لكلّ تقليد إبداعيّ، إن لم تنتبه، فقد تصبح كمن جاء إلى العُرس وجلبابه متّسخ وبنعل مهترئ، أو كمن جاء بعدما أنجبت العروس أو ماتت." – محمد عيد إبراهيم في حواره مع محمد حربي ، بوابة الأهرام ، 11 من فبراير 2018 ميلادية .

وربما توقف بعضهم ، أو تخلَّى ، أو انشغل عن دور الأبوة هذا ، أو كفر بالدور الذي كان يقوم به متعللا بأن لا أحد يستأهل أو يستحق ، لكن ظل محمد عيد إبراهيم يؤدِّي دورَه بانتظامٍ ودأبٍ واستمراريةٍ في الانتصار للنصوص الشعرية الجديدة للشُّعراء أينما كانوا ، وقد ساعدته الميديا الحديثة في أداء واجبه الرُّوحي ، الذي عاش مؤمنًا به في مؤازرة الأحدث ، ودعمه والترويج له .

كما ساعده أنه كان أحد اثنين في جماعتيْ " إضاءة 77وأصوات " ممَّن درسوا الصحافة في جامعة القاهرة ، الأول هو حلمي سالم ، الذي عاش صحفيًّا محترفًا طوال حياته ، بينما محمد عيد إبراهيم - الذي يصغر حلمي بأربع سنوات –عمل مدرسًا للغة الإنجليزية ، التي كانت سببًا رئيسًا في أن يتجه نحو ترجمة الشعر بشكلٍ أساسيٍّ ، وأنجز ترجماتٍ كثيرةً في الفكر الأدبي والرواية ، وفي كل نتاجه كان ينحازُ إلى الجديد والطليعي في الكتابة ، وكانت لديه ثقةٌ نادرةٌ في ذاته ، ولديه إيمانٌ عميقٌ بما يقدِّم ، ويطرح ، ويفكِّر ، ويخطُو في مسيرة حياته الشعرية ، ولم يأبه بما يُقال أو يُكتب عنه ، فكان عارفًا بما يفعل تحمله مقولته الأشهر " ضرورة ألاّ يكتبَ المرءُ ما لا يعتقدُ أو يكون ضدّ نفسه ". و " يهمُّني أن أناقضَ السَّائدَ والرائجَ والشَّائع الذي كنتُ ولا أزال أنفرُ منه، بخاصَّة في تعامُلي بأناقةٍ مع اللغة ، وسط الشكل ومُناهضة المعنى المبسوط، فالانتهاك أهمّ أسُس الكتابة عندي، جماليًّا ومعرفيًّا."
" ستُعلنُ الصحفُ رحيلي،
...
كهاربٍ من قَمرٍ، كلُّ رغباتي
أن أستريحَ إلى غِناءِ "
عاش محمد عيد إبراهيم (1955 – 2020ميلادية )
أبيًّا ، جسُورًا ، مقاومًا بالكتابة والقراءة ، مُجرِّبًا ، ومُشكِّلا ، زاهدًا إلا في أن ينهم الكتبَ ، ويذهبَ نحو الذي يبقى ينير رُوحَه ، ويثير مُخيِّلته ، ويتجادل مع عقله المنفتح على آفاقٍ وشعرياتٍ متنوعةٍ ومختلفةٍ ومغايرة .

كان محمد مُقلًّا في الكتابة ، مُتأنيًّا ، ذا خطٍّ أنيقٍ أحبه وأفتقده ، وفي زمنٍ ما مضى كان يتوقَّف عن الكتابةِ عمدًا حتى ينتهي العام الدراسي ، حيثُ يكونُ مشغُولا شتاءً مع تلاميذه ، وما أن يأتي الصيفُ حتى يبدأ في الكتابةِ بشكلٍ يوميٍّ ، حتى أنه كان يستطيعُ أن ينهي كتابًا شعريًّا في مدةٍ وجيزةٍ ، وكانت تجربته هذه جديدةً عليَّ ، ولم أكُن قد عرفتُ أحدًا يفعلُ الفِعلَ نفسه سواه ، لكنه كان يكيِّفُ رُوحه بما تحملُ من زخم الشِّعر والتجربة حسب مقتضى الحال ، وبالطبع بعد ذلك عرفتُ شعراء كثيرين في العالم ينهون كُتبًا في أيامٍ أو أسابيع أو شهورٍ قليلةٍ ، إذ إنهم يكتبون كل يوم .

وقد عاش محمد مخلصًا للشِّعر ، ولتجربته ، متطلعًا نحو الإجادةِ والتجريب . ولم يستمر طَوال حياته على هذه الحال ، إذ لما تحرَّر من التدريس والدروس الخصوصية التي كانت تعينه على الحياة الصعبة ، ظل يمارسُ الكتابةَ والترجمةَ طَوال الوقت دون انقطاع .
محمد لم يكُن ينزعجُ من أنهُ شاعرٌ مقلٌّ ؛ لأنه كان يرى أن الأهم لديه أن يكتب ما يطمح إليه ويرغب ، فلا تعنيه الكثرة في شيء ؛ لأنها ليست امتيازًا ، وقد كان صديقًا مقربًا من " المقل العظيم " إبراهيم أصلان .
..
عاش محمد يقترحُ ، وينصحُ ، كنتُ أختلفُ معه كثيرًا في رؤاه الشعرية ، لكنَّني كنتُ أحبُّه ونلتقي بشكلٍ منتظمٍ على مدى أكثر من عقدين ، لم يكُن بخيلا في المنح المعرفي ، والعطاء الثقافي ، فهو يعطي بلا حساب ، ولا يتوقف عن الجدل والنقاش ، يعرف جيدًا أدب الحوار ، كما كان يؤمنُ بالاختلاف ، يعرفُ قدْرَ نفسه ، وطبيعة الأرض التي تقفُ عليها قدماه . وليس مُسمَّى صفحته الشهيرة على الفيس بوك " أنا الآخر " ببعيدٍ عن توجُّهه الذي بدأه في سن مبكرةٍ من حياته الشعرية ." كنتُ أكتبُ بشكلٍ مُغاير نسبيًا لجيلي، وهناك سخرية مما أُنشئ من نصوص، لكن دار الزمن بنا وبقصائدنا إلى أن صار ما أكتبه هو المتن، وصار غيره هامشًا ، وهي دورة الزمن التي لا يأمنها أحد."
...............
وعلى الرغم من أن محمد عيد إبراهيم هو ابنٌ للصحافة والإعلام دراسةً ؛ فإنه كان من أقل الشعراء وجودًا في الصحافة المصرية والعربية ، باستثناءاتٍ قليلة ، ولعلَّ الحوار المهم الذي أجراه أخي الصديق الشاعر محمد حربي يكاد يكون الأهم في عمقه ، وقد كان محمد عيد إبراهيم مادة صحفيةً لي منتظمة ومستمرة على مدار عقدين وأكثر ؛ لإيماني بمسيرته ، وصداقتي به فهو كما قال : أنا " ضدّ أيّة سلطة تضطهد خيالي " ، و" أنقذت نفسي من التزوير، وصرتُ نفسي كليًا، لا يهمّ أنهم وضعوني هنا أو هناك، لكني سعيتُ وقطعًا لي ذات شعر ية سيعترفون بها عاجلًا أو آجلًا. ولا أظنّ أن التاريخ الأدبيّ في مصر يستطيع أن يتجاهلني، لما قدّمت له، شعر يًا أو عبر الترجمة، من مشروعي الجماليّ، وكما يقول المتصوّفة: المهم هو الطريق، لا الوصول."

ومنذ أن صدَّر محمد عيد إبراهيم كتابه الشعري " عيد النسَّاج " الذي نُشرَهُ في أواخر سنة 2014 ميلادية بمقولة الكاتب الروائي والشاعر الألماني جوزيف وينكلر Josef Winkler : " أحبُّ أن أكون بين الموتى؛ لا يؤذونني ، لأنهم بشر في النهاية "، قلتُ : إن محمد يكتب موته ، أو على الأقل يمهد له ، ويستعد بفروسيةٍ ، لا تخلو من انكسار الشاعر الذي يستسلم لحلمه ، الذي تحقَّق بعضه منذ نشر ديوانه الأول " طورُ الوحشة " سنة 1980ميلادية ، و" قبرٌ لينقضَّ " سنة 1991 ميلادية ، ( لاحظ المسافة الزمنية بين ديوانين إحدى عشرة سنة ) .





أخبار الادب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى