أحمد الشَّهاوي - سلا المغربية التي أحبُّ..

سلا - ذات الألفيْ سـنة مـن العُمـر - المزدهرة الزاهية ، لا أحبُّ أن أعَرِّفها جغرافيًّا أو تاريخيًّا ؛ لأنَّها – بالنسبةِ لي – مدينةٌ مُعرَّفةٌ وعارفةٌ ، تقعُ في متْنِ القلبِ ، ويكفي لي أنَّها مدينةُ الأولياء والشُّموع ، والأبواب ، والزَّرَابي أو السجَّاد ، والمكتبات ، وفن الزليج ، والزليج كما أعرفُ : " قطع صغيرة من الطين المجفَّف تحت الشمس ، والمشوي في الفرن على شكل مربَّعات بأبعادٍ صغيرةٍ ملونة ؛ لتشكِّل بالنهاية زخارف هندسية متنوعة. وقد اختص المغربُ الأقصى والأندلس بهذا الفن الزخرفي ، حتى أصبح الفن الطاغي بهذه البلاد ؛ ليبلغ أوجه في صناعة الزليج التي بها زُخرف قصر الحمراء بغرناطة وقصر البديع بمراكش. وبعد سقوط ممالك الأندلس ورث المغرب مكاسب من هذه الحضارة المشرقة وصناعها الماهرين " .

مدينةٌ حفظها الدهرُ من النسيان والتداعي ، تحضنُ وتدْفِءُ المُهاجِر والفار والهارب والمُطارَد والمهزُوم إليها منذ سُقوط الأندلس ، بعدما عانت من الاحترابِ والاقتتال والغزو طَوال تاريخها المُمتد في ذاكرة الزمان.

عاش فيها الشَّاعر الأندلسي لسان الدين بن الخطيب 713 هـجرية /1313ميلادية - 776 هـجرية / 1374ميلادية ) ثلاثَ سنواتٍ بين 1360 و1363 ميلادية ، وسكنَ دربَ الشماخ بالمدينة القديمة ، حيثُ أحَبَّ التجوال فيها ، وذكَرَها في مقامة البلدان :« وهي ـ على الجُملة ـ من غيرها أوفق، ومغارمها ـ لاحترام الملوك الكرام ـ أرفق ، ويتأتي بها ـ للعباد ـ الخلوة، وتوجد عندها ـ للهموم ـ السلوة ».

ماؤها يمنح ، وأهلها يدْفُقُون
ربما لأنَّها مدينةُ الأزل ، وربَّما لتعدُّدِ الأعراق والأديان فيها ، واندماجهم في نسيجٍ واحد .
دخلتُها زائرًا مرَّاتٍ كثيرةً ، لكنَّني لم أبت فيها ليلةً واحدةً ، فربما لم يئن الأوانُ بعد ، إذْ كنتُ أبيتُ في الرباط " العاصمة المغربية " ، التي تبتعدُ عنها مسافةَ خمسة كيلو مترات فقط .
قرأتُ شِعري فيها ، ولي فيها أصدقاء أحبُّهم وأجلُّهم ، وجُلتُ في شوارعها القديمةِ التي ملأت رُوحي طمأنينةً وألفةً وهدُوءًا ، حتى تمنيتُ أن أبقى فيها طويلا ، وأنا الذي زُرتُ مُدنًا مغربيةً عديدةً .

كأنَّها المرسى الأبديُّ للرُّوح ، مثلما كانت قديمًا مرسى للنفائس والنوادر ، ودومًا مع المراسي تأتي الغرائبُ والعجائبُ ماديةً كانت أم إنسانية .

وعلى الرغم من أنَّ سلا تمنحُ مُحبَّها مفتاحَها منذ اللقاء الأول ، فإنها تبقي أسرارًا محفوظةً للقاءاتِ الأخرى ، ربَّما لجيولوجية تركيبها ، ونوم الأزمنة على وسادتها ، وتزواج اللهجاتِ واللغاتِ والبشَر .

سلا ليست مدينةً أظهرها الماءُ مُصادفةً ، بل هي مدينةٌ عانت ، وكدحت ، وحاربت ، وتصارعت ، وولدت ، ولذا كانت أمًّا لشعراء وكتَّاب وسياسيين ، ومتصوفة ونُسَّاك حتى أن كان بها زاوية تُعْرَف بزاوية النُّسَّاك . فهي «... مدينة أزلية فيها آثارٌ وأوابد» .

لقد قرأتُ كتاب " الدرة اليتيمة في وصف مدينة شالة الحديثة والقديمة " لابن علي الدكالي ، دراسة وتحقيق عبير فهد شدود ، الذي صدر في دمشق عن الهيئة العامة للكتاب ، وقد أعانني هذا الكتاب ، وغيره من الكتب ، التي كنتُ قد حصلتُ عليها من المغرب في فك ما غمُض واستغلق عليَّ ، قبل وبعد سفري إلى سلا .

سلا تلك المدينة الأزلية التي فيها آثار للأوائل ، تحب أن تعود إليها كثيرًا ؛ لتقرأ الرسوم التي مُحيت في كفِّ الزمان ، وترى الآثار الدارسة ، وتتأمَّل المقابر التي احتوت رفات الأعيان والأعلام حيث كان يأوي إليها قديمًا الأفاضل والأخيار والكُبراء ؛ لأنَّ سلا كما قال لسان الدين بن الخطيب هي : " الضريح المقدس والتربة الزكية " .

ولطالما وجدتُ هذه الجُملة في كتب الجُغرافيين والرحَّالة من أهل القلم والنظر ، أيقنتُ أن لا شيء يبقى على حاله : " معالم شالة – سلا - تطرَّق إليها الخرابُ، وامتدت الأيدي إليها بكل وجهةٍ؛ بقاعها الآن تُملك، ومآثرها تُنقل ، وأحجار قبورها تُباع، ورخامها يُسرق ويُنهب ، ومقابرها تُنبش وتُحرث " .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى