شهادات خاصة أسامة حداد - بين الظل والرائحة يعيش الغائبون

الغياب خدعة كالحياة وانتظار الراحلين يتواصل دائما، فالمسافة وهم والأحبة لا يذهبون بعيدا، وحين يختفي شاعر تدب ظلاله في الشوارع فالشاعر لا ينتهي وهذه ليست نظرة رومانتيكية أو لعبة تخيلية بقدر ما تحمل من واقع فالكتاب امتداد يواجه العبثية والعدم وصدى الحروف لا تقبض عليه البنايات أو تضرب الفؤوس رأسه إنه ينبت على حافة القمر ومحطات القطار ومقاعد المقاهي، فالفراق لا يحدث حينما أريده على أن أمد يدي إلى كتاب له وهذا يكفي لنلتقي ونتحاور نختلف بعض الوقت ونحتد قليلا لتكبر المودة وتظلل أحزاننا بالنسيج الذي صنعته يد عيد النساج.

قد تكون الفترة التي صادقت فيها محمد عيد إبراهيم قصيرة نسبيا بدأت بصورتها الحميمية مع عودته من العمل بالإمارات ومستمرة ومتواصلة إلى الآن، كان بسيطا ورحبا يعمل في مثابرة برغم أن المرض تسلل إليه وغدت عصاه رفيقا له ولم تكن عائقا أمام مشاركته في فاعليات كثيرة كان خلالها يقدم إضاءات نقدية ثاقبة ويكمل دوره هو الساعي إلى تقديم الجديد سواء في الترجمة أو النصوص العربية من خلال الصفحة التي أسسها باسم أنا الآخر عبر موقع التواصل الاجتماعي " فيس بوك " وقدم من خلالها عشرات الشعراء والكتاب العرب بلا ضجيج، كان يعمل فقط، ويرحب دائما بكل من يكتب يمارس دور الأب بتلقائية دون أن يصرح بهذا ويشعر بالأسى من سلبيات كثيرة تسود الوسط الثقافي وفي محادثني الأخيرة معه وكنت قد عرضت عليه الاحتفال به في أحدى الفاعليات فاعتذر حزينا وقال وجود عدد قليل من المشاركين مؤلم، وأضاف أنا مريض ولا اتحمل أن يكون الاحتفال بي هزيلا، وعلى الرغم من وداعته وتسامحه كان يدرك دوره كشاعر ومترجم دون التوقف أمام الحروب الصغيرة الوهمية التي تنهش الأرواح فهو واحد من شعراء السبعينات الذين ابتعدت عنهم أضواء الشهرة وتم تهميشهم في لعبة صراع متواصلة بين المجايلين – في كل زمن - لا يربح فيها أحد، فالطائر قد يكون جميلا ودائما الأغنية هي الأجمل.

ومنذ بدايته مع الشعر كان المخلص لقصيدة النثر منذ " طور الوحشة " و" قبر لينقض" إلى "عيد النساج" حيث كتب ما يمكن القول أنه سيرة ذاتية، وأخيرا مجنون الصنم أخر أعماله الشعرية، وعبر أعماله الشعرية كان يقدم نصا منتجا على المستويين الدلالي والجمالي معا ومتسعا يكشف من خلاله عن ثقافته الواسعة بلا افتعال وسؤكد قدرته كشاعر على تشكيل العالم وفتح آفاقا دلالية رحبة بتقنيات متنوعة يجمع خلالها بين ما هو سوريالي وما هو رمزي بحس صوفي أحيانا وبلغة تبدو متوحشة أحيانا وهي في جوهرها على خلاف ذلك، ويبحث عن شفيرة العالم ليفكها ويضع أسئلته في الواجهة ويعيد اكتشاف الأشياء والذات مرة من خلال التفاعل النصي الكاشف عن هويته الخلافية واستيعابه لتراث الإنسانية وتارة بصناعة أسطورته الخاصة ليكون نصه سؤالا ملحا في التاريخ وعلامة ضخمة في المشهد الشعري لا سيما قصيدة النثر.

كان دوره كمشرف على سلسلة آفاق عالمية يكشف بوضوح عن تفاعله مع الآداب العالمية وقدم إلى القارئ في مصر من خلالها أعمالا وكتابا عرفناهم من خلال إصدارات هذه السلسلة مثل هنري ميشو " أكتب إليك من بعيد" وبيسوا " نشيد بحري" وقيصر بابيخيو " قصائد إنسانية" وغيرهم فكما تعرف القارئ العربي على آن سنكستون وتيد هيوز" رسائل عيد الميلاد" وادوارد غاليانو وإيهاب حسن من خلال ترجماته وانحيازاته إلى الحداثة وما بعدها وهو من يدرك أن المترجم هو الحلقة الأضعف داخل السلسلة فحين يحظى الكتاب بنجاح يكون المؤلف لا المترجم في الصدارة وإن حدث العكس فالويل لمن غامر بالترجمة؛ التي كان يرى فيها إبداعا موازيا، ولعل كتاب أنماط قصيدة النثر من الأعمال الثرية التي تحدثت كثيرا معه حولها حيث ضم الكتاب عشرات القصائد لشعراء مختلفين في الرؤية وتكوينات النص فكانت ترجمته عملا شاقا لاختلاف النصوص على المستوى البصري والمعمار الخارجي للنصوص فضلا عن مكوناتها وأساليبها اللغوية وهذا التعدد يؤدي إلى الارتباك إلا أنه نجح بمهارة وخبرة في تقديم هذا الكتاب الكاشف عن مساحة من مشهد قصيدة النثر في العالم وهي القصيدة التي أخلص لها وسعى إلى تقديم شعرائها والاحتفاء بهم.

لقد جمعتنا المقاهي والأمسيات والشعر تحاورنا اتفقنا حينا واختلفنا أحيانا اتذكر جلستنا الأسبوعية في مقهى بوسط القاهرة حيث ظل هو أكثر الأصدقاء رحابة وقدرة على تجاوز الخلافات والبحث دائما عما هو مشترك ونقاط الاتفاق كان المثقف الذي لا يلين في رأيه ولا يخون ضميره دون أن يصطدم أو يصنع معارك لا لزوم لها، وابن البلد البسيط جدا يحمل ذكاء المصري وفطرته وروحه ويحب الحياة ويعيشها.

لنقف على أرض واحدة ونغرس المحبة في طينها بانتظار ثمارها كخطيئة هائلة في مجتمع لا يحتفي بالمبدعين ولا يقترف القصيدة لتكن حماقاتنا أكبر ومشاغباتنا أكثر لنكن أكثر جنونا ونحن نخطو فوق روائح الغائبين وطرقهم التي لا تنتهي لنستمر في سعينا نحو كتابة أفضل هي ما تعيش كما كان يقول للجميع ويحثهم على القراءة والمثابرة كمحارب عنيد من أجل التنوير يواجه الظلام والمسوخ ويضع الكلمة في الواجهة سلاما يا صديقي انتظرك ولو في مكالمة هاتفية أو حوارا على " الشات" سأقرأ نصوصك الجديدة واحتفي بما كتبت، وأرسل رسالة بانتظار إجابتك.

أسامة الحداد



* جريدة اخبار الادب المصرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى